رشيد خشانة – استأثرت البلدان العربية في شمال أفريقيا بأكبر صفقات السلاح في القارة، طيلة السنوات الأخيرة، متقدمة على باقي دول القارة الأفريقية. وتُظهر إحصاءات رسمية أن سباق التسلح يقضم من موازنات التنمية، إذ كلما ارتفعت النفقات العسكرية تراجع الانفاق على المشاريع الاجتماعية وزاد الفقر انتشارا. وعلى سبيل المثال تستأثر الموازنة العسكرية في الجزائر بـ25 في المئة من الحجم الاجمالي لموازنة الدولة، متقدمة على الموازنات المخصصة للتعليم والصحة والتشغيل، وهو اختلال ظهرت نتائجه في المطالب الاجتماعية، التي رفعها المنتفضون في الحراك الواسع، الذي عرفته البلاد في أواخر عهد الرئيس بوتفليقة وبعده.

الرتبة الثالثة عالميا

واتفقت الجزائر وروسيا أخيرا على صفقة لشراء 18 طائرة حربية من طراز “سوخوي 35”. وتعزو أوساط جزائرية مسؤولة هذه الصفقة إلى ضرورة تعويض الطائرات الاعتراضية ميغ 25 القديمة، التي انتهى عمرها الافتراضي، والتي من المقرر أن تُسحب من الخدمة مع أواخر العام الجاري. وبحسب رئيس مجموعة التصنيع العسكري الروسية “روسوبورون إكسبورت” تأتي الجزائر في الرتبة الثالثة عالميا بين زبائن “سوخوي 35” التي تُعتبر فخر الصناعة الحربية الجوية الروسية، إذ أنها مُتعددة الوظائف، وقادرة على حمل ثمانية أطنان من الأسلحة، ومُجهزة برادار متطور. وباشر الجزائريون تجريب هذا الطراز من الطائرات منذ عشر سنوات لدى شرائهم الدفعة الأولى من “سوخوي 34”. وتُصنف الجزائر اليوم بوصفها القوة العسكرية الرابعة في أفريقيا من حيث عدد أفراد القوات المسلحة، وتتقدم عليها كل من مصر وإريتريا والمغرب. أما من حيث الاعتمادات المخصصة للدفاع فتحل الجزائر في الرتبة الأولى بحوالي 6 مليار دولار (5 في المئة من المنتوج الوطني الخام).

وبرز سباق التسلح الإقليمي بإقدام المغرب قبل بضع سنوات على إبرام صفقة اشترى بموجبها من الولايات المتحدة 24 مقاتلة من طراز أف 16 و60 دبابة وثلاث مروحيات قتالية و24 طائرة تدريب، بالإضافة لتحديث 200 دبابة من طراز “أبرامس”. وصنف “معهد البحث الإستراتيجي الدولي” في بروكسل الجيش المغربي في الرتبة الثالثة أفريقيا، بالاعتماد على مقياسي التسلح والتجهيز، مُتقدما على كل من ليبيا وجنوب أفريقيا. واعتبر تقرير المعهد، الذي صنّف أقوى 50 جيشا في العالم، القوات المسلحة الملكية المغربية ثالث أكبر جيوش القارة الأفريقية بعد الجيشين المصري والجزائري.

ارتفاع ملحوظ في النفقات

ويملك المغرب أكثر من 100 طائرة حربية و24 مروحية هجومية ويصل قوام الجيش المغربي، بحسب مؤسسة “فوركيست” الدولية، المختصة في الشؤون العسكرية والدفاع، إلى 250 ألف جندي، 175 ألفا منهم في القوات البرية موزعين بين منطقتين عسكريتين كبيرتين: الشمالية التي يوجد مقرها في الرباط، ومهمتها الدفاع عن الحدود المشتركة مع الجزائر والمحافظة على الأمن الداخلي، والمنطقة الجنوبية ومقرها مدينة أغادير، القريبة من الصحراء الغربية، وهما منطقتا التوتر الرئيستين في المنظور الدفاعي المغربي. وعلى هذه الخلفية أبصرت الموازنة العسكرية المغربية ارتفاعا ملحوظا اعتبارا من 2009. إذ أنفق المغاربة أكثر من مليارين وثلاث مئة مليون دولار على صفقات الأسلحة خلال ذلك العام. وعزا المغاربة ذلك الارتفاع إلى مباشرة تطبيق خطة خمسية لتحديث قواتهم، والتي كلفت موازنة الدولة نفقات كبيرة.

ومنذ أربع سنوات طلب المغرب من مجموعة “هاريس كورب” تجهيز طائراته من طراز “أف16” بنظام متطور يمكن استخدامه في حرب إلكترونية. كما أجرى المغاربة أيضا مفاوضات مع روسيا في العام 2016 لشراء غواصة من الجيل الرابع من طراز “أمور 1650” تستغل بطاقة مزدوجة تجمع بين الديزل والطاقة الكهربائية، بالإضافة لمطاردات من طراز سوخوي 34. وأفادت أخيرا صحيفة “المساء” المغربية أن تسليم الغواصة سيتم قبل نهاية العام الجاري، ما سيعزز من قدرات البحرية الملكية المغربية بشكل نوعي، خاصة أنها قادرة على حمل صواريخ من طراز “كروز”. وهي تستطيع البقاء عائمة في البحر في استقلالية كاملة، على مدى ثلاثين يوما، ما يسمح لها بمراقبة الملاحة البحرية في جبل طارق، وهو ما أثار مخاوف لدى الإسبان. أما الجزائر فاشترت من روسيا غواصتين روسيتين قديمتين من طراز “كيلو” في العام 2011، وهي تتوقع تسلم غواصتين حديثتين توجدان حاليا قيد البناء في روسيا.

خطة لتنويع الزبائن

ويمكن القول إن نجاح الروس في الدخول إلى سوق السلاح المغربية شكل خطوة نوعية لتنويع الزبائن، لا سيما في ظل الصراع المستمر بين الجارين اللدودين الجزائر والمغرب. بهذا المعنى أتت الصفقة مع الرباط تماديا في المنافسة الشديدة بين أبرز قوتين عسكريتين في شمال أفريقيا، اللتين تسعى كلٌ منهما إلى ترجيح كفة الميزان العسكري في المنطقة لصالحه، وتحقيق التفوق على الجار. ويندرج هذا السباق في سياق الصراع الذي يدور محوره حول الصحراء الغربية منذ العام 1974. وتتبوأ الجزائر الرتبة الثانية في أفريقيا والثالثة والعشرين في العالم من حيث التسلح وعدد الطائرات الحربية والقوة البحرية، بحسب الموقع الأمريكي المتخصص بشؤون الدفاع “غلوبل فاير باور” . أما المغرب فحلَ في الرتبة 55 من لائحة الموقع المذكور.

يلحظُ المتابع لسباق التسلح الإقليمي، والذي كانت ليبيا القذافي أيضا جزءا منه قبل 2011 تزايدا مضطردا في النفقات العسكرية، مثلما أسلفنا، فمنذ سنة 2013 حدث انعطاف في نفقات التسلح الجزائرية إذ بلغت 13 مليار دولار، وهي تقدر حاليا بأكثر من 5 في المئة من الناتج الوطني الخام. وفيما انتقد بعض الجزائريين استمرار الإنفاق العسكري الكبير حتى بعد إطلاق الجزائر خطة تقشفية، في أعقاب أزمة 2014 الاقتصادية، وفي ظل تراجع إيرادات البلد من النفط والغاز، دافع آخرون عن هذا الخيار، مستدلين بوجود تحديات إقليمية كبيرة، بينها الصراع المسلح في ليبيا وتداعياته على المناطق الحدودية، والحرب التي تشنها قوات فرنسية على الجماعات المسلحة في النيجر ومالي، البلدان المحاذيان للجنوب الجزائري، ومن بينها أيضا بقايا العناصر المسلحة التي ما زالت تتحرك في المناطق الجبلية الشرقية، وإن تراجع خطرُها على أمن البلد، بعد الضربات التي تلقتها في السنوات الأخيرة. ويمكن القول إن أنصار تحديث المؤسسة العسكرية أكثر عددا من المنتقدين، بالنظر لحجم التحديات الأمنية الراهنة التي تواجهها الجزائر على مدى 7000 كيلومتر من الحدود المشتركة مع سبعة بلدان مجاورة، ما يستدعي وجود جيش قوي لمراقبتها. لكن من المتوقع أن يتراجع حجم الانفاق العسكري في السنوات المقبلة بعدما تستكمل الجزائر تجديد الأسطول الحربي الجوي وتحديث باقي القطاعات العسكرية.

الجيش الأقوى؟

مع ذلك أكد الرئيس عبد المجيد تبون لدى الزيارة التي أداها لوزارة الدفاع يوم 28 كانون الثاني/يناير الماضي، (وهو في الوقت نفسه وزير الدفاع) ضرورة تطوير قدرات الجيش، بالنظر لشساعة البلد، في ظل التحديات الأمنية المستجدة في دول الجوار السبع، والتي “تستدعي تعزيز القدرات الدفاعية، كلما زاد تدفق السلاح على مناطق التوتر المحيطة بحدودنا” بحسب ما قال. وشدد في الآن نفسه على أهمية تنويع مصادر السلاح “بُغية المحافظة على جاهزية العتاد العسكري وتجديده وتحديثه، من أجل تأمين المنشآت الصناعية والاقتصادية الحيوية”. كما أبرز ضرورة تأمين الحدود “بعتاد وتجهيزات متطورة، خاصة في مجال الاستطلاع والحرب الإلكترونية، بما يضمن الكشف المبكر عن أي تهديد أيا كان نوعه ومصدره”.

بالإضافة إلى القوتين العسكريتين المغاربيتين الجزائر والمغرب، تستأثر مصر بقسم مهم من صفقات السلاح الأفريقية. وبحسب مصادر روسية اشترت مصر من روسيا مقاتلات متطورة من طراز سوخوي “سو-35”. وأكدت الصفقة مصادر أمريكية أيضا، لكن واشنطن انتقدتها، مُعتبرة أنها “تمنح الجيش المصري تفوقا جويا في الإقليم” على ما قال موقع “روسيا اليوم” الرسمي. ويتساءل المصريون “لماذا تُحرم علينا واشنطن اقتناء طائرات حربية متطورة من روسيا بينما هي ترفض تزويدنا بالطائرات المقاتلة “أف 35″ التي زودت بها إسرائيل؟”

وصول السرب الأول

وأفاد موقع “توب وار ” (Top War) المتخصص بالشؤون العسكرية، يوم 27 الشهر الماضي أن مصر تسلمت السرب الأول من هذه الطائرات، بعدما أقلع من مصانع “كومسومولسك” واتجه إلى الجزء الأوروبي من روسيا في طريقه إلى مصر. وكان مسؤولون في وزارة الدفاع المصرية وقعوا في 18 آذار/مارس من العام الماضي على صفقة تخص شراء 24 مقاتلة متطورة من طراز “سو-35” بقيمة 2 ملياري دولار، مع التجهيزات التابعة لها. واعتبر عضو لجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان المصري الجنرال حمدي بخيت أن الطائرات الجديدة ستعزز سلاح الدفاع الجوي المصري، الذي يشتمل على طائرات متطورة من طرازات “ميغ 29″ و”رافال” و”أف 16″ فيما هدد كل من وزير الخارجية ووزير الدفاع الأمريكيين مايك بومبيو ومارك أسبر بفرض عقوبات على مصر إن هي تمسكت بالصفقة مع موسكو. وأكدا أن تلك الخطوة ستُضر في المستقبل بالاتفاقات الدفاعية المبرمة بين واشنطن والقاهرة.

صفقات ضخمة مع القذافي

انخرطت ليبيا في وقت مبكر في هذا السباق نحو التسلح اعتبارا من سبعينات القرن الماضي، على حساب خطط التنمية. وشكل ذلك السلاح وقودا للحرب الأهلية التي يكتوي أبناء البلد بنارها منذ 2014. واستفاد القذافي من ثمار الطفرة النفطية وتحسُن علاقاته مع الدول الكبرى بعد رفع العقوبات الدولية عن ليبيا، لكي يُجدد ترسانته المؤلفة أساسا من أسلحة روسية الصنع، ويُحافظ على مسافة مهمة من التفوق العسكري على الجيران، وخاصة في منطقة الساحل والصحراء، التي كان يعتبرها المجال الحيوي لنفوذه الإقليمي.

وعلى الرغم من العلاقات المتينة بين روسيا وليبيا القذافي، أبرمت طرابلس صفقات كبرى مع فرنسا، كانت أولاها في أواسط سبعينيات القرن الماضي للحصول على طائرات حربية من طراز “ميراج”. وتكررت الصفقات الضخمة بعد نهاية العقوبات الدولية التي أخضعت لها ليبيا في القرن الماضي. في هذا الإطار أبرمت باريس وطرابلس بمناسبة زيارة العقيد القذافي لفرنسا في 2008 عقودا عسكرية قُدرت قيمتها بـ4.5 مليار دولار. وتضمنت قائمة المشتريات 14 طائرة عسكرية من طراز “رافال” و35 مروحية و6 طرادات سريعة وسفينتين عسكريتين وبطاريات صواريخ و150 آلية مصفحة، لكن تلك العقود كانت ما تزال قيد الانجاز لدى الإطاحة بالقذافي في 2011.

وأبرم النظام السابق عقودا أخرى أيضا مع روسيا، في إطار الخطة الليبية للتسلح، على إثر رفع العقوبات الدولية عنه. وشملت العقود عشرين طائرة حربية من طرازي “سوخوي 34″ و”ياك” المخصصة للتدريب. وكان الليبيون اشتروا أسلحة روسية بقيمة فاقت ملياري دولار خلال زيارة القذافي لموسكو في 2008. وأفادت وكالة “إنتر فاكس” في حينه أن ليبيا أبدت اهتماما بشراء أنظمة صواريخ أرض/جو من طراز “أس 300” و “تي أو آر أم 1″ و”باك” إلى جانب عدد من الطائرات المقاتلة والعشرات من المروحيات ونحو 50 دبابة. واتفقت روسيا مع ليبيا أيضا على عقود لتطوير الأسلحة الليبية التي تعود لأيام الحقبة السوفييتية. وسهل الجانب الروسي إبرام تلك الصفقات بإقدامه على شطب الديون المستحقة على طرابلس، مقابل شراء الأسلحة الجديدة.

انتفاضة قوضت المسار

في الوقت نفسه كانت باريس تتفاوض مع ليبيا على صفقة لتحديث 30 طائرة حربية من طراز ميراج أف1 كانت اشترتها منها قبل فرض الحظر على تصدير الأسلحة إليها. وتعهدت شركتا “أستراك” و”داسو للطيران” الفرنسيتان بمتابعة المفاوضات الفنية لتحديد سعر كلفة التحديث، غير أن انتفاضة 2011 قوضت تلك المفاوضات.

وفي خط مواز لوحظ أن البلدين الأقل إنفاقا على التسلح في شمال أفريقيا، وهما تونس وموريتانيا، زادا من النفقات المخصصة للقوات المسلحة في السنوات الأخيرة بشكل لافت، لكن ليس بسبب وجود خلافات مع الجيران، وإنما جراء تنامي خطر الجماعات الإرهابية التي نفذت عمليات دموية في البلدين.

صواريخ بدل الرغيف

في المُحصلة يبدو السباق نحو التسلح في مثابة كرة حديدية في ساقي كل بلد مغاربي، تُعطل تقدُمهُ نحو تنفيذ مشاريع اجتماعية، وبخاصة في مجالي الصحة والتعليم، وتُؤخر إيجاد فرص عمل لمئات الآلاف من الشباب المتخرجين من الجامعات والعاطلين عن العمل. ويمكن أن نحتسب كم من فرصة عمل أهدرت بسبب شراء صاروخ أمريكي واحد جو جو من طراز أمرام 120 amraam والذي كان سعره لا يقلُ عن 400 ألف دولار في حينه، أو الصاروخ المضاد للرادارات من طراز “إي جي أم- 88 هارم” AGM-88 HARM والذي لا يقلُ سعر الواحد منه عن 300 ألف دولار (وهي الصواريخ التي تزوَد بها المغرب على سبيل المثال) لكي نُدرك أن هذا السباق في مثابة بئر بلا قاع. وتنطبق الكلفة الاجتماعية الباهظة للتسلح كذلك على البلدين اللذين يملكان إيرادات كبيرة من النفط والغاز، الجزائر وليبيا، ولكن أيضا على البلدين الأصغرين من حيث الانفاق العسكري، وهما تونس وموريتانيا، اللذين نقلا قسما من اعتمادات الموازنة من المجالات الاجتماعية إلى المجال الدفاعي.

تعليقات