رشيد خشــانة – بحسم مسألة انتخاب رئيس الدولة من الشعب مباشرة، يكون الليبيون قد فضلوا النظام الرئاسي على البرلماني، بعد فترة غير طويلة من التجاذبات حول طبيعة النظام المُفضل.

بعد احتدام الجدل بين الفرقاء الليبيين على شروط الترشيح لرئاسة الدولة، توصل أعضاء مجلس النواب إلى صيغة اعتُبرت «توافقية» قبل أن يُحيلوا المشروع على لجنة الصياغة النهائية. وبموجب الاقتراح سيُنتخب رئيس الدولة من الشعب مباشرة، في الانتخابات المُقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل. وسيُتاح لموظفي الدولة المدنيين والعسكريين الترشُح لرئاسة الدولة، بشرطين أولهما أن يتوقف المُترشح عن عمله قبل ثلاثة أشهر من تاريخ الاقتراع، مع إمكان العودة إلى مركزه السابق إذا ما أخفق في الحصول على ثقة الناخبين. ويتمثل الشرط الثاني في أن يكون ليبيا مسلما من أبوين مسلمين، ومتزوجاً من ليبية.
وبحسم مسألة انتخاب رئيس الدولة من الشعب مباشرة، يكون الليبيون قد فضلوا النظام الرئاسي على النظام البرلماني، بعد فترة غير طويلة من التجاذبات حول طبيعة النظام المُفضل.
ولدى مناقشة هذه المسألة، كان هناك تباعد في المواقف من الصلاحيات التي يمكن أن يتمتع بها الرئيس، ففيما كان أنصار النظام البرلماني يدفعون نحو الحد من صلاحيات الرئيس، مخافة الانزلاق مجددا إلى الحكم الفردي والنظام الاستبدادي، كان الفريق المقابل يُصرُ على ضرورة منح الرئيس صلاحيات واسعة تجعله قادرا على حسم كثير من القضايا الشائكة. واستدل أصحاب هذا الرأي بإخفاق النظام البرلماني في تونس، في تحقيق انتقال سلس نحو الديمقراطية، ما أفسح المجال للرئيس قيس سعيد للاستئثار بجميع السلطات التنفيذية والتشريعية، بعد إقالة رئيس الحكومة وتجميد مجلس النواب.
ومن المدافعين البارزين عن النظام الرئاسي النائب سليمان فقيه، الذي اعتبر أن هناك «عقلا جمعيا في ليبيا يريد انتخابات رئاسية» مع ضرورة تجاوز الصراع السياسي، من دون الوقوع في دكتاتورية أو حكم الفرد. ولوحظ لدى مناقشة مواد مشروع قانون انتخاب الرئيس أن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، حليف الجنرال المتقاعد حفتر، أكد أن الانتخابات ستتم في ميقاتها المقرر.
وقال صالح في تصريح لوكالة «سبوتنيك» الروسية إن المجلس مستعد لاعتماد قانون الانتخابات الرئاسية خلال أسبوع أو أسبوعين، مؤكدا أن «الشعب يريد الانتخابات، وهي المَخرج الوحيد للأزمة الليبية، كما أن إلغاءها سيؤدي إلى التقسيم والفوضى واستمرار الحرب». وجاء على لسان رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة كلام مشابه، للتحذير من مساعي مَن وصفهم بـ»الفاشلين» الرامية إلى تعطيل الانتخابات، مشددًا على أن هذا الاستحقاق «هدف سامٍ لن نسمح للفاشلين بعرقلته» على ما قال الدبيبة.
على الصعيد العملي أعلنت الحكومة أنها حولت أكثر من 200 مليون دينار لصالح وزارة الداخلية، للمساهمة في تنفيذ خطة تأمين الانتخابات، كما رفعت العراقيل الإدارية عن تسييل المبالغ المالية اللازمة للمفوضية العليا للانتخابات، وقامت بإيداعها في حسابات المفوضية.

ضغوط أمريكية

الظاهر أن أمريكا تمارس ضغوطا على الفريقين الليبيين المتصارعين، لضمان إجراء الانتخابات المقبلة. وتندرج في هذا الإطار الجولة الأخيرة للموفد الأمريكي الخاص إلى ليبيا، السفير ريتشارد نورلاند، على كل من مصر وتركيا والمغرب، والتي ركزها، بحسب بيان للسفارة الأمريكية، على «الضرورة الملحة» لوضع الأساس الدستوري والإطار القانوني المطلوبين لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة.
كما حمي في الأيام الأخيرة وطيس الحرب الكلامية حول التأخير المسجل في توحيد مؤسسات الدولة المُفككة، وخاصة المصرف المركزي ووزارات الدفاع والداخلية والمال، وهي إحدى المهمات الرئيسة التي أخذتها حكومة الوحدة الوطنية على عاتقها لدى تشكيلها في آذار/مارس الماضي، ولم يُسجل فيها تقدم يُذكر. وكان لافتا أن بوابة «الوسط» الليبية لاحظت عودة ما أسمته «مفردات لغة الحرب» مجددا مع اقتراب العد التنازلي للانتخابات.
في السياق نفسه أكد تقرير بريطاني صدر أخيرا، أن استمرار الانقسام السياسي والمواجهات المسلحة «يحدان من القدرة على مكافحة الإرهاب» على الرغم من محاولة السلطات الحد من عدد الإرهابيين في غرب البلاد وشرقها. وتطرق التقرير الذي أصدره «المركز الدولي لدراسة الراديكالية» التابع لكلية «دراسات الحرب» بجامعة «كينغز كوليدج» البريطانية، إلى موضوع «الجهود الرامية لمكافحة الإرهاب في منطقة شمال أفريقيا» ليُؤكد أنه بالرغم من القضاء على عشرات من مقاتلي تنظيمي «داعش» و»القاعدة» ما زالت جهود مكافحة الإرهاب في ليبيا غير كاملة أو منظمة. ويُشير التقرير بصورة خاصة إلى غياب حكومة يتوافق عليها الجميع أو برلمان يسنُ التشريعات اللازمة للحد من أي نشاط إجرامي. كما يُشدد على أن استمرار الانقسام السياسي وبقاء المواجهات المسلحة بين المجموعات المتصارعة يزيدان من تعقيد الموقف، ويطيلان أمد التخلص من آفة الإرهاب.
وبالرغم من الدعوات المتكررة لسحب المقاتلين الأجانب من كافة الأراضي الليبية، وآخرها الدعوة الصادرة عن مؤتمر برلين الثاني، لا توجد محاولات جادة في هذا الاتجاه، إذ لم تسع حكومة الوحدة الوطنية إلى تقسيم المرتزقة بحسب جنسياتهم، كي تمارس ضغوطا حقيقية على الأطراف الأجنبية. ولا توجد إحصاءات دقيقة عن أعداد المرتزقة، التي تُقدر بما بين 20 و30 ألف عنصر.

أجنحة مُتكسرة

غير أن الباحث في الشأن الليبي جليل حرشاوي لا يعتبر مشكلة المقاتلين الأجانب أكبر المسائل المطروحة في ليبيا اليوم، على الرغم من أن السيادة الليبية تنتهك بشكل يومي، على ما قال. ويعتقد حرشاوي، وهو باحث في شبكة المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة العابرة للحدود، ومقرها في جينيف، أن ليبيا تُجابه حاليا مشاكل أكثر إلحاحاً، واصفا الوضع الراهن بالانتكاسة، لأن وزارة المال على سبيل المثال، تتصرف بشكل مستقل في الشرق، في حين لم يتحقق حتى الآن توحيد جناحي المصرف المركزي، المُشتت بين مقره الرئيس في طرابلس والفرعي في بنغازي.
واعتبر تقرير جامعة «كينغس كوليج» أن هناك ثلاثة عناصر تؤثر في سياسة مكافحة الإرهاب بليبيا، وهي انقسام المؤسسات السياسية، والفساد الاقتصادي، وحالة الاستقطاب، علما أن البرلمان الليبي لم يسن أية تشريعات لمكافحة الإرهاب منذ انقسام المؤسسات بين الشرق والغرب في 2013 و2014 عدا القانونين رقمي 27 و53، اللذين يرميان إلى حل المليشيات غير التابعة للدولة، ودمج الجماعات المسلحة في كيان جديد يمثل الدولة. ومع أن المؤتمر الوطني العام (برلمان انتقالي) اعتمد هذين القانونين، في 2013 فإنهما لم يعرفا طريقهما للتطبيق منذ ذلك التاريخ.
وأشار التقرير إلى أن القوانين الخاصة بمكافحة الإرهاب متضمنة في القانون الجنائي، حيث توجد مادتان تنصان على تجريم الأعمال التي تهدد الأمن القومي، بما في ذلك الإرهاب، والترويج للأعمال الإرهابية وتمويل الإرهاب. وتابع «بينما يقوم الدبلوماسيون الليبيون بالتوقيع على الاتفاقات الدولية، فإن قدرتهم على تطبيقها في بلدهم شبه منعدمة، فمنذ إجراء أول انتخابات حرة في ليبيا في 2012 تم طرح عدة تشريعات لمكافحة الإرهاب، مثل القانونين المذكورين، اللذين يهدفان لحل الميليشيات غير التابعة للدولة، ودمج الجماعات المسلحة في كيان جديد يمثل الدولة». وفي 2013 قام المؤتمر الوطني العام بتبني هذه القوانين ولكن لم يتم تطبيقها إطلاقاً.
في هذا المناخ تشهد ليبيا تطبيقاً عشوائياً من أطراف مسلحة كثيرة، لإجراءات مكافحة الإرهاب من دون أساس قانوني. وبحسب تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية في نيسان/ابريل 2021 أصدرت المحاكم العسكرية الليبية أحكاماً بحق المئات من المدنيين في شرق ليبيا، بعد محاكمات «عسكرية سرية وغير عادلة إلى حد بعيد».

تساؤلات لدى المراقبين

ومع أن نفوذ تنظيم «داعش» في تراجع منذ العام 2016 يعتقد الخبراء الأمنيون أنه ما زال هناك احتياج لمواصلة جهود مكافحة الإرهاب، مع الأخذ في الاعتبار حالة عدم الاستقرار على الصعيدين الداخلي والإقليمي، وكذلك اتساع الأراضي الليبية، وهو ما يسمح للمنظمات غير الشرعية بحرية نسبية للحركة. ولوحظ أن الهجمات الإرهابية في السنوات الأخيرة تركزت في المناطق الخاضعة لنفوذ قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، أكثر مما كان عليه الحال في مناطق غرب ليبيا. ويُعزى ذلك إلى أن مناطق شرق ليبيا أكثر اختراقاً من قبل الجماعات السلفية الجهادية، قياسا على المنطقة الغربية. كما أن استمرار هذا النشاط الإرهابي يطرح تساؤلات لدى المراقبين بشأن مدى فاعلية الإجراءات القاسية والعشوائية التي تقوم بها قوات حفتر، في إطار ما تزعم أنه «مكافحة للإرهاب.»
وأكد تقرير منظمة العفو الدولية أن المحاكمات العسكرية شملت مدنيين تم استهدافهم فقط «بسبب انتقادهم قوات حفتر» مشيراً إلى أن أحكاما بالإعدام صدرت بحق 22 شخصاً على الأقل وتم سجن المئات، في الفترة بين كانون الثاني/يناير 2018 ونيسان/أبريل 2021.
وعادة ما تقوم الميليشيات «المستقلة» باعتقال الأفراد بناء على تُهم مزعومة بالإرهاب، ولا يتم إخطارهم بحقوقهم. وعلى الرغم من إصدار عدة تعديلات قانونية، لم يتقدم مجلس النواب ولا حكومة الوفاق السابقة بأية خطة استراتيجية لمكافحة الإرهاب. ولم تطل الملاحقات القضائية سوى أعداد قليلة ممن يستحقون الملاحقة. ولاحظ واضعو التقرير أن «الميليشيات المرتبطة بشكل غير رسمي بالدولة تتصرف على أساس أنها أجهزة أمن تنفيذية، وتقوم باعتقال المتهمين بالتورط في الإرهاب» وهي تتصرف عادة بشكل محلي، بعيداً عن أية آليات للتنسيق أو الرجوع إلى المؤسسات المركزية.
من هنا لا توجد قوة عسكرية موحدة بين الشرق والغرب، بل يزداد هذا الانقسام استفحالا مع ارتباط كل طرف بقوة إقليمية منافسة للأخرى. ففي الشرق حصلت القاهرة على دعم من مجلس النواب، في تموز/يوليو 2020 لتدخلها في الشؤون الأمنية الليبية بعد الموافقة على قرار يسمح لمصر بالتدخل عسكريا في الأراضي الليبيةً. وحصلت القاهرة على صفقات مهمة في إطار خطة معاودة الإعمار الليبية.
في الجهة المقابلة أمنت تركيا الدعم والتدريب للقوات التابعة لحكومة «الوفاق الوطني» السابقة منذ نهاية 2019 في أعقاب توقيع مذكرات تفاهم بشأن التعاون العسكري والحدود البحرية والتعاون الاقتصادي. وتوصل وزيرا الصحة الليبي علي الزناتي والتركي فخر الدين قوجة إلى مذكرة تفاهم وقع عليها أخيرا وزيرا الصحة التركي والليبي تشمل التعاون والتدريب قصير المدى للكوادر الطبية، وتطوير خدمات الرعاية الصحية ومكافحة جائحة فيروس كورونا المستجد. كما شملت تجهيز وإدارة وتشغيل بعض المستشفيات ومراكز العزل في ليبيا. ولم يُكشف عن قيمة الصفقة، التي ستكون لها آثار سلبية على القطاع الاستشفائي الخاص في كل من تونس والأردن ومصر، الوجهات التقليدية لليبيين، في المجال الطبي، إلى جانب تركيا.

تعليقات