رشيد خشــانة – يبدو الاقبال على التسجيل في اللوائح الانتخابية مؤشرا إلى أن الليبيين في غالبيتهم العظمى يُريدون هذه الانتخابات ويحلمون بأنها ستُنهي معاناة مستمرة منذ 2011.

الداعون إلى إرجاء الانتخابات الليبية إلى شباط/فبراير المقبل، لم يأخذوا في حسبانهم حقيقة لا يستطيع أحدٌ أن يُنكرها، وهي وصاية الأمم المتحدة على الملف الليبي، الذي صارت مفاتيحُه في أيديها. وتُذكرنا ملابسات الدور الأممي في المسار الانتخابي الراهن بقرار الأمم المتحدة الخاص بإعلان الدستور الليبي في العام 1951 ثم دورها في إعلان الاستقلال يوم 24 كانون الأول/ديسمبر من السنة التالية. والمؤكد أن الأمم المتحدة، وقوى عظمى وأخرى إقليمية، استثمرت في مساري برلين 1 و2 ثم في مسار جنيف، لكي يتحرك قطار السلام، وبالتالي لن تقبل بإجهاض هذا المسار.
من هذه الزاوية نفهم قرار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بتسمية القائمة السابقة بأعمال رئيس البعثة الأممية في العاصمة طرابلس، الأمريكية ستيفاني ويليامز، مستشارةً خاصةً له في الملف الليبي. وأتت تلك التسمية في أعقاب استقالة المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا، السلوفاكي يان كوبيش. والأرجح أن غوتيريش لم يأخذ المبادرة، وإنما تلقى «نصيحة» من أمريكا، التي سبق أن اعترضت على مرشحين كُثر لمنصب الموفد الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا. بهذا المعنى زادت التسمية من أهمية الدور الأمريكي في إعادة الاستقرار والسلام إلى ليبيا، واستطرادا في تشديد الضغوط من أجل إجرائها في ميقاتها، من دون أي تأخير. وتجلى هذا الموقف مجددا في التحذير الذي وجهه السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، إلى المُمتنعين عن الذهاب إلى الانتخابات و»التحشيد لعرقلتها» بأن موقفهم لن يؤدي إلاّ إلى وضع مصير البلد ومستقبله تحت رحمة من هم داخل ليبيا وداعميهم في الخارج، الذين يفضلون قوة الرصاص على قوة الاقتراع.
زيادة على هذه الضغوط، يمكن اعتبار اتجاه البوصلة الليبية نحو الانتخابات العامة، على أنه اندراجٌ في السياق الإقليمي الراهن، الذي ظهرت تجلياته في التقارب الإماراتي التركي، الذي لم يتوقعه المُحللون الإستراتيجيون، أو لم يتوقعوا أن يكون بهذا السرعة والكثافة. هكذا أدى ولي عهد أبو ظبي زيارة غير مسبوقة منذ نحو عشر سنوات إلى أنقرة، وأخرى إلى الدوحة، هي الأولى أيضا منذ سبع سنوات. ومع كسر الجليد بين المحورين السابقين، انفتحت الأبواب الموصدة في الاتجاهين، فتبدد ما تبقى من أجواء الحرب الإقليمية التي دارت على الأراضي الليبية، مع إعلان اللواء خليفة حفتر زحفه على طرابلس، في الرابع من نيسان/ابريل 2019.
ومن هنا نلحظ الإصرار على أن تكون الانتخابات جزءا من الحل وليست جزءا من مشكل جديد. ويبدو الاقبال على التسجيل في اللوائح الانتخابية مؤشرا إلى أن الليبيين في غالبيتهم العظمى يُريدون هذه الانتخابات ويحلمون بأنها ستُنهي معاناة مستمرة منذ 2011. وأظهرت إحصاءات المفوضية العليا للانتخابات أن 2.8 مليون مواطن سجلوا أسماءهم في اللوائح من أصل 6.7 ملايين. وهؤلاء يتطلعون إلى أن تكون الحملات الانتخابية وعمليات الاقتراع حرة وشفافة وبلا مطاعن.
وتأكيدا على أن مفاتيح القرار لم تعد في أيدي الليبيين، لوحظ أن وليامز طارت، بمجرد تسلُمها المنصب الجديد، إلى موسكو حيث كان أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 مجتمعين مع مسؤولين روس، للبحث في ملف إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا، في إطار الخطة التي اتفق طرفا اللجنة بشأنها، قبل أسابيع في جنيف. ويدل هذا التحرك السريع على أن المستشارة الجديدة القديمة للأمين العام، تسعى إلى إزالة الأشواك من طريق العابرين إلى التسوية السلمية للصراع. كما أن غالبية السفراء المعتمدين في ليبيا عبرت علنا، وبجمل واضحة عن دعمها لإجراء الانتخابات في الميقات المُحدد لها، بمن فيهم تركيا، التي لا تبدو متحمسة للانتخابات.

موقف ملتبس

فأنقرة تريد أن تضمن فوز رئيس يُنفذ الاتفاقات الأمنية والاقتصادية، التي توصل لها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، مع رئيس حكومة الوفاق السابقة فائز السراج في أواخر 2018. ومن هذه الزاوية نفهم تصريح آمر التوجيه المعنوي في القيادة العامة، التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، اللواء خالد المحجوب، الذي نقل فيه موقفا مُلتبسا عن المسؤولين في وزارة الدفاع التركية، بعد زيارته أنقرة ضمن اللجنة العسكرية 5+5 فقد أكد المحجوب أن لقاءات اللجنة مع المسؤولين الأتراك «أسفرت عن نتائج إيجابية ومشجعة للغاية» مُوضحا أن الجانب التركي ربط إجلاء مُقاتليه بالتزامن مع خروج باقي المرتزقة و»بشكل يشمل الجميع، بحسب ما يتم تنسيقُهُ مع اللجنة العسكرية من تواريخ وجداول زمنية لذلك» على ما قال.
وطالما أن هذا التزامن غير ممكن عمليا، فسيكون غيابه هو الذريعة التي سيتحجج بها الأتراك للإبقاء على عسكرييهم في ليبيا، ومعظمهم من الخبراء والمدربين العسكريين، الذين يندرج وجودهم في إطار تنفيذ اتفاقات مع الحكومة الليبية السابقة، المعترف بها دوليا. وكان لافتا أن البيان الصادر في اسطنبول إثر اجتماع وفد من المجلس الأعلى للدولة برئاسة خالد المشري بوفد من البرلمان التركي برئاسة مصطفى شنطوب لم يتضمن كلمة واحدة عن الالتزام بالمشاركة في الاقتراع، بالرغم من أن البيان المشترك أشار إلى أن الجانبين ناقشا «آخر التطورات في العملية الانتخابية بليبيا». ولعل نورلاند كان يقصد المشري والأتراك حين تحدث عمن هم «داخل ليبيا وداعميهم في الخارج، الذين يفضلون قوة الرصاص على قوة الاقتراع». وحتى موقف فرنسا، الذي كان مشابها للموقف التركي المُتحفظ، بات مع المؤيدين لإجراء الانتخابات في كانون الأول/ديسمبر، بحسب ما نقل وزير الخارجية الايطالي لويجي دي مايو عن الفرنسيين، مُؤكدا حصول تحول طرأ على الموقفين الإيطالي والفرنسي، في شأن ليبيا، فبعدما كانا متعارضين تمامًا، «تجاوزا أزمتهما» ووحدا موقفهما. وكشف دي مايو النقاب عن اجتماعات دورية تعقدها الاستخبارات الفرنسية والايطالية كل ستة أشهر لتبادل المعلومات في شأن الوضع الليبي، بالإضافة لاجتماعات تنسيقية في جميع المحافل الدولية من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى مؤتمر برلين ومؤتمر باريس وطرابلس والجزائر وروما.

هل المفوضية جاهزة؟

في السياق يعتمد الداعون لإرجاء المسار الانتخابي على حجة أن المفوضية الوطنية العليا للانتخابات غير جاهزة لإجراء الانتخابات في الرابع والعشرين من هذا الشهر، بينما أكد رئيس المفوضية عماد السايح، مرارا وتكرارا، منذ أسابيع أنها جاهزة بنسبة 98 في المئة. وقرر مجلس النواب الليبي في جلسة عقدها الثلاثاء الماضي، بمقره في مدينة طبرق (شمال شرق) تشكيل لجنة لمتابعة عمل المفوضية. لكن ما ينبغي تسجيله ههنا هو انزياح المفوضية عن دورها والتخلي عن وظيفتها الأصلية، لتُقحم نفسها وأعضاءها في الصراعات السياسية، فلم تعد مواقفها دستورية ولا قانونية، بل مواقف سياسية، وهذا مزلق خطر يمكن أن يؤدي إلى تقويض مصداقيتها تماما.
الأخطر من ذلك أن الجهاز القضائي بدا خاضعا للاملاءات السياسية، فكانت محكمةٌ ابتدائيةٌ تُبطل ترشُح شخصية سياسية بارزة، فإذ بمحكمة الاستئناف تُبطل القرار الابتدائي، وتُعيد المُرشح إلى حلبة السباق الانتخابي. وتكرر هذا العبث بالقانون مع عدة مرشحين، بينهم اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة وسيف الاسلام معمر القذافي، وآخرين. وأثار التساهل في تنفيذ القانون ردودا قوية من بينها اتهام سبعين عضواً من أعضاء مجلس النواب، في بيان أصدروه بخصوص العملية الانتخابية «المؤسسات القضائية والمفوضية العليا للانتخابات بعدم تنفيذ القانون، والالتفاف عليه، والسكوت عن شبهات تزوير وشراء أصوات، والتأثير في القضاء» على حسب ما جاء في البيان. وأكدوا أنهم «لن يكونوا شهداء زور على التزوير وشراء الأصوات وامتهان مؤسسة القضاء».
وانتهز معارضو الانتخابات، وفي مقدمهم المجلس الأعلى للدولة، برئاسة خالد المشري، تلك التصدُعات للضغط في اتجاه التأجيل. وكان المشري، وهو قيادي في «حزب العدالة والبناء» الإخواني، قام بزيارات مكثفة، خاصة إلى تركيا، لإقناع الدول المتداخلة في الملف الليبي بالمخاطر التي قد تترتب عن إجراء الانتخابات في نهاية الشهر الجاري. وتضامن المجلس الأعلى للدولة، الذي تُهيمن عليه جماعات الإسلام السياسي، مع موجة الغضب التي اجتاحت النواب، فأطلق النائب الثاني لرئيس المجلس عمر بوشاح تحذيرات جديدة، مُشددا على أن الانتخابات تمر بأزمة حقيقية، ومُعتبرا أنها أقيمت على أسس غير صحيحة، وأن القوانين التي بُنيت عليها خالفت الاتفاق السياسي والإعلان الدستوري. لكن هذه العيوب كانت واضحة منذ بدايات المسار الانتخابي.
على النقيض من هذا الموقف، تُشدد الأمم المتحدة على ضرورة إجراء الانتخابات في ميقاتها. وكانت رسالة كوبيش إلى الليبيين بمناسبة استقالته من مهامه، تعبيرا عن هذا الموقف، إذ قال إن إجراء «الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الشاملة والحرة والنزيهة في موعدها، أمرٌ بالغ الأهمية للخروج من دوامة الانتقال السياسي، التي طال أمدها والعودة إلى الشرعية الديمقراطية، والانطلاق في بناء دولة تعمها الوحدة والازدهار والسيادة الحقيقية، وإنهاء التدخلات الأجنبية، فالغالبية الساحقة من الشعب الليبي تريد الانتخابات». واللافت أن بعض الجماعات الأصولية المتشددة استبقت الإعلان عن نتائج الانتخابات، فباشرت تنفيذ خططها غير المعلنة في المجال الاجتماعي، ومنها محاولة الفصل بين الطالبات والطلاب في الفصول المدرسية. وفوجئ أولياء الطلاب في مدرسة اليرموك الاعدادية بجنزور (ضواحي طرابلس) الأحد الماضي، بحلول قوة أمنية عملت على فصل الطلاب عن الطالبات، بنقل الأخيرات إلى مدرسة أخرى تحمل اسم الخطابي، ما أدى إلى احتجاجات قوية من الأولياء، الذين اعتصموا بمدرسة اليرموك مع أبنائهم، رفضا لقرار مجهول المصدر. وتُعتبر طرابلس موئلا للجماعات المتشددة التي تفرض تصورها للدين على المواطنين، وتسعى للإمساك بالمنظومة التربوية وتغزو الجمعيات الأهلية، من أجل فرض نمط سلوك عتيق.
من هنا تأتي أهمية الانتخابات البرلمانية، التي أبدى كثير من الليبيين حماستهم لخوضها، والتي تركز على دور السلطات المحلية في النهوض بالمجتمع. وهذا ما يُفسر وصول العدد الإجمالي للمرشحين للانتخابات البرلمانية إلى 5385 مرشحاً ومرشحة حتى الثلاثاء، وهو اليوم المُحدد لقفل باب الترشح. والأرجح، بالنظر لأهمية الحكم المحلي، أن تكون المنافسة فيه مستندة على العمق القبلي أو الأسري، وخاصة في ظل الضعف الكبير للأحزاب، وعدم قدرتها على توجيه الناخبين وتوعيتهم.

تعليقات