رشيد خشانة – يحتدُ الصراع يوما بعد يوم بين الفرنسيين والايطاليين على تقاسم الكعكة الليبية، ما فسح المجال أمام قوى أخرى، أبرزها روسيا، للعمل من أجل استعادة الموقع الذي كانت موسكو تتمتع به على أيام النظام السابق. وإذ يحشد الايطاليون قوى ليبية من الشرق والغرب للمشاركة في المؤتمر، الذي يعتزمون عقده في روما الشهر المقبل، يسعى الفرنسيون إلى معاودة تقويم الأوضاع وبلورة خطة سياسية جديدة، بعدما استطاع غُرماؤهم إسقاط خارطة الطريق التي أعلن عنها الرئيس إيمانويل ماكرون، من قصر الإيليزي، في حضور أبرز الفرقاء الليبيين. وكانت تلك الوثيقة تقضي بإجراء استفتاء على الدستور وانتخابات رئاسية وبرلمانية في العاشر من ديسمبر المقبل، بعد وضع مرجعية قانونية للانتخابات، في غياب مثل تلك المرجعية حاليا.

روسيا وأمريكا

من الآثار الجانبية البارزة للصراع الفرنسي الايطالي تداعياتُهُ الكبيرة على الموقفين الروسي والأمريكي، فالأمريكيون ابتعدوا عن الملعب الليبي بسبب تعقيده الشديد، وكاد تدخلهم يقتصر على “الضربات الجراحية” الجوية التي يستهدفون من خلالها عناصر مصنفة على لوائح الارهاب، بعد رصد تحركاتها داخل الأراضي الليبية. ومنحت واشنطن بشكل صريح وعلني وكالة للايطاليين لإدارة الملف الليبي بعدما قررت الانسحاب من هذا البلد، في أعقاب اغتيال سفيرها كريستوفر ستيفنز في مقر القنصلية الأمريكية في بنغازي، والذي اعتبرته خبيرة الشؤون الليبية كلاوديا غازيني عنصرا حاسما في تعاطي الادارات الأمريكية المتعاقبة مع الملف الليبي بعد 2012.

بالمقابل زاد الاهتمام الروسي بالشأن الليبي مع تزايد الاهتمام بالمنطقة المتوسطية، وبخاصة شرق المتوسط، وسار هذا الاقتراب من ليبيا في خط مواز لتعاظم دور موسكو في الملف السوري. وعلى الرغم من أن صحيفة “صن” البريطانية، أكدت أخيرا أن رؤساء أجهزة المخابرات البريطانية حذروا رئيسة الحكومة تيريزا ماي من “التهديد الروسي الجديد في ليبيا، لأنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن القومي البريطاني”، وحضوها على اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهته، يجدرُ التعاطي مع تلك المعلومات بحذر لأن التمدُد الروسي في المناطق التي يسيطر عليها القائد العسكري خليفة حفتر، قديمٌ ومُستندٌ على اتفاقات بين الجانبين.

وقالت الصحيفة كذلك إن روسيا بصدد نقل قوات وصواريخ إلى ليبيا، من بينها أنظمة صواريخ الدفاع الجوي S300، وهذا أيضا ليس جديدا لأن موسكو هي التي ترسل السلاح لقوات حفتر، فيما تسدد الإمارات ثمنها، ويتولى خبراء مصريون تدريب العناصر الليبية على استخدامها. غير أن الجديد في تقرير “صن” هو الحديث عن وجود قاعدتين عسكريتين روسيتين في كل من بنغازي وطبرق (شرق)، تحت غطاء مجموعة “فاغنر”، وهي شركة عسكرية روسية خاصة. وإذا صحت تلك المعلومات ستكون ليبيا ثاني بلد متوسطي، بعد سوريا، تملك فيه روسيا حضورا عسكريا وتسهيلات بهذا المستوى. والأرجح أن حفتر هو من أعطى الضوء الأخضر لموسكو، التي زارها مرات عدة، لنشر قوات روسية في الشرق الليبي، في محاولة للتقليل من النفوذ الأوروبي، ولا سيما الإيطالي، الذي يعتبره حفتر داعما لخصومه في حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج.

نقطة تقاطُع

ويمكن القول إن حفتر هو النقطة التي يلتقي عندها الموقفان الفرنسي والروسي، ففرنسا دعمت، وربما مازالت تدعم، اللواء حفتر بالخبراء والمدربين العسكريين، اعتقادا منها أنه يشكل أهم سد أمام تمدُد الجماعات الأصولية في الشرق الليبي، وهو الخطاب الذي اعتمدته روسيا أيضا لتبرير تدخلها في كل من ليبيا وسوريا، مُتعللة بالحرب على الارهاب. ويسعى حفتر في هذا الإطار للحصول على ضوء أخضر للسيطرة على الغرب الليبي والتخلص من المجلس الأعلى للدولة وحكومة الوفاق المنبثقة منه، التي يعتبرها خاضعة لتأثير جماعات مسلحة.

من الصعب القول بأن الأمور في ليبيا تسير طبقا لخطوط مرسومة ودقيقة، فالفوضى هي السمة الطاغية على الأوضاع شرقا وغربا، ويعسُرُ إيجاد رابط منطقي بين المواقف والأحداث، في ظل شلل تام لمؤسسات الدولة، أو ما تبقى منها. ويُلقي هذا الوضع المتدهور بظلال سميكة على حياة المواطن اليومية، حيث السيولة غير متوافرة في المصارف وانقطاعات الكهرباء أطول من اشتغالها ولهيب الأسعار ما فتئ يتصاعد، وسط عجز الدولة عن احتواء هذه الأوضاع. ويتفاقم العجز مع مضاعفة عدد المسجلين الذين تصرف لهم الدولة رواتب ثابتة، ويُقدر عددهم حاليا بـ1.6 مليون شخص (من أصل نحو 6.5 ملايين ساكن)، وهم الذين يتقاضون رواتب من برلماني طرابلس وطبرق، بالرغم من انتهاء صلاحيتهما، بالاضافة للمسجلين على ملاك الوزارات والدوائر الرسمية والميليشيات، إذ أن الدولة هنا هي التي تدفع رسميا رواتب للجماعات المسلحة مقابل حماية رجال الدولة.

أمراء التهريب

ولعل من مظاهر هذا الوضع السريالي الحجمُ المتزايدُ للاقتصاد الموازي، الذي يديره أمراء شبكات التهريب وقادة الميليشيات. ويُقدر خبراء حجم الاقتصاد الموازي بـ40 في المئة من الاقتصاد الليبي. أما خبراء البنك الدولي فيُقدرون تراجع دخل الفرد في ليبيا بنسبة تتجاوز 65 في المئة وارتفاع متوسط التضخم بأكثر من 9 في المئة بسبب ارتفاع أسعار الاغذية. وكشفت تقارير حديثة أن للميليشيات دورا كبيرا في استنزاف الاقتصاد الليبي، إذ تقوم سبعون ناقلة على ملك ميليشيات مسيطرة على بعض آبار النفط، بتهريب النفط الخام إلى إيطاليا عبر مالطا، حيث يتم تكريرُه وضخُهُ في شبكة التوزيع العادية. ويُشكل هذا النفط المُهرب 9 في المئة من النفط المستهلك في إيطاليا بحسب الخبراء.

بالمقابل يُضطر الليبيون بحكم محدودية قدرتهم على تكرير نفطهم الخام، إلى استيراد المحروقات من إيطاليا ما يُكلف الموازنة 3.3 مليار دولار سنويا. وبالرغم من العقوبات التي أقرتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة بحق جماعات مورطة في تهريب النفط الليبي، مازالت الأخيرة تعمل طليقة الأيدي، بينما مؤسسة النفط الليبية (قطاع عام) غير قادرة على منعها من ذلك.

ويمكن إرجاع أسباب هذا الوضع إلى كون المؤسسات التي تدير البلد حاليا، في الشرق كما في الغرب، غير شرعية، سواء حكومة الوفاق، التي تجاوزت الفترة المحددة لها في اتفاق الصخيرات، أم القائد العسكري خليفة حفتر، الذي بوأه برلمانٌ منتهي الصلاحية منصب القائد العام للجيش الليبي. وهذا الفراغ هو أحد الدوافع الرئيسة إلى إجراء انتخابات عامة، حرة وشفافة، لاختيار قادة جدد للبلد. يُضاف إلى ذلك أن حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، والتي يتم التعاطي معها بوصفها تملك غطاء شرعيا، غير منبثقة من صناديق الاقتراع، ما يستوجب العودة إلى حالة طبيعية تُنهي الوضع الشاذ الراهن. كما أن انقسام البلد إلى غرب تُديره حكومة الوفاق، مع الميليشيات أو عبرها، وشرق يحكمُهُ حفتر بقبضة من حديد، إضافة إلى جنوب منفلت، تسيطر عليه الجماعات القبلية وعصابات التهريب، هو وضع لا يمكن أن يستمر لما فيه من مخاطر كبيرة، ليس فقط على ليبيا، وإنما أيضا على بلدان الجوار، التي ترى في جارتها ليبيا قنبلة موقوتة وتهديدا كبيرا لأمنها وحدودها.

الحلُ سياسيٌ

لكن عليها أن تكون معنية أكثر مما هي الآن بإنضاج شروط الحل في ليبيا، فهذا الحلُ سياسيٌ أو لا يكون، وهي أقدر من الأوروبيين على مخاطبة الليبيين، وإقناعهم بالتخلي عن الخيارات العسكرية، إذ لا أحد من القوى المتصارعة يملك القوة الكافية لحسم الصراع. وإذا ما استمرَ الوضع الراهن ستبقى ليبيا أكبر خزان للأسلحة السائبة وستظل حدودها مفتوحة للمسلحين الداخلين والخارجين من جميع الأطياف، بلا أي رقيب أو رادع. بهذا المعنى يشكل استمرار الحرب الأهلية في ليبيا تهديدا مباشرا للأمن القومي لكل بلد من بلدان الجوار، مع العلم أن ما يمكن فعلُهُ اليوم لا يمكن بالضرورة فعلهُ غدا لتقريب الشقة بين الإخوة الأعداء وحملهم على الجلوس إلى مائدة الحوار. لكن الأكيد أن ما استطاعت أن تُنجزه باريس، وإن لم تبق منه سوى الصور التليفزيونية، أو روما الشهر المقبل، تستطيع أن تُحقق مثله بلدان الجوار العربية وأكثر.

بعد أسابيع يمرُ قرنٌ على تأسيس أول جمهورية عربية، وهي الجمهورية الطرابلسية التي أبصرت النور يوم 18 نوفمبر 1918، وصار لها دستورٌ اعتبارا من مايو 1919. وبالرغم من أنها اقتصرت على إقليم طرابلس ولم تشمل برقة وفزان، فإنها شكلت محطة مهمة في تطور الوعي الوطني الليبي، إذ أنها مهدت لتجارب سياسية ودستورية لاحقة، تُعتبر اليوم لبنات مهمة يمكن البناء عليها لتأسيس ليبيا جديدة.

تعليقات