رشيد خشــانة – اختلطت أوراق الانتخابات الرئاسية في ليبيا، بعد إقدام شخصيات من الصف الأول على الدخول إلى الحلبة، في منافسة مفتوحة مع حلفاء الأمس. وينطبق ذلك على حلفاء اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وفي مقدمهم رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس كتلة «إحياء ليبيا» السفير السابق عارف النايض. أما في الضفة المقابلة فإن ترشيح سيف الإسلام القذافي قابله ترشُح عدة مسؤولين كبارا في نظام والده، ومن بينهم الأمين الأسبق لجمعية الدعوة الإسلامية، محمد أحمد الشريف ووزير الكهرباء والصناعة الأسبق فتحي بن شتوان.
الورقة الأقوى بين أيدي الثلاثي سيف الإسلام وحفتر وصالح، تتمثل في خيبة أمل الليبيين من التغيير، وميلهم إلى اعتبار استعادة الاستقرار والأمان، أولوية الأولويات، وإن أتيا على أيدي رموز النظام السابق. والعائق الرئيس في هذا المجال هو إصرار كل مُرشح على أنه هو الأكثر شعبية، والأوفر فرصا للوصول إلى سدة الرئاسة، وبالتالي فهو لا يقبل التنازل لمرشح آخر. وتجلت هذه النزعة بوضوح في ترشُح عقيلة صالح لمنافسة خليفة حفتر. ومن المؤكد أن المعركة الانتخابية بينهما في المنطقة الشرقية، ستكون من أشرس المعارك (إذا لم تُؤجل الانتخابات) لأنهما يسحبان من خزان انتخابي واحد، وهما يعدان الليبيين ببرنامج متشابه، يقوم على العودة إلى المربع الأول، قبل انتفاضة 2011، أي على نسخة معدلة من «النظام الجماهيري» الذي أطاح به الليبيون.
ويبرز هنا اسم فتحي باشاغا وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني، برئاسة فائز السراج، والذي يُعتبر من المرشحين الأوفر حظا، أولا لكونه يمثل مدينة مصراتة، وهي قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية، ومركز ثقل سكاني، وثانيا لأنه يملك امتدادات في المنطقة الشرقية وأيضا في الجنوب، وثالثا لأنه انطلق منذ فترة في زيارات إلى الدول المتداخلة في الملف الليبي، لشرح رؤيته لإنهاء الصراع، ومن ثم العمل على كسب دعمها.
وستتولى المفوضية الوطنية العليا للانتخابات فحص ملفات الترشُح، وفق الشروط المنصوص عليها في القانون الانتخابي المثير للجدل، قبل غلق باب الترشح غدا الإثنين، ليتم إثرها الاعلان عن القائمات الأولية، مع فتح باب الطعون، وبعد الفصل فيها، ستعلن المفوضية القائمات النهائية.
ومن خلال استعراض أسماء المرشحين، يتجلى غياب لافت للمرأة والشباب، فالأكثرية تخطت عتبة الستين، وبعضهم أدرك الثامنة والسبعين (حفتر). وهذا مؤشر على أن هكذا مرشحين لن يستمعوا إلى الشباب ولا يفهمون قضاياه، وإذا ما استمعوا له لا يتجاوبون معه، علما أن أكثر من نصف سكان ليبيا هم من الشباب.
وشكل العسكريون أقلية من المُرشحين، إذ لا يتجاوز عددهم اثنين، هما اللواء خليفة حفتر والفريق محمد علي المهدي، رئيس الأركان العامة في حكومة الوفاق الوطني السابقة، وتبدو فرص الأخير ضئيلة في وجود منافسين مدنيين من الوزن الثقيل. أما سيف الإسلام القذافي، وهو الإبن الثاني للعقيد الراحل، فهو المُرشح الأكثر إثارة للجدل، إذ لم ينس الليبيون تهديده ووعيده بحمام من الدماء، أثناء انتفاضة 17 فبراير/شباط، إلى ما قبل ساعات من إلقاء القبض عليه، وهو في جنوب البلاد، يُحاول الهرب إلى النيجر، في تشرين الثاني/نوفمبر 2011.

قطع الأصابع

واللافت أن قبيلة الزنتان التي اعتقلته، وسجنته طيلة ثمانية أعوام، قطعت إصبعيه اللذين رسم بهما علامة النصر، عندما كانت القوات النظامية تحصد أرواح الثوار. وتم الإفراج عنه في 2017 فتوارى عن الأنظار، إلى أن ظهر أخيرا في عاصمة اقليم فزان (جنوب) ليُقدم ترشُحه للانتخابات. من هنا فإن الثقل الاجتماعي الذي سيعتمد عليه هو أساسا قبيلة القذاذفة، والمنطقة الوسطى حول مدينة سرت.
لكن من المُفترض قانونا أن ترفض المفوضية العليا للانتخابات ترشُحه باعتبار الأحكام الصادرة بحقه من محكمة الجنايات الليبية، في 2015 ومطالبة المحكمة الجنائية الدولية بتسليمه لها لمقاضاته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وتُعتبر روسيا أهم حليف يُدافع عن ترشُح سيف الإسلام، ويرى فيه «المنقذ» لليبيا، على أمل أن يُجدد صفقات السلاح مع روسيا، ويُعيد إحياء المشاريع التي كانت تنفذها شركات روسية قبل 2011.
كما يُفترض أن تُبطل المفوضية العليا للانتخابات أيضا ترشُح حفتر، تطبيقا لبنود قانون الانتخابات، الذي لا يُجيز ترشُح حاملي الجنسية المزدوجة، أسوة بالمواطن الليبي الأمريكي حفتر. وتبدو أمريكا دافعة بقوة لإجراء انتخابات تُسفر عن فوز حفتر، إذ أكد مسؤول في الخارجية الأمريكية لم يشأ الافصاح عن هويته، أن واشنطن «تشارك الكثير من الليبيين مخاوفهم من أن يصبح مرشح متورط في جرائم ضد الإنسانية (سيف الإسلام) رئيسًا لهم، في إشارة واضحة إلى ترشح سيف الإسلام القذافي للرئاسة. أكثر من ذلك، انتهز الأمريكيون ظهور سيف الإسلام مُجددا على سطح الأحداث، ليُطالبوا بمحاكمته وليس بترئيسه، مثلما يسعى لذلك الروس. بل وربطوا بين هذه المحاسبة وبين «نجاح عملية الانتقال السياسي».

البت في صحة الترشُحات

ستبدو ملامح الخارطة الانتخابية في صورة أوضح غدا الاثنين، في ضوء البت في مصير الترشُحات بعدما فتحت المفوضية مراكز الاقتراع بدءاً من الإثنين الماضي، وحتى اليوم الأحد، لتوزيع أكثر من 2.8 مليون بطاقة ناخب من خلال 1906 مراكز اقتراع، منتشرة على كافة أنحاء البلد. وستتم في 24 ديسمبر المقبل الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، فيما تجري الجولة الثانية تزامناً مع الانتخابات البرلمانية، التي يُرجح أنها ستكون بعد 52 يوماً. وخلال السنوات العشر الماضية شهدت ليبيا انتخابات برلمانية مرتين، الأولى في 2012 تحت إشراف «المجلس الوطني الانتقالي» الذي قاد البلاد بعد مقتل القذافي، وأسفرت الانتخابات عن تشكيل «المؤتمر الوطني العام» (البرلمان). وكان رئيس المؤتمر يقوم في الوقت نفسه بمهام رئيس الدولة، وهو المنصب الذي تداول عليه كل من نوري بوسهمين وعبد الرحيم الكيب وعلي زيدان. وأجريت في 2014 انتخابات مجلس النواب، وتولى رئيسه القيام بأعمال رئيس الدولة أيضا.

التوزيع الجغرافي

ومن المهم معرفة الانتماء الجغرافي لأبرز المرشحين، لكي نتصور التحالفات الممكنة من جهة والمنافسات، التي قد تصل إلى معارك كسر عظم بين المرشحين، من جهة ثانية. فمن المرشحين في طرابلس أحمد معيتيق نائب رئيس المجلس الرئاسي سابقا والفريق محمد علي المهدي رئيس الأركان العامة السابق ومحمد المزوغي وعبد الله ناكر قائد إحدى الميليشيات في العاصمة، وفتحي بن شتوان وزير الصناعة والنفط في عهد القذافي، ومحمد أحمد الشريف الأمين الأسبق لـ»جمعية الدعوة الإسلامية» وكان يتمتع بحُظوة خاصة لدى معمر القذافي، وابراهيم دباشي مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة سابقا، وعبد الحكيم زامونة وأسعد محسن زهيو وفيضان عيد حمزة والسنوسي عبدالسلام الزوي، بالاضافة إلى كل من عثمان عبد الجليل وزير التعليم في حكومة فايز السراج، وعبد السلام رحيل أستاذ القانون العام، والخبير الاقتصادي خالد محمد الغويل وكيل وزارة التخطيط سابقًا، وإسماعيل الشتيوي رجل الأعمال والرئيس الفخري للنادي الأهلي طرابلس، وأسامة البرعصي ومروان عبد الله عميش رئيس منظمة سرت الوطن للاستقرار والسلم الاجتماعي. أما المرشحون في شرق البلد فيقتصرون على خليفة حفتر وعقيلة صالح وأسامة البرعصي.

بطش حفتر

ربما يُعزى إحجام كثير من الشخصيات العامة في إقليم برقة عن الترشُح إلى خوفهم من بطش حفتر، الذي لن ينظر بعين الرضى لوجود منافسين يتقاسمون معه أصوات الناخبين، عدا صالح لأنه يتمتع بالحصانة، والبرعصي لأنه من قبيلة البراعصة إحدى أكبر القبائل الليبية. وفي سبها هناك مرشح واحد، إلى ساعة كتابة هذا التقرير أمس السبت، هو سيف الإسلام. أما العدد الإجمالي للمرشحين فتجاوز الخمسة والعشرين، والمؤكد أن بعضهم سيُرفض طلبهم، ممن لا تتوافر فيهم شروط الترشح.
في المقابل يشكل مسعى رئيس حكومة الوفاق الوطني عبد الحميد الدبيبة للترشُح للرئاسة حالة فريدة ومعقدة، لكونه لم يستقل من مهامه قبل ثلاثة أشهر من يوم الاقتراع، بحسب ما ينص عليه قانون الانتخابات الرئاسية. غير أن الدبيبة وأنصاره يطعنون في شرعية القانون، مؤكدين أن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح هو من وضعه، وفصل بنوده على مقاسه ومقاسات حلفائه. وكان عشرات النواب انتقدوا مُمانعة صالح من عرض مشروعي قانوني الانتخابات الرئاسية والنيابية، على المناقشة العامة في مجلس النواب، قبل سنه رسميا. وفي تحد لموقف صالح، قام الدبيبة بتعبئة إقرار الذمة المالية، الخاص به وأفراد أسرته، وهو أحد الشروط للترشح للانتخابات الرئاسية، قبل أن يُقدم ترشُحه رسميا إلى المفوضية العليا للانتخابات.

البتُ في الطعون

والجدير بالاشارة هنا أن دور المفوضية العليا يقتصر على استلام ملفات الترشُح، لتُحيل الطلب إلى الإدارة العامة، بُغية التثبت من مدى استيفاء الترشح للمستندات المطلوبة، ثم تُحيله إلى الجهات المختصة للنظر في مدى صحة الترشح من عدمه. ووعدت المفوضية بنشر ما يعرف بـ»القائمات النهائية» عند اكتمال مرحلة الفصل في الطعون، ومن ثم تضمين أسماء المرشحين المجازين في بطاقة الاقتراع، التي ستسلم إلى الناخب يوم الانتخاب للإدلاء بصوته.
وطبقا للقانون رقم 1 لسنة 2021، يُقصى من الترشُح من هو محكوم نهائياً في جناية أو جنحة مُخلة بالشرف أو الأمانة، ومن يحمل جنسية دولة أخرى عند ترشحه.

إقبال تخطى حاجز المليون

والأرجح أن الانتخابات الرئاسية ستشهد إقبالا كبيرا، مثلما تدل على ذلك درجةُ الاقبال على استلام بطاقات الانتخاب. ومن المؤشرات على ذلك أيضا احتفال المفوضية العليا للانتخابات بتخطي حاجز المليون ناخب ممن استلموا بطاقاتهم، بحسب الإحصاءات الواردة من المراكز الانتخابية. وأكدت المفوضية توزيع مليون ومئتي ألف واثنتين من بطاقات الانتخاب، في مراكز الاقتراع التابعة لمكاتب الإدارات الانتخابية في مختلف مناطق البلاد.
وعلى الصعيد الخارجي تُتابع عواصم الدول المُتداخلة في الصراع الليبي المسار الانتخابي بجميع تفريعاته ورهاناته. ويعمل كل طرف على تلميع صورة حليفه وتبخيس منافسيه. وبرزت روسيا بدعمها لسيف الإسلام القذافي، الذي تسعى واشنطن إلى إخراجه من حلبة المنافسة الانتخابية تماما، بالاعتماد على ملفه لدى المحكمة الجنائية الدولية. كما أن المرشح فتحي باشاغا لا يُخفي تحالفه مع تركيا، مع المحافظة على علاقات مفتوحة مع العواصم الغربية والعربية المعنية بالصراع الليبي الليبي. أما أمريكا فأطلقت إشارات إلى أنها تفضل مواطنها خليفة حفتر، بالرغم من أن فرصه في استقطاب أصوات المنطقة الغربية (طرابلس ومصراتة) ستكون ضئيلة جدا.

اسرائيل الحليف الجديد

وفي الفترة الأخيرة انضم إلى دائرة داعمي حفتر حليف جديد له وزنه الإقليمي، هو إسرائيل التي زارها سرا نجله صدام، وتوصل إلى صفقة مع المسؤولين فيها، تدعم بموجبها الدولة العبرية الجنرال المتقاعد في الانتخابات، مقابل إقامة علاقات مع تل أبيب في حال فاز بالرئاسة.
والأرجح أيضا أن فرنسا ستواصل دعم حفتر، إلى جانب كل من الإمارات ومصر، فيما تقف غريمتها إيطاليا إلى جانب مرشحي المنطقة الغربية، ذات الثقل السكاني الحاسم. ولوحظ أن إيطاليا لم تُدع للمشاركة في الاجتماع الرباعي حول ليبيا، الذي عقده وزراء خارجية فرنسا ومصر واليونان وقبرص، الجمعة في أثينا، ولم يُكشف عما دار فيه.
ويمكن القول إن عواصم عدة، عربية وأجنبية، ستكون عيونها مُركزة على ليبيا، طيلة الأسابيع الحاسمة المقبلة، ليس فقط لمواكبة معركة الترشُحات، وإنما أيضا للتدخل الخفي في المرحلة الموالية، في إطار محاولة كل طرف دولي تذليل العقبات أمام تقدُم حليفه المحلي. وليس مُستبعدا أن يلجأ الطرف الخاسر في العملية الانتخابية إلى الاستعاضة عن صندوق الاقتراع بصندوق الذخيرة، في بلد ما زالت مجموعات المرتزقة الأجانب تُحسب فيه بالآلاف، وقطع السلاح المنتشرة في مدنه تُحسب بعشرات الآلاف.

تعليقات