رشيد خشــانة – أمريكا مهتمة ليس فقط بمحاولة تطهير مناطق الجنوب الليبي من المسلحين وشبكات الإرهاب، وإنما أيضا بتقديم الدعم المباشر للقوات الليبية من أجل تطوير قدرتها على ضمان أمن الحدود.

أعطى التقرير السنوي لخبراء الأمم المتحدة حول ليبيا، صورة قاتمة عن الأوضاع الأمنية والعسكرية في الجنوب الليبي. وأظهر التقرير الذي تم تقديمه مؤخرًا إلى مجلس الأمن، كثافة شحنات السلاح المتدفقة على الجماعات المسلحة، على الرغم من حظر الأسلحة الأممي المفروض على ليبيا منذ العام 2011. وشكل انهيار مؤسسات الدولة في الجنوب، في أعقاب الإطاحة بنظام معمر القذافي، فرصة للجماعات المسلحة لكي تسيطر على الحدود المشتركة مع كل من تشاد والنيجر. وأفاد التقرير السنوي في هذا المضمار، أن دولا أعضاء في الأمم المتحدة لم يُسمها تواصل انتهاك الحظر، مع إفلات تام من العقاب، بإرسالها أسلحة إلى ليبيا. والأخطر من ذلك أن التقرير يُؤكد أن القسم الأكبر من الأراضي الليبية ما زال تحت سيطرة جماعات مسلحة.
ويُعتبر استمرار وجود مقاتلين تشاديين وسودانيين وسوريين وشركات عسكرية خاصة تهديدا خطرا لأمن ليبيا والمنطقة. ويُشير التقرير الأممي لدى حديثه عن الشركات الخاصة، إلى المجموعة الأمنية الروسية الخاصة «فاغنر» المُقربة من الكرملين، والمتهمة بزرع ألغام في مناطق ليبية مدنية، من دون الاشارة إلى مواقعها.
وفي مبادرة نادرة أعلن مدير إدارة التوجيه المعنوي لقوات القيادة العامة، اللواء خالد المحجوب، الإثنين الماضي، عن عملية عسكرية برية، مدعومة بغطاء جوي، في جميع مناطق الجنوب الليبي، بعدما تحدث في وقت سابق عن فرار عناصر من تنظيم «داعش» في اتجاه حدود تشاد والنيجر، عقب استهدافهم من قبل قوات القيادة. كما أعلن المحجوب عن تنفيذ قوات القيادة العامة عملية عسكرية خاطفة، في اليوم التالي، قال إنها استهدفت عددا من عناصر تنظيم «داعش» لم يُحدده.
ومع أن المحجوب اعتبر ان العملية حققت الأهداف المرسومة لها، بفرار العناصر الإرهابية نحو تشاد والنيجر، لا توجد حتى الآن مؤشرات إلى احتمال انفراج الأزمة، واستطرادا لا شيء يضمن إحجام تلك الجماعات عن العودة إلى المنطقة، حيث تُدير أصنافا مختلفة من التهريب والتجارة غير الشرعية، من تجارة السلاح إلى المخدرات وانتهاء بالاتجار بالبشر. واللافت أن أمريكا مهتمة ليس فقط بمحاولة تطهير مناطق الجنوب الليبي من المسلحين وشبكات الإرهاب، وإنما أيضا بتقديم الدعم المباشر للقوات الليبية من أجل تطوير قدرتها على ضمان أمن الحدود، بحسب ما قال سفير الولايات المتحدة ومبعوثها الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند. وأتى كلام نورلاند عن التعاون في تطوير أمن الحدود، بعد انتهاء ورشة تدريب على مكافحة التهريب جرت في تونس العاصمة، بمشاركة مجموعة تتألف من عشرين ضابطا ليبيا، من سلك الجمارك والجوازات ومكافحة الإرهاب، شاركوا في أعمال الورشة. ويأتي ذلك في وقت أعلن فيه وزير الدفاع التشادي داود يحيى إبراهيم، أن نحو 100 شخص قتلوا في اشتباكات بين عمال مناجم الذهب جرت أخيرا في شمالي تشاد، قرب الحدود مع ليبيا، يومي 23 و24 الشهر الماضي.
وليست أمريكا هي الوحيدة التي تخشى من التداعيات السلبية للأزمة الليبية، في انتشار الجماعات المسلحة، على الحدود المشتركة مع كل من النيجر وتشاد، إذ يشكل هذا الانتشار مصدر انشغال كبير أيضا للدول الأوروبية والأمم المتحدة، التي أعدت قوة «مينوسما» بغية مطاردة عناصر الجماعات الإرهابية في المنطقة. ولئن اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سحب قواته، المرابطة في منطقة الساحل، منذ 2015، في إطار عملية «برخان»، فإن المستشار الألماني أولاف شولتز حرص، بعد فترة قصيرة من توليه المستشارية، على زيارة قواته المشاركة في «مينوسما» في إطار جولة قصيرة شملت النيجر والسينغال. وتتعرض النيجر إلى موجات كبيرة من النازحين من مالي المجاورة، كما أنها عرضة لضربات عسكرية من الارهابيين الآتين من بوركينا فاسو. لذا يرى خبراء أن انسحاب بعض مسلحي فاغنر من أفريقيا الوسطى ومن مالي لن يكون إلا مؤقتًا، ولا يعني أن روسيا تخلَّت عن تمددها في غرب إفريفيا وغيرها من المناطق الإفريقية، فالواقع أن روسيا وجدت لها موطئ قدم في العديد من الدول الإفريقية. وفي السياق رفضت محكمة تابعة للاتحاد الأوروبي مسعى من الثري الروسي المقرب من الكرملين يفغيني بريغوجين، الممول المفترض لشركة الأمن الروسية «فاغنر» لإلغاء عقوبات فرضت عليه على خلفية النزاع في ليبيا.

أدلة دقيقة

وكان بريغوجين، الذي يبلغ من العمر 61 عاما، طعن في قرار صدر في العام 2020 يقضي بتجميد أصوله في الاتحاد الأوروبي ومنعه من الحصول على تأشيرات دخول، على خلفية نشر مقاتلين من «فاغنر» في ليبيا. وقال بريغوجين إنه «لم يكن على علم بكيان يعرف بمجموعة فاغنر» واعتبر أن الاتحاد الأوروبي أخفق في تبرير القرار. غير أن «المحكمة العامة» التابعة للاتحاد الأوروبي رفضت طلبه وأكدت العقوبات المفروضة عليه. وقالت إن الكتلة قدمت «أدلة محددة ودقيقة ومتطابقة تظهر الروابط الوثيقة العديدة بين بريغوجين ومجموعة فاغنر».
كما فرض الاتحاد الأوروبي في نيسان/ابريل 2022 عقوبات على بريغوجين، المعروف بأنه من أكبر حلفاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على خلفية الحرب في أوكرانيا، وأدرجته الولايات المتحدة على قائمة سوداء لتدخُله في الانتخابات الأميركية. ويقول الاتحاد الأوروبي إن المجموعة انتهكت حظر أسلحة دولي على ليبيا وأن مقاتليها ينخرطون في عمليات عسكرية ضد السلطات المدعومة من الأمم المتحدة.

فراغ على الحدود

في السياق استطاعت عدة مجموعات من الميليشيات التشادية والسودانية، الاستفادة من الفراغ الأمني في إقليم فزان (جنوب) لتُوسع انتشارها في المنطقة، على الحدود المشتركة مع كل من تشاد والنيجر والسودان. وأطلقت أخيرا هجوما على منطقة غدوة التابعة لسبها، مُحدثة خسائر مادية وبشرية كبيرة.
وكانت فرصة للعسكر في مالي، بعد تدهور علاقة باماكو بباريس، للاستنجاد بمجموعة فاغنر الروسية، كي تحل محل الجيش الفرنسي. وكان لافتا أن انتهاك الحريات وحقوق الإنسان تزايد في أعقاب توسُع حضور عناصر «فاغنر». لكن لم تكن تلك العناصر هي المصدر الوحيد للتضييق على الحريات، فالنفوذ المتزايد للأجسام المسلحة في طرابلس جعلها تحل محل الدولة في التعاطي مع المبادرات الأهلية، فقد حذرت إحدى الميليشيات التابعة لرئيس الحكومة الدبيبة، من تنظيم الوقفات الاحتجاجية أو التظاهرات في طرابلس لمدة ثلاثين يوما قابلة للتمديد.
واستهدف هذا الإجراء التظاهرات الأهلية المُطالبة بالكهرباء والماء ومعالجة الجرحى وصرف الرواتب. والأخطر من ذلك أن تبرير تلك الإجراءات تم بتعلة «الخوف من زعزعة أمن العاصمة، واستخدام التظاهرات من قبل «المخربين لدغدغة مشاعر الناس».

التظاهر صار ممنوعا

أكثر من ذلك قالت الميليشيا إنها قامت بالتنسيق مع مديرية أمن طرابلس لمنع إعطاء أي تصاريح، مُتوعدة المخالفين بتعريض أنفسهم للمساءلة القانونية. بهذا المعنى تخلت الدولة عن إحدى وظائفها الأساسية، وهي حفظ النظام العام، لفائدة قوة غير نظامية لا تتقيد بالقانون، وهي غير مؤهلة أصلا لتطبيقه أو إعطاء الأوامر والتوجيهات.
في هذا الخضم المُتلاطم، حيث تلُفُ غلالة من الضباب مستقبل البلد، حاول رئيس الحكومة المُعينة من مجلس النواب، الالتحاف برداء الشرعية، فعقد الاجتماع الأول لحكومته في مدينة سرت (شمال الوسط) بعد محاولتين فاشلتين للدخول إلى العاصمة. وحضر الاجتماع كل من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس الحكومة باشاغا ووزير التخطيط والمالية أسامة حماد، ورئيس اللجنة المالية في مجلس النواب عمر تنتوش، بالإضافة لوفد من مصرف ليبيا المركزي والأجهزة السيادية الأخرى. لكن شخصيتين أساسيتين لم تحضرا الاجتماع، وهما حاكم مصرف ليبيا المركزي صديق الكبير ورئيس مؤسسة النفط مصطفى صنع الله.
غير أن مخرجات الاجتماع كانت هزيلة، إذ أن أقصى ما تستطيعه الأطراف المشاركة هو مطالبة المؤسسات القضائية والمالية والرقابية، التابعة لمجلس النواب، بالانضواء تحت جناح حكومة باشاغا، وإعلان ولائها لهذه الأخيرة.
ورأى مراقبون أن غياب صنع الله والكبير عن اجتماع سرت يبعث برسالة واضحة، مفادها عدم قبول الأخير تمويل الموازنة المقترحة، واستطرادا فتح الباب أمام فرضية إحداث انقسام في المؤسسة المالية، يعود بها إلى سنة 2014 لما كان المصرف المركزي منقسما إلى مؤسستين ماليتين واحدة في الشرق والثانية في الغرب. وفي النتيجة تعطل تصدير الخام من الموانئ والحقول النفطية، وسط تدهور البنية التحتية للقطاع، نتيجة تأخُر صرف الميزانية المخصصة للمؤسسة الوطنية للنفط.
وبعد إغلاق استمر منذ 17 نيسان/ابريل الماضي، تم الإعلان في أواخر ايار/مايو عن استئناف إنتاج النفط في الحقول الليبية التي تعرضت للحصار، علّها تعوض ما خسرته من نفط قُدر بـ 500 ألف برميل يومياً أو حوالى نصف ما كانت تنتجه. ومعلوم أن النفط هو مصدر الإيرادات الوحيد للدولة الريعية، ومع ذلك تكرر مشهد إغلاق الحقول ليكون صدى للأزمة السياسية المستمرة. وربما العنصر الإيجابي الوحيد في هذا المجال هو ارتفاع أسعار النفط، نتيجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، إلى 120 دولارا للبرميل الواحد. ورأى خبراء نفطيون أن الصراعات الداخلية في ليبيا، معطوفة على تعذُر حصول القطاع على التمويل اللازم لإصلاح الآبار، تُكبدان البلد خسائر كبيرة. ووفقاً لتقرير صدر عن منظمة أوبك لشهر مايو، بلغ إنتاج ليبيا قرابة 900 ألف برميل يوميا في نيسان/ابريل مقارنة بمليون برميل يوميا تقريباً في آذار/مارس. ويُكلفُ كل إقفال خسائر للقطاع تُقدر بما بين 50 إلى 60 مليون دولار يوميا عن كل يوم إقفال، بحسب خبراء «بلومبرغ».
ويزيد هذا الأمر من تفاقم الأوضاع المعيشية في شرق البلد وغربه على السواء. وأظهر استطلاع دولي أن نحو نصف السكان في ليبيا (45 في المئة) يعتمدون على المياه المعدنية بشكل أساسي، فيما تقتصر نسبة السكان الموصولين بشبكة الأنابيب العامة، التي تديرها الدولة، على ثلث السكان إذ أن 30 في المئة فقط من السكان موصولون بشبكة المياه.
وأظهر استطلاع أجرته منظمة «اليونسيف» و«منظمة العمل ضد الجوع» الفرنسية غير الحكومية، أن نصف المدارس في ليبيا لا يوجد فيها ماء، بينما بات الوصول إلى الصرف الصحي في المدارس «أمرًا مقلقًا للغاية». وجاء في الاستطلاع أن قرابة نصف العينة قالوا إنهم ينفقون نحو 69 دينارًا شهريًا على المياه المعبأة للشرب، في حين رأوا أن الشركة العامة للمياه والصرف الصحي مؤسسة «لا يمكن الوثوق بها في إدارة الصعوبات التي تعترض الأسر». بهذا المعنى يمكن إدراك المخاطر المترتبة على هشاشة أجهزة الدولة وتآكل ثقة الناس في السلطات الحاكمة.
والأرجح أن ليبيا ستبقى عالقة بين المنادين إلى وضع دستور جديد والداعين إلى الاشتغال على المشروع الذي أعدته «لجنة الستين» بإدخال التعديلات اللازمة عليه. ومن الواضح أن الليبيين سيبقون يدورون في حلقة مفرغة، من دون حسم، مع أن الأوضاع الأمنية سائرة نحو التدهور، وهو ما يستوجب مُغالبة عجلة الزمن، من أجل إنقاذ البلد من حرب أهلية جديدة.

تعليقات