رشيد خشــانة – قطع طرفا الصراع في ليبيا نصف الطريق للوصول إلى سلام بالتوقيع على اتفاق يكرس وقفا نهائيا لإطلاق النار، وبقي النصف الثاني المُتعلق بإخضاع الميليشيات، وإجبار المرتزقة على مغادرة البلد.

والملاحظ أن هذا التقدم في مفاوضات الحل السياسي، ترافق مع الخطوات النوعية التي قُطعت لمعاودة تشغيل الحقول والمصافي النفطية في ليبيا، بما فيها مصفاة الزاوية، وهي الوحيدة في المنطقة الغربية. لا ريب أن المشهد الليبي تغير، أولا مع الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار، وأيضا مع الاتجاه نحو إيجاد حلول لكثير من المشاكل الحياتية، مثل تشغيل حركة الملاحة الجوية مجددا بين المدن، وفتح الطرقات البرية. بيد أن التفاؤل الذي أشاعته تلك الخطوات، لا ينبغي أن يحجب عن أبصارنا العقدة الكبرى، التي سيصطدم بها المسار، حين يقترب من نفوذ الأجسام المسلحة، الماسكة بالسلك الكهربائي، وصاحبة القرار الحقيقي على الأرض.

مع ذلك تُعتبر المسافة المقطوعة حتى اليوم، في إطار مسار برلين، وسائر الاجتماعات المتفرعة عنه مشجعة، بعدما وضع طرفا النزاع، علاوة على اتفاق وقف إطلاق النار الدائم، اتفاقات أخرى تقضي بإعادة فتح الطرقات بين المناطق واستئناف الرحلات الجوية الداخلية، ووضع حد للحملات الإعلامية المتبادلة. وأشرفت على تلك المحادثات المنظمة السويسرية “مركز الحوار الإنساني” التي تعمل منذ سنوات على التقريب بين الإخوة الأعداء في ليبيا، بعيدا عن أضواء الإعلام، وبرعاية من بعثة الأمم المتحدة. كما شكل الاتفاق على إعداد موازنتين للعام المقبل، واحدة في الشرق والثانية في الغرب، ثم إدماجهما في موازنة موحدة، خطوة مهمة نحو إعادة اللحمة. وتقدر الموازنة بما يقارب 34 مليار دولار.

غير أن ما يهم المواطن الليبي من تلك المحادثات هو مدى تأثيرها في تحسين وضعه المعيشي، الذي يربطه بعنصرين جوهريين، أولهما معاناته من فقدان السيولة في المصارف التجارية، ما يضطره للمُرابطة أمام الفروع المصرفية لتحصيل النزر القليل من أمواله المودعة لديها، وثانيهما انقطاع البنزين والتيار الكهربائي، بسبب توقف إنتاج النفط، ما عسَر حياة السكان بشكل عام، وسكان الجنوب بشكل خاص.

أكثر من ذلك، تسبب دخول القوات الموالية للجنرال حفتر، ومعها عناصر من شركة “فاغنر” الأمنية الروسية الخاصة، إلى الحقول والموانئ النفطية، في انهيار الإنتاج، في إطار محاولة خنق حكومة الوفاق. ومن هنا يرتدي التوصل إلى اتفاق على معاودة التشغيل والانتاج أهمية قصوى لتلك الحكومة، وحتى لخصومها، الذين يتقاضون رواتبهم، هم أيضا، من مصرف ليبيا المركزي. كما أن معاودة تصدير النفط، تعيد ملء خزائن الدولة الخاوية، إذ ارتفع إنتاج حقل الشرارة في الأيام الأخيرة، وهو من أكبر الحقول، إلى نحو 110 آلاف برميل يوميا من أصل 300 ألف برميل تمثل إجمالي طاقته الإنتاجية.

أما شركة الزاوية فأعلنت عن الشروع الوشيك في تشغيل وحدات التكرير، بعد اكتمال الاستعدادات لذلك، ما سيساهم في تأمين احتياجات السوق المحلي من المحروقات. وفي السياق أفادت شبكة “بلومبرغ” الأمريكية أن إنتاج ليبيا من النفط بلغ نحو 500 ألف برميل يوميا، بعد استئناف الإنتاج في حقل الشرارة، وهو ما يمثل قرابة نصف منتوج ليبيا من النفط، قبل غلق الحقول والموانئ النفطية، في التاسع من حزيران/يونيو الماضي، في أعقاب فرض حالة القوة القاهرة.

وزاد انتشار فيروس كورونا من تعقيد حياة الليبيين، في ظل تهلهل البنية الصحية الأساسية، وغلق الحدود التي كانت تمنح فرصة العلاج في المستشفيات التونسية. والظاهر أن الليبيين مهتمون بوضع حد لتمدُد الوباء أكثر من اهتمامهم بالمحادثات الجارية في جنيف وبوزنيقة والقاهرة وتونس. وطبقا لإحصاءات غير مؤكدة يوجد في ليبيا حاليا أكثر من 41000 حالة إصابة بفيروس كورونا، غير أن المراقبين يعتقدون أن عدد المصابين أكبر من ذلك، لكن لا يمكن الوصول إليهم لإحصاء الحالات بدقة، خاصة أن الأمم المتحدة أقرت هي الأخرى بأن الانتشار “يخرج عن نطاق السيطرة”. ومنذ بداية تفشي الوباء في ليبيا في آب/اغسطس الماضي واجهت الكوادر الطبية والصحية صعوبات جمة بسبب تضاؤل الإمكانات المتاحة لها، وتزايد أعداد المصابين المقبلين على المستشفيات.

وامتد الشلل إلى المؤسسات التعليمية، وإن جزئيا، إذ واجهت المدارس مصاعب كبيرة لإيجاد الصيغة المثلى للاستمرار في العمل، مع حماية الطلاب من العدوى، في ظل ضآلة الإمكانات، ما أدى إلى انقطاع بعض الطلاب في بعض المناطق عن الدراسة، ووصل الانقطاع أحيانا إلى ستة أشهر.

مفهومٌ في هذا الإطار أن يفرح الليبيون بالوعود التي سمعوها، وأن يروا بصيص أمل في قرار فتح الحدود مع تونس، متنفسهم الرئيس. ومن المظاهر الرمزية للمصالحة المأمولة بين المنطقتين الشرقية والغربية، الزيارة التي أداها وفد يمثل “أعيان برقة” (الشرق) إلى أسرى قوات حفتر لدى قوات حكومة الوفاق في مصراتة، وهي خطوة تمهد لإجراء تبادل للأسرى والمخطوفين من الطرفين. وأكد ذلك رئيس وفد أعيان مصراتة محمد الرجوبي، الذي صرح أيضا، لموقع “الوسط” الليبي، أنه يتم حاليا بحث تشكيل لجان من أجل فتح الطرق والمطارات بين المنطقتين الشرقية والغربية. وتشمل هذه الخطة إعادة فتح معبر راس جدير الحدودي مع تونس. وزار وفد من وزارة الخارجية التابعة لحكومة “الوفاق” تونس، في الأيام الأخيرة، وبحث مع مسؤولين تونسيين وسائل ضمان انسياب حركة النقل والمبادلات التجارية في المعبرين الحدوديين المشتركين. وفعلا توصلت لجنة ليبية تونسية مشتركة إلى اتفاق لإعادة فتح الحدود بين البلدين، وهو ما تم فعلا الجمعة، إضافة إلى استئناف الرحلات الجوية بين مطاراتهما.

كما درس الوفد وضع بروتوكول صحي مشترك مترافقا مع إعادة فتح المعبر وفق الخطة التونسية للتصدي لتفشي فيروس كورونا. وكان الخلاف بين الجانبين يتمثل في رفض الليبيين الخضوع للحجر الصحي الإجباري عند حلولهم بتونس، في حين تطبق تونس هذا الإجراء على جميع الوافدين إليها. وتضغط بعض الجهات من بينها مجلس رجال الأعمال التونسيين والليبيين، من أجل إيجاد حل وسط لهذا الإشكال، وأتى الحل متمثلا بالقيام بالتحاليل السريعة للفيروس في المعبر، بالنسبة لليبيين الوافدين إلى تونس.

حكومة انتقالية وانتخابات؟

وكيفما كان الحال، تبدو تونس اليوم الوحيدة القادرة على استضافة الاجتماع الشامل الليبي الليبي، مطلع الشهر المقبل، بعد رفض الدول الاوروبية استضافة هذا اللقاء، بسبب الموجة الثانية من فايروس كورونا التي اجتاحت العالم خلال الشهر الجاري. ويُلاقي هذا المسار تأييدا من القوى الكبرى، إذ أبدت أمريكا مباركتها للاتفاقات التي حصلت حتى الآن بين الفريقين، مُعلقة، على لسان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شنكر، بأنها تأمل أن تكون تلك الاتفاقات “خطوة نحو تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات”.

كما أن السفير الأمريكي لدى ليبيا نورلاند حذر من “الوجود المتزايد للقوات الأجنبية، بما في ذلك المرتزقة والمجموعات المسلحة والمفسدين، الذين يمكن أن يهددوا التقدم الحالي نحو حل سلمي في ليبيا”. واعتبر أن “التخلص من الميليشيات والمرتزقة والجماعات الإرهابية من أهم المهام لضمان مستقبل مستقر في ليبيا”. لكنه أشار إلى أن الاشتباكات الأخيرة التي وقعت بين الميليشيات “تؤكد ضرورة العمل من دون توقف لإنشاء جيش واحد تحت سلطة مدنية”. ولفت نورلاند إلى الحاجة إلى “دعم الجهود التي يقودها الليبيون لجمع الميليشيات من جميع أنحاء البلاد وتسريحها” مؤكدًا أنه من الصعب الوصول إلى ذلك “إلا من خلال قوات أمن ليبية موحدة وقوية” لكن هل سيبقى أمراء الحرب يتفرجون على تشكيل قوات عسكرية وأمنية مهمتها قطع دابرهم؟

وهذا الموقف الأمريكي غير بعيد عن الموقف الروسي، الذي أكد على لسان الوزير سيرغي لافروف دعم موسكو لـ”وقف الأعمال القتالية في ليبيا وبدء حوار سياسي”. ومن هذا المنطلق قرر الروس إعادة فتح سفارتهم في طرابلس، على أن يكون مقر السفير “مؤقتا” في تونس. وقال لافروف في هذا الشأن “أريد أن أؤكد على أن مهامه (السفير) تشمل تمثيل روسيا في كل أنحاء الأراضي الليبية” أي لدى حفتر وحكومة الوفاق في آن معا.

أصحاب القرار على الأرض

لكن السؤال الذي يبقى عالقا هو إلى أي مدى تمثل الوفود التي شاركت في المحادثات، حتى الآن، القوى الحقيقية صاحبة القرار على الأرض؟ أوليس “المفاوضون” مُعلقين في عالم يكاد يكون افتراضيا، فمجلس النواب لم يجتمع، ولا اجتمع أعضاء المجلس الرئاسي لمنح تفويض للوفدين المفاوضين. ومن علامات هذا الانفصام مقاطعة كتلة فزان النيابية (جنوب) جلسة مجلس النواب التي كانت مقررة في مدينة بنغازي (شرق) والتي دعت إليها رئاسة المجلس “بعد غياب طويل عن الانعقاد، بالرغم من حجم الاستحقاقات التي أمام المجلس” على ما قالت الكتلة في بيانها، ردا على دعوتها إلى المشاركة في جلسة ببنغازي.

من جهة أخرى تقف الأجسام العسكرية الخارجة عن الدولة، حجر عثرة أمام عودة السلام إلى ليبيا، فقد شبت عن الطوق، بعدما تضخم حجمها وتطورت أسلحتها وتوسع نفوذها في السنوات الخمس الأخيرة، أي منذ اندلاع الصراع بين “فجر ليبيا” و”عملية الكرامة” بقيادة حفتر. ولا أدل على سطوتها من أنها تجرأت على اختطاف المستشار الإعلامي لرئيس حكومة الوفاق محمد بعيو (وهو أحد أبواق نظام القذافي) بينما ظلت الحكومة عاجزة عن ضبط الخاطفين ومحاكمتهم، مع أنها تعرفهم وتصرف رواتبهم في بداية كل شهر. وبعد يومين من اختطاف بعيو، خطفت مليشيا مسلحة من طرابلس الإعلاميين محمود الشركسي، من قناة “ليبيا” الوطنية، وطارق القزيري عقوب مدير قناة “ليبيا الرياضية”. ولم تقو وزارة الداخلية ولا حكومة الوفاق على وضع حد لعربدة هذه الميليشيا ومثيلاتها الكثيرة، علما أن الخطف شمل في وقت سابق رئيس الحكومة نفسه (علي زيدان) وهو في ثياب النوم. وعليه فإن تنفيذ أي خطوات في اتجاه إقرار وقف نهائي لإطلاق النار، يبقى مرهونا بمدى تجاوب هذه الجماعات المسلحة، التي لن يقبل أمراؤها التخلي عن نفوذهم والاندماج في الجيش الوطني المزمع تشكيله، والتي تتدرب طلائعه حاليا في إحدى القواعد العسكرية التركية. من هنا تبدو فداحة الخطأ الذي اقترفه من حكموا ليبيا بعد رحيل القذافي، والذين قرروا حل الجيش الليبي بذريعة أنه كان يخدم النظام، مع أن القذافي حجَمه وأضعفه.

المؤسسة الوحيدة

ربما المؤسسة الوحيدة المتبقية من هشيم الدولة، التي مازالت تعمل هي القضاء، بالرغم مما يحفُ به من تهديدات ومخاطر. وقد أظهر فعاليته أخيرا عندما أصدر مدير النيابة العسكرية في طرابلس، أيوب أمبيرش، أمرا بالقبض على رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد نعمان الشيخ، بعد اتهامه بإخفاء تقرير صادر عن لجنة الهيئة، يتعلق بتجاوزات مالية في جهاز الطب العسكري ووزارة الصحة، التابعة لحكومة الوفاق. وتم توجيه الأمر إلى “جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب” لاعتقال سبعة مشتبه بتورطهم في التجاوزات، من بينهم وكيل وزارة الصحة بحكومة الوفاق، وقد كان رئيسا لمجلس إدارة جهاز الطب العسكري سابقًا.

ربما تكون عواصم القرار الدولي وعدت المفاوضين الليبيين بمساعدتهم على ترويض أمراء الحرب، بتسليط عقوبات على المتقاعسين منهم، لكن يبدو أنهم لا يعبئون بمثل تلك التهديدات، كما لم يتورعوا عن إزهاق أرواح آلاف المدنيين، في حروب متتالية منذ 2011. وبحسب السراج تضرر 120 ألف ليبي من تلك الحروب إلى 2018 فقط. أما تقديرات الأمم المتحدة فتشير إلى أن القتال أدى إلى نزوح أكثر من 150 ألف شخص، 90 ألفا منهم أطفال، إضافة لإغلاق 200 مدرسة، ما حرم أكثر من 200 ألف طفل من تعليمهم. يا تُرى كم ينبغي على الليبيين أن يصبروا قبل أن يعود الرشد إلى زعمائهم؟

تعليقات