رشيد خشـــانة – طوى مؤتمر دعم استقرار ليبيا (مؤقتا) صفحة الاحتراب الأهلي، وفتح صفحة جديدة عنوانها الدعم الدولي القوي لوضع آلية برلين موضع التنفيذ.

لم يكن عقدُ مؤتمر استقرار ليبيا في طرابلس الخميس قرارا اعتباطيا، إذ تزامن مع مرور عشر سنوات على مقتل الزعيم الراحل معمر القذافي (1969-2011) في ضواحي مدينة سرت، يوم 20 تشرين الأول/أكتوبر 2011 وأيضا مع مرور سنة على التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، في 23 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، الذي وضع حدا نهائيا للحرب الأهلية.
بهذا المعنى حمل المؤتمر أبعادا رمزية كبيرة بوصفه أول مؤتمر بهذا الحجم والمستوى التمثيلي يُعقد في ليبيا، وليس في برلين أو باليرمو أو باريس، منذ «انتفاضة 17 فبراير» في العام 2011 بمشاركة وفود من31 دولة.
وبتعبير آخر فإن الرسالة الرمزية والسياسية التي أبلغتها الحكومة المؤقتة للعالم هي أن ليبيا باتت آمنة، وهي تستطيع احتضان مؤتمرات دولية، وضمان أمن وزراء الخارجية والشخصيات الأجنبية المشاركة فيها. فليس من المألوف أن نشاهد وزير الخارجية الفرنسي لودريان في طرابلس، إلى جانب نظيره (غريمه) الإيطالي لويجي دي مايو، أو وزير الخارجية السعودي في طرابلس إلى جانب نظيره الكويتي.
من هنا يمكن القول إن مؤتمر دعم استقرار ليبيا طوى (مؤقتا؟) صفحة الاحتراب الأهلي وفتح صفحة جديدة عنوانها الدعم الدولي القوي لآلية برلين. واستطرادا، يجوز اعتبار مؤتمر طرابلس في مثابة برلين3 بعد مؤتمري برلين1 و2 اللذين مهدا لتسمية الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والمجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي.
ومن بين الرسائل أيضا أن الحكومة المؤقتة هي حكومة كل ليبيا، وأن طرابلس هي عاصمة ليبيا بأسرها، خصوصا بعدما اقترح البعض عقد المؤتمر في مدينة سرت. وفي هذا الإطار نفهم دعوة وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش إلى كافة الدول بمعاودة فتح سفاراتها في طرابلس، بعدما استتب فيها الأمن والسلم.
لكن، بعيدا عن تلك الاعتبارات الرمزية يحق السؤال: لماذا هذا المؤتمر؟ الهدف الأول تمثل في توحيد الموقف الدولي بشأن تنفيذ آلية برلين، باتجاه دعم الاستقرار والأمن في سائر ليبيا، عبر إجراء الانتخابات. وهذا أمر مهم لأن الأجواء كانت مشحونة قبل المؤتمر، في أعقاب تصريحات النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء حسين القطراني، الذي طلب من الوزراء ووكلاء الوزارات وعمداء البلديات، الممثلين لإقليم برقة (شرق) الامتناع عن إصدار أية تكليفات أو إجراء أية تغييرات في المواقع القيادية، إلا بعد التنسيق المسبق معه بالخصوص.
واللافت أن القطراني حذر من أن أي خلاف في هذا المضمار «قد يؤدي إلى المساس بوحدة ليبيا» من دون إعطاء تدقيقات. وكان يشير إلى البيان الصادر أخيرا عن الوزراء ووكلاء الوزارات وعمداء البلديات الممثلين لإقليم برقة، الذين طالبوا بـ»حقوق الإقليم في كافة المجالات الخدمية والتنموية والمالية والإدارية والدبلوماسية» المنبثقة من الاتفاق السياسي المنعقد بجنيف، والمبادئ الحاكمة لخريطة الطريق.
واعتبارا للموقع الذي يشغله القطراني، بادر رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة بإصدار قرار يقضي بتشكيل فريق حكومي يوفد إلى مدينة بنغازي، في مهمة عمل رسمية، تستمر أسبوعا، لإجراء زيارات للقطاعات العامة التابعة للحكومة، بالإضافة إلى مقابلة القطراني، لمناقشة موقفه الأخير من الحكومة. وأوصى الدبيبة الوفد الحكومي بإقناع القطراني بالعودة إلى مباشرة عمله ضمن مجلس الوزراء، وإبعاد شبح الانقسام.

السحب المؤجل
شكل موضوع سحب المقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا النقطة الأكثر حساسية وإثارة للجدل في أعمال المؤتمر، إذ لم يتحقق توافق صريح وحقيقي على الخطة التي وضعتها اللجنة العسكرية المشتركة، المعروفة بـ5+5 في اجتماعها الأخير بجنيف يوم الثامن من الشهر الجاري. وما زالت بعض الدول، وخاصة تركيا وروسيا (التي لم يشارك وزير خارجيتها لافروف في مؤتمر طرابلس) تتلكأ في سحب مقاتليها ومرتزقتها من ليبيا.
والمقاتلون الأجانب في ليبيا نوعان، إذ هناك في الجانب الأول المرتزقة الروس، المُلتحفون بشركة «فاغنر» الأمنية «الخاصة» ومعهم مرتزقة من المعارضة التشادية والجنجويد السودانيون، وفي الجانب الثاني ضباط ومدربون أتراك، ومعهم مقاتلون من المعارضة السورية. وهم يُبررون وجودهم في ليبيا بكونه مُستندا على اتفاقات ومعاهدات بين حكومة الوفاق الوطني السابقة والحكومة التركية، في كانون الأول/ديسمبر 2019.
ونصّ اتفاق وقف إطلاق النار الدائم، الذي وقع عليه الفرقاء في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، على إخراج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة في غضون تسعين يوما من تاريخ إبرام الاتفاق. وانتهت المهلة المقررة لخروج هذه القوات مع نهاية كانون الثاني/يناير الماضي، من دون أن يتحقق ذلك. وتقدر الأمم المتحدة عدد القوات الأجنبية والمرتزقة المنتشرين في مختلف أنحاء ليبيا بأكثر من عشرين ألفا.
في السياق نشرت الأمم المتحدة اعتبارا من العاشر من الشهر الجاري، فريقًا أوليًّا يتألف من 10 مراقبين دوليين سيعملون مع اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) لرصد تنفيذ الأطراف الليبية أحكامًا محددة من اتفاق وقف إطلاق النار.
وانطلق عمل المراقبين من طرابلس في مرحلة أولى، إلى حين الانتهاء من الترتيبات اللازمة لنشرهم في سرت، وهي نقطة الوصل بين شرق البلاد وغربها، ومن المتوقع أن يتم نشر ستين مراقبًا على الأكثر في سرت. ومن الواضح أن هذا العدد ضئيل وإن كان قابلا للزيادة إذا ما اقتضت الظروف ذلك. والأرجح أن المؤتمر الذي ستستضيفه باريس في الثاني عشر من الشهر المقبل سيُركز على هذا الموضوع، وفقا لما قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي يبدو أنه أتى إلى طرابلس أساسا من أجل الإعلان عن هذا المؤتمر، وبدء التحضير له.

معركة تركية فرنسية
وفي خلفية هذا الموقف الفرنسي تكمن المعركة المستمرة بين باريس وأنقرة على الأراضي الليبية، وإن تراجعت حدتها قليلا في الفترة الأخيرة، فصوت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان الأعلى في انتقاد معاهدة التعاون العسكري بين حكومة السراج والحكومة التركية، وهو الذي ساعد الجنرال المتقاعد خليفة حفتر قبل إطلاق الهجوم على طرابلس وأثناءه، مثلما أثبتت ذلك الصواريخ الفرنسية، التي غنمتها القوات الموالية للحكومة في مدينة غريان.
من هنا سيسعى الفرنسيون من خلال مؤتمر باريس، لاستصدار قرارات حازمة ضد تركيا، إلى جانب تفعيل الخطة التي وضعتها لجنة 5+5 في اجتماعها الأخير بجنيف.
ورأى مراقبون أن فرنسا، التي فقدت كثيرا من مصداقيتها بسبب انحيازها إلى طرف من أطراف الصراع الليبي، تسعى لاستعادة ثقة الليبيين بها من خلال هذا المؤتمر، الذي ستشارك فيه دول الجوار، إلى جانب القوى الدولية المؤثرة في المشهد الليبي.
إلا أن مؤتمر طرابلس لم يكن نجاحا مطلقا، فبالاضافة لغموض الموقف من آليات ترحيل القوات الأجنبية، وجه البيان الختامي لوما ضمنيا إلى حكومة الوحدة الوطنية، عندما حضها على احترام تعهداتها واحترام القانون الدولي الانساني. وكان أكثر وضوحا من خلال حضه إياها على التعاون مع بعثة تقصي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الانسان، في إشارة غير مباشرة إلى الجرائم التي تم كشف الستار عن بعضها، وخاصة المقابر الجماعية، التي عُثر عليها في مدينة ترهونة (95 كلم جنوب شرق طرابلس). كما أنها إشارة أيضا إلى معاناة المهاجرين غير النظاميين، الذين تحشر السلطات الليبية كثيرا منهم في معازل لا تليق بالإنسان.

الانتخابات قضية محورية
واستحوذ موضوع إجراء الانتخابات المقررة لشهر كانون الأول/ديسمبر المقبل، في ميقاتها، عنوانا محوريا في البيان الختامي، وفي مداخلات غالبية المتحدثين، لا سيما بعد انتهاء مجلس النواب من سن قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وإعداد مشروع الدستور، الذي يُفترض أن يُعرض على استفتاء شعبي، غير أن المجلس الأعلى للدولة مُعترض على هذه النصوص. كما أن المفوضية العليا للانتخابات أكدت أنها جاهزة، من الناحيتين الفنية والبشرية، للاستحقاق الانتخابي.
لكن الغريب أن لا أحد أعلن ترشُحه للرئاسة حتى الآن، عدا ثلاثة هم وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، وخليفة حفتر، الذي لم يُعلن ترشُحه رسميا، لكنه اتخذ الإجراءات التي تُمهد لذلك، وسيف الاسلام القذافي، المتواري عن الأنظار، الذي لم يُصرح بذلك بلسانه، وإنما بألسنة المقربين منه.
والظاهر أن باشاغا يسعى لاستقطاب القاعدة الانتخابية لرجال النظام السابق، فقد استقبل أخيرا في مدينة مصراتة، وفدًا من قبيلة «القذاذفة» وتعهد لأعضاء الوفد بالدفع في اتجاه إطلاق كافة المحتجزين منذ العام 2011 «وفق الإجراءات القانونية، وذلك في إطار المساعي من أجل المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي» على ما قال للوفد. ويبدو أن كلا من حفتر وسيف الاسلام يتطلعان أيضا إلى ذلك الخزان، فهو أهم شبكة اجتماعية وانتخابية، وسيكون له تأثير في نتائج الانتخابات بلا ريب.
غير أن إحدى العقبات الكبرى في طريق تنفيذ رزنامة الانتخابات أتت من رئيس المجلس الأعلى للدولة، الذي دعا المفوضية الوطنية العليا للانتخابات إلى رفض اعتماد القانونين الانتخابيين الرئاسي والتشريعي، اللذين أقرهما مجلس النواب، ما أدى إلى تعطُل المسار.
ولن تكون جهود الموفد الأممي الخاص إلى ليبيا يان كوبيش كافية لاجتياز هذه العقبة، إذ لا يقدر على ذلك سوى الفرقاء الأقوياء في الملعب الليبي، والذين مافتئوا يرددون، في كل الأوقات، أنهم مع إجراء الانتخابات في ميقاتها. وهذه فرصة مهمة لاختبار نواياهم بوضعها على محك الفعل. أما القاعدة الدستورية التي ستُجرى الانتخابات على أساسها فحظيت بالتوافق بين المجلس التشريعي والمجلس الأعلى للدولة.

تعليقات