رشيد خشــانة – يمضي الجزائريون قُدُما في البحث عن حل سياسي للأزمة الليبية، التي تُرابط عند حدودهم الجنوبية الشرقية، وتُكلفهم نفقات باهظة، لمراقبة نحو ألف كلم من الحدود المشتركة مع ليبيا، إلا أنهم يخشون من استمرار الفراغ في الجنوب الليبي، بعدما تحول إلى مفرخة للإرهاب وتجارة السلاح وتهريب المخدرات. في المقابل تُرسل فرنسا بالمزيد من جنودها إلى منطقة الساحل والصحراء، حيث يتعرضون للموت في رمالها المتحركة، دفاعا عن مصالح الشركات التي تستثمر ثروات المنطقة.

وكانت الجزائر لعبت دورا حاسما في جمع الأطراف المتصارعة في مالي على مائدة الحوار، ودفعتهم إلى التوقيع على اتفاق سلام برعاية الأمم المتحدة. وتُجدد الدبلوماسية الجزائرية ذلك الدور في ليبيا، من خلال الزيارات المكوكية التي أداها وزير خارجيتها صبري بوقادوم، في الأيام الأخيرة، لأطراف الصراع في ليبيا، في الشرق كما في الغرب. ويرفض الجزائريون إرسال قواتهم إلى الخارج سواء إلى ليبيا أم إلى مالي، على عكس فرنسا التي ما فتئت تُعزز حضورها العسكري في المنطقة، من دون تحقيق نتائج إيجابية على الميدان. وجددت الجزائر رفضها وجود قوة أجنبية في ليبيا، أيا كانت هويتها. وقرر المجلس الأعلى للأمن، في اجتماع عقده الخميس الماضي، برئاسة عبد المجيد تبون، معاودة تفعيل دور الجزائر على الصعيد الدولي، بعد سنوات من الغياب، بسبب مرض الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. وركزت الجزائر على الملف الليبي بالنظر لتداعياته المباشرة عليها وعلى دول الجوار، وكذلك على منطقة الساحل والصحراء.

ويأتي إحياء الدور الجزائري مُتزامنا مع ارتباك فرنسا التي تغرق أكثر فأكثر في أوحال الحرب على الجماعات الارهابية، في منطقة الساحل، بعد قرار الرئيس إيمانويل ماكرون إرسال 600 جندي إضافي إلى تلك المنطقة. وسيرتفع عدد الجنود الفرنسيين، بعد هذه الخطوة الجديدة، من 4500 لدى إطلاق عملية “برخان” في 2013، إلى 5100 عسكري. وستتمركز غالبية هذه القوات في المثلث الحدودي الذي يجمع بين كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو. غير أن الجماعات تتحرك في رقعة شاسعة، تمتدُ من جنوب ليبيا إلى شمال نيجيريا. ومهما زادت التعزيزات، يستبعد خبراء عسكريون أن تكسب فرنسا المعركة، بالنظر لضآلة حجم قواتها أمام سعة المنطقة المستهدفة.

مثلث حدودي

وحسب وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، سيُدمج قسم من تلك التعزيزات في قوات “مجموعة الخمس”، وهي قوة شكلتها كل من موريتانيا والنيجر ومالي وتشاد وبوركينا فاسو، لملاحقة الجماعات في المثلث الحدودي، وخاصة منها “تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى”، أحد فروع تنظيم “الدولة” (داعش).
وعرف الجيش الفرنسي صعوبات كبيرة في إدارة الحرب في مناطق لا يملك القدرة اللازمة للسيطرة عليها، ما حمل الرئيس الفرنسي على الإعلان في 13 من الشهر الماضي، عن إقرار “إطار جديد لمكافحة الارهاب في منطقة الساحل والصحراء”. واستدعى ماكرون، رؤساء الدول الخمس إلى مدينة “بو” الفرنسية، يوم 16 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وهددهم بسحب قواته من المنطقة، مُعبرا عن غضبه الشديد من تنامي المشاعر المناهضة لفرنسا في بلدانهم. إلا أنه عاد وأعلن عن إرسال 220 جنديا إضافيا إلى المنطقة، قبل أن يُرفع العدد لاحقا إلى 600 عسكري، على طريقة “وداوني بالتي كانت هي الداء”. وكان الجيش الفرنسي خسر 13 جنديا، أواخر العام الماضي، في حادثة قدمها الإعلام الفرنسي على أنها اصطدام بين مروحيتين فرنسيتين، أثناء ملاحقة مجموعة مسلحة، في مالي، فيما أكدت مصادر أخرى أن المروحيتين أصيبتا بنيران المسلحين.

في تلك الأجواء المشحونة لفت انتباهَ المراقبين تقريعُ ماكرون للرؤساء الخمسة، الذين اشترط عليهم أن يطلبوا رسميا المساعدة من باريس، ويتحملوا مسؤولية استدعاء قوات أجنبية، أمام الرأي العام في بلدانهم. وعبر ماكرون عن ضيق فرنسا من تنامي المشاعر المناهضة لبلده، المستعمر السابق، في منطقة الساحل والصحراء، واصفا موقف الحكومات المحلية من تلك الظاهرة بـ”الغموض”، ومُلمحا إلى أن بعض الوزراء الأفارقة ضالعون في بث المشاعر المعادية لباريس. لكن في النهاية، وافق ماكرون على إنشاء قيادة موحدة بين قوات مجموعة الخمس والقوات الفرنسية، وهو ما يُعطي الأخيرة عصا القيادة، ويُضفي الشرعية على وجودها، في الوقت نفسه. وغضب الفرنسيون أخيرا من تصريحات وزير دفاع بوركينا شريف سي الذي تساءل في حوار أجرته معه صحيفة من أفريقيا الجنوبية، قائلا: “لماذا تلكأت فرنسا في القضاء على الجماعات الارهابية؟ هل لديها أجندة أخرى؟”.

جيوش ينخرها الفساد

وتوقع المحلل العسكري الفرنسي مارك أنطوان دي مونكلو أن يُخفق التدخل الفرنسي في القضاء على الجماعات المسلحة، التي تستفيد من الحدود المفتوحة بين بلدان المنطقة. وأكد أن المشكل لا يُحلُ بتعزيز القوات المنتشرة على الأرض، ولا بحجم الأسلحة المكدسة، لمجابهة جماعات سريعة الحركة، مُعتبرا أن من نقاط ضعف العملية أن الجيوش في المنطقة غير منضبطة، ومعنوياتها في الحضيض، والفساد ينخرها، والسكان لا يدعمونها، لا بل يخشون بطشها. أكثر من ذلك، يشتبه مراقبون بأن الفظاظة التي يُعامل بها المدنيون تدفعهم إلى أحضان الجماعات، التي يبحثون لديها عن حماية. من هنا يبدو المشهد بائسا، وخاصة في مالي، حيث تكرس الانقسام بين جنوب تسيطر عليه الحكومة المركزية، بمعونة فرنسا، وشمال ترتع في أرجائه الجماعات الإرهابية وشبكات التهريب وتُجار السلاح، مستفيدين من غياب الدولة في جنوب ليبيا، وشمال النيجر المجاور. وكانت القوات المالية ارتكبت جرائم ضد الإنسانية لدى قمعها انتفاضتين للسكان الطوارق في شمال البلد، الأولى في 2000 والثانية في 2012، ولم يتسن لها القضاء على الثانية إلا بدعم عسكري من فرنسا.

وعليه يرى محللون أن الجيوش المحلية عاجزة عن تأمين بلدانها ضد العمليات الارهابية، لا بل أصبحت مُعرضة لهجمات عقابية، من الجماعات المسلحة، وهي لا تستطيع لها ردا. وسقط في إحداها 43 قتيلا من الجيش المالي، وفي هجوم آخر 71 جنديا من النيجر، ما أثار تساؤلات كبيرة عن جدوى استمرار برامج التعاون العسكري مع البلدان الأوروبية، وخاصة مع فرنسا. وفي 2015 أوقعت هجمات إرهابية في بوركينا فاسو أكثر من 700 قتيل، وحملت 500 ألف مدني على النزوح من مناطقهم. وهذا ما يُفسر المظاهرات التي شهدتها العواصم الثلاث، نيامي وباماكو وواغادوغو، ضد الحضور العسكري الفرنسي، الذي اعتُبر ضربا من الاستعمار الجديد. وفي هذه الأجواء المحتقنة دخلت أمريكا على الخط، وأعلنت أنها ستبيع النيجر، قريبا، تجهيزات عسكرية و60 ناقلة جنود مصفحة بقيمة 21 مليون دولار.

غياب الدولة

إجمالا، يمكن القول إن نجاح الحرب على الجماعات المسلحة في الساحل والصحراء يتوقف على إنهاء الحرب الأهلية في ليبيا، إذ أن وقف إطلاق النار بين الفريقين المتقاتلين، وإعادة بسط سلطة الدولة على الجنوب، سيُضيقان الخناق على الجماعات، ويضعانها بين فكي كماشة، طرفُها الجنوبي الجيش الفرنسي، والشمالي الجيش الليبي، بعد إعادة بنائه كجيش جمهوري محترف. وبسبب غياب الدولة وتفاقم الحرب الأهلية، طيلة السنوات الماضية، باتت ليبيا مركز استقطاب للجماعات المسلحة، وتبوأت مكانة محورية بين سوريا والعراق شرقا، وبلدان الساحل والصحراء غربا وجنوبا. وزادت المخاوف من تحوُلها إلى بؤرة لتلك الجماعات، مع انهيار”تنظيم الدولة” في 2017. وقد غدت ليبيا بالفعل مركز تجمُع لعناصر متشددة وعنيفة آتية من بلدان مختلفة.

وهذا أحد أسباب قلق الجزائر وباقي جيران ليبيا، من تداعيات الفوضى السائدة على أوضاعهم الداخلية، ففي خطوة تبدو منافسة للمبادرة الأوروبية، التي تقودها ألمانيا، أطلقت الجزائر مبادرتها الخاصة، فاستقبلت رئيس حكومة الوفاق فايز السراج والرئيس التركي رجب طيب إردوغان والتونسي قيس سعيد، ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي ووزراء خارجية فرنسا وألمانيا ومصر وإيطاليا. ثم أرسل الرئيس عبد المجيد تبون وزير الخارجية صبري بوقادوم ليجول على الفرقاء داخل ليبيا، في الشرق كما في الغرب، ويعرض عليهم الخطوط الكبرى للمبادرة الجزائرية. وتُركز المبادرة على فكرة محورية ملخصها أن “لا حل في ليبيا إلا من خلال الحوار الليبي الليبي داخل الأراضي الليبية”.

مكونات سياسية واجتماعية

وتسعى الجزائر إلى إشراك المكونات الاجتماعية في هذه المبادرة، بالإضافة إلى المجلس الرئاسي ومجلس النواب، والحكومة المعترف بها دوليا، وأيضا الحكومة المنبثقة من البرلمان في الشرق. وليست هذه المرة الأولى التي يُعلن فيها الجزائريون عن رؤيتهم لإطار الحل السياسي، إذ قام وزير الخارجية السابق عبد القادر مساهل بجولة مماثلة داخل ليبيا في 2017، إلا أن الأوضاع الداخلية المعقدة، التي سبقت استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، جعلت الملف الليبي يتراجع في سلم الأولويات. ويضع الجزائريون شرطا لأي تسوية سياسية في ليبيا يتمثل في خروج جميع المسلحين الأجانب من البلد، وتجميع السلاح الثقيل، وإخراجه من المدن والمناطق المأهولة بالمدنيين. والظاهر أن روسيا تدعم الدور الجزائري في الأزمة الليبية، إذ أكد رئيسها فلاديمير بوتين دعم موسكو “للخط المتوازن الذي تتبعه الجزائر”.

وأوضح بوتين، خلال تسلمه أوراق اعتماد السفير الجزائري الجديد لدى موسكو، محمد شريف كورتا، أن روسيا “تدعم الخط المتوازن الذي تتبعه الجزائر في الشؤون الدولية والإقليمية، ونحن نرى آفاقا جيدة لتطوير التعاون والتنسيق الاقتصادي والعسكري- التقني، من أجل تعزيز الاستقرار والأمن في شمال إفريقيا، ومنطقة الصحراء والساحل”. ويقول الجزائريون إنهم ملتزمون بالمسارات الثلاثة التي أفرزها مؤتمر برلين الشهر الماضي، ومن ضمنها المسار العسكري، الذي عُقد في إطاره اجتماع الاثنين الماضي، بمشاركة خمسة من كبار الضباط ممثلين عن حكومة الوفاق، وخمسة آخرين ممثلين عن “الجيش الليبي” (حفتر)، برعاية الأمم المتحدة، في مقرها في جنيف.

سحب الملف من أوروبا

على أن الجزائر تعمل في الوقت نفسه على سحب الملف الليبي من أوروبا، ووضعه في الدائرة الأفريقية. وفي هذا الإطار بذل الجزائريون جهودا كبيرة لعقد اجتماع رفيع المستوى، برعاية مفوضية السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي، حول ليبيا والساحل، التأم أمس السبت في العاصمة الإثيوبية “لكي تتحدث افريقيا بصوت واحد” على ما قال مفوض السلم والامن في الاتحاد الافريقي إسماعيل شرقي (جزائري). وشكا شرقي من “استبعاد أفريقيا من مسارات تسوية الأزمة الليبية”، والأرجح أن الجزائر ستتجاذب الملف الليبي من ألمانيا، التي تستعد لاستضافة الاجتماع الأول للجنة متابعة تنفيذ مخرجات مؤتمر برلين الخاصة بليبيا، يوم 16 الجاري في مدينة ميونيخ الألمانية.

ومن أهم الأفكار المتداولة قبل الاجتماع إيجاد آليات لمراقبة وقف إطلاق النار بمشاركة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، ويحتاج هذا الإجراء إلى تفويض مسبق من مجلس الأمن، إلا أن الأمم المتحدة مازالت تستبعد حتى الآن إرسال قوات حفظ سلام إلى ليبيا.

تعليقات