رشيد خشــانة – عطلت أمريكا مبادرة الأمين العام للأمم المتحدة الرامية إلى تشكيل قوة أفريقية قادرة على مجابهة التنظيمات الإرهابية، بينما تحمست لها فرنسا.

تزداد اللعبة الاستراتيجية في ليبيا وفي جوارها تشعُبا واتساعا، مع تخطيط روسيا للتمدُد في منطقة الساحل والصحراء، عن طريق مرتزقة «فاغنر». ويتزامن ذلك مع مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بتشكيل قوة أفريقية قادرة على استعمال السلاح، لمجابهة التنظيمات الإرهابية المنتشرة في المنطقة. وفيما عطلت أمريكا هذه المبادرة، فإن فرنسا بدأت تُراجع قرار ترحيل نصف قواتها من المنطقة، في أعقاب مقتل قائد تنظيم «الدولة الإسلامية» في منطقة الصحراء الكبرى عدنان أبو وليد الصحراوي.
وقد نبعت مبادرة غوتيريش من خشيته تكرار السيناريو الأفغاني في دول الساحل الفقيرة، التي لا تملك جيوشا نظامية على الطراز الحديث. وهو يعتقد أن سقوط كابول في أيدي قوات طالبان، ألهب حماسة الجماعات الإرهابية في الساحل لتحقيق أهداف لم تتصورها من قبل. وحذر غوتيريش، من أن هذه المنطقة هي الخاصرة الرخوة التي تحتاج إلى علاج سريع، لأن الخطر لم يعد يقتصر على مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وإنما لوحظت أيضا تسرُبات إلى غانا وكوت ديفوار المجاورتين.
لكن أمريكا، التي اكتوت بنار الحروب في أفغانستان والعراق ولبنان والصومال وغيرها، مُصرة على رفض تشكيل قوة عسكرية تعمل تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، على عكس فرنسا التي سعت علنا إلى إشراك بلدان أوروبية أخرى، في إطار عملية «برخان» وقوامها أكثر من 5000 عسكري فرنسي.
ويجوز القول إن تلك الجماعات عرفت تطورات لافتة منذ العام 2001 إذ أن مصادر تمويلها تحسنت بشكل كبير، كما أن قدرتها على التأقلم مع اختلاف الأوضاع زادت عما قبل، بحسب الباحث العراقي الفرنسي عادل بكوان، مدير المركز الفرنسي للبحث حول العراق في باريس.
ويميل غالبية الباحثين في الشؤون الاستراتيجية إلى القول إن أمن البلدان ذات البنية العسكرية الهشة لا يمكن تفويضه إلى القوى الخارجية بشكل دائم، وإنما ينبغي أن تضع تلك البلدان في مقدم أولوياتها بناء جيش عصري وقوات درك وشرطة بالمفهوم الحديث، وهو مسار يستغرق وقتا طويلا وكثيرا من الامكانات غير المتوافرة لبلدان ما زال المستعمر السابق ينعم بإدارة ثرواتها الطبيعية، بلا رقيب ولا حسيب.
خارج دائرة الجوار الجنوبي، الذي يشكل مصدر قلق بالغ لليبيين، حققت الحكومة المؤقتة في طرابلس خطوات مهمة إلى الأمام مع الجيران غربا وشرقا، على نحو عزز صورة ليبيا بوصفها بلدا يتعافى من الحروب، ويبني علاقات جديدة مع جواره المباشر. فمع مصر طوى اجتماع اللجنة المشتركة الليبية المصرية، أخيرا في القاهرة، برئاسة الدبيبة ونظيره المصري مصطفى مدبولي، صفحة التباعد والتوتر في العلاقات الثنائية مع الحكومات الليبية السابقة. وانعكست الانعطافة في مذكرات التفاهم التي توصل لها الجانبان (13 مذكرة تشمل قطاعات مختلفة) والتي تُعتبر صفحة جديدة مع مصر، التي طالما دعمت الجنرال المتمرد خليفة حفتر.
واستطرادا ستحوز مصر على قسم من مشاريع المقاولات وإعادة الإعمار في ليبيا، بحسب تصريحات الدبيبة، الذي وعد بتسهيل إجراءات دخول العمال والمعدات المصرية إلى ليبيا «بسرعة قياسية». ونقل عن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي استقبله في اليوم نفسه، أنه عبر عن «دعمه الراسخ لتحقيق السلم والاستقرار في ربوع ليبيا» كما أكّد دعمه الكامل لحكومة الوحدة الوطنية.
وقبل القاهرة كان الدبيبة في تونس لمسح الضباب الذي لف العلاقات الثنائية في أعقاب غلق معبر راس جدير في الجانب التونسي من الحدود المشتركة. واستطاع الدبيبة الحصول من الرئيس التونسي قيس سعيد على وعد بمعاودة فتح المعبر، وهو ما تم لاحقا.
أما الجزائر فأوفد لها الليبيون نائب رئيس المجلس الرئاسي موسى الكوني على رأس وفد رسمي، اجتمع مع الرئيس عبد المجيد تبون وخلال الاجتماع أبلغ تبون ضيوفه الليبيين أنه قرر إعادة فتح سفارة الجزائر في طرابلس وقنصليتها في سبها (جنوب) إلى جانب استئناف الرحلات على الخط الجوي الجزائر- طرابلس، وكذلك فتح معبري غات وغدامس الحدوديين.
في مقابل هذا النزوع العام لدعم مسار السلم والاستقرار في ليبيا، ما زال الجنوب مصدرا لمخاطر مستمرة على أمن ليبيا القومي. ومن تجليات ذلك الخطر الاشتباكات التي جرت الثلاثاء الماضي بين قوات تابعة للجنرال حفتر وعناصر من المعارضة التشادية في منطقة تربو جنوب ليبيا. وأفادت أوساط حفتر أن مقاتلاته استهدفت مواقع المعارضين التشاديين المنتمين إلى «جبهة الوفاق من أجل التغيير».

قواعد روسية؟
ويُرجح خبراء روس أن موسكو تسعى لإنشاء قواعد عسكرية دائمة في ليبيا، لاسيما حيث يوجد مرتزقة روس. وفي هذا الإطار يمكن إنشاء قاعدة بحرية في سرت، أو منشأة جوية في الجفرة. غير أن مسار المصالحة وعودة الاستقرار يقضي بأن تكون مدينة سرت مقرا للسلطات الجديدة، وهي حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي، وبالتالي ينبغي أن تكون منزوعة السلاح، باعتبار ذلك المرحلة الأولى من المسار السلمي.
وتُشارك الأمم المتحدة دول المنطقة مخاوفها من تنامي الجماعات المسلحة وعصابات التهريب في جنوب ليبيا. وفي السياق ركز تقرير أممي جديد على القلق من التحديات الأمنية التي تمثلها سهولة اختراق الحدود بين إقليم دارفور من جهة وليبيا ودول مجاورة، من جهة ثانية. وحمل التقرير توصيات تم تقُديمها لمجلس الأمن ليستأنس بها في عملية رفع «عقوبات دارفور» المفروضة على السودان.
وقبيل انعقاد جلسة الثلاثاء الماضي لمجلس الأمن حول السودان، قدمت الحكومة السودانية خلال اجتماع طارئ لمجلس الأمن والدفاع السوداني، برئاسة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، تحفظاتها على التوصيات الواردة في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش، مشددة على رفضها أي «وصاية على البلد». ولم يستبعد الخبير الروسي كيريل سيمينوف أن تتوصل تركيا وروسيا، على الرغم من خلافاتهما، إلى «تفاهم متبادل» في مواجهة المصالح الأمريكية، التي تسعى للإبقاء على جميع القوات الأجنبية خارج ليبيا.
وسيعتمد نجاح المسار السلمي في ليبيا، على مدى قبول تلك القوى الخارجية، التي دعمت هذا الفريق أو ذاك، بالعملية التي توسطت فيها الأمم المتحدة، بما في ذلك تركيا وروسيا. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2020 توسطت ستيفاني ويليامز، الممثلة الخاصة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة بالإنابة ورئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، لإقرار وقف لإطلاق النار، بعدما استعصى ذلك على أسلافها.
والتزمت أمريكا في البدء بموقف محايد، يقتصر على دعم الخطة الأممية، وإن كان الرئيس السابق ترامب أجرى مكالمة هاتفية مع الجنرال حفتر، لدى إطلاق الأخير هجومه على العاصمة طرابلس. إلا أن واشنطن غيرت موقفها مع توغل المرتزقة الروس في الأراضي الليبية، دعما لقوات حفتر. ولوحظ أن القائم بأعمال المندوب الدائم للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ريتشارد ميلز حض أخيرا كلا من روسيا وتركيا والإمارات، على «احترام السيادة الليبية والوقف الفوري لجميع التداخلات العسكرية في ليبيا». وخص بالذكر تركيا، مع أنها حليفة أمريكا في الحلف الأطلسي.
في خط مُواز تابع المغرب مساعيه لجمع رئيسي مجلسي النواب والدولة، عقيلة صالح وخالد المشري، في محاولة من الرباط لتقريب وجهات النظر بين المجلسين. ويُعارض المشري استفراد البرلمان بإصدار قانون الانتخابات. ورجح الأكاديمي الليبي مصطفى الفيتوري أن ترفض تركيا أية سلطة تنفيذية جديدة في ليبيا، إذا ما شعرت أن مثل تلك الحكومة قد تلغي مذكرتها الأمنية وصفقاتها البحرية التي سبق أن وقع عليها رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج والرئيس التركي اردوغان، أواخر العام 2019.
لكن من غير المستبعد أيضا أن يتوقف كلا الجانبين عن الضغط من أجل سحب القوات الأجنبية، خلافا لما ينص عليه اتفاق وقف إطلاق النار، الموقع في 2020 والذي ينص في بنده الثاني على «إخلاء جميع خطوط التماس من الوحدات العسكرية والمجموعات المسلحة، بإعادتها إلى معسكراتها، بالتزامن مع خروج جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب من الأراضي الليبية برا وبحرا وجوا في مدة أقصاها 3 أشهر من تاريخ التوقيع على وقف إطلاق النار، وتجميد العمل بالاتفاقات العسكرية الخاصة بالتدريب».

معركة لي أذرع

ويوجد في خلفية المواقف المتباعدة بين الفرقاء الليبيين من الحل السياسي، صراع على النفط يهدد عملية الانتقال السياسي الهشة. وتجلى ذلك بوضوح خلال معركة لي الأذرع بين الرجل القوي في القطاع مصطفى صنع الله ووزير النفط والغاز الجديد محمد عون. واتهم المهندس صنع الله، الذي يرأس «المؤسسة الوطنية للنفط» الوزير عون بالعمل على زعزعة مؤسسة النفط بدوافع شخصية. وتردد أن عون، الذي سُمي في هذا المنصب الوزاري لدى تشكيل حكومة الدبيبة في آذار/مارس الماضي، جيء به إلى الحكومة من أجل إضعاف صنع الله واسترضاء أصحاب النفوذ في المنطقة الشرقية، أي الجنرال حفتر، الذي سعى منذ زمن غير قصير للتخلص من صنع الله.
وكان محمد عون، قبل سنوات، ضالعا في مخطط «شركة نفط الشمال الشرقي» الانفصالية، التي رمى أصحابها إلى إضعاف صنع الله والمؤسسة الوطنية للنفط بأكملها، كمؤسسة تكنوقراطية مركزها طرابلس. وحاول عون عزل صنع الله أثناء سفر الأخير إلى الخارج ، متهمًا إياه بارتكاب جريمة «انتهاك أنظمة السفر». غير أن رئيس الحكومة الدبيبة أبطل قرارات الوزير عون.
ويعتقد الخبير جايسون باك أن إيرادات القطاع النفطي ساهمت في نمو نخبة ثرية، غالبًا من مشاريع القطاع العام الفاسدة، الممولة من مداخيل النفط، ما جعل السيطرة على هذا القطاع الحيوي، قضية سياسية رئيسة.
ويذهب باك إلى القول إن النجاح الوحيد للانتقال الليبي بعد معمر القذافي هو أن احتكار «المؤسسة الوطنية للنفط» لإنتاج وتصدير واستيراد الهيدروكربونات تم الحفاظ عليه بشكل لا لبس فيه. وحتى عندما كانت الإدارة الليبية منقسمة إلى حكومتين متنافستين، فإن المؤسسة الوطنية للنفط «الحقيقية» فقط هي التي سيطرت على قطاع النفط. وأكد أن التشكيك في ذلك من خلال تعيين حكومة الوحدة الوطنية وزيرًا للنفط والغاز من دون الاستناد على معايير موضوعية، يؤدي إلى دراما من هذا النوع.

تعليقات