رشيد خشــانة – الأجواء الأمنية على الميدان لا تبشر بخير، فالعاصمة طرابلس وعدة مدن أخرى تعيش تحت وطأة التوتر والتعبئة العسكرية من أطراف مختلفة.

كثفت كل من مصر والمغرب جهودهما، للوساطة بين حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة ورئيس الحكومة المُعينة من مجلس النواب فتحي باشاغا. وأفادت مصادر مطلعة أن المغرب استضاف في الأيام الأخيرة اجتماعا مشتركا بين قادة عسكريين وسياسيين من المنطقتين الغربية والشرقية، شارك فيها بلقاسم وصدام نجلا خليفة حفتر، بالإضافة لمسؤولين أمنيين وعسكريين من طرابلس ومصراتة والزاوية، وهي المدن الرئيسة الثلاث في الغرب الليبي. وهذا هو الاجتماع الثاني بعد الأول الذي عقد بمدينة مونترو السويسرية يومي 13 و14 أيار/مايو الماضي، بترتيب من «مركز الحوار الإنساني في جنيف» لبحث مستقبل العملية السياسية في ليبيا. إلا أن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح قال إنه لم يكلف أحدا بالحضور نيابة عنه في اجتماع «مركز الحوار الإنساني» وهو جمعية أهلية سويسرية متخصصة بالوساطة السياسية.
وفي خطوة متزامنة بحثت مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا ستيفاني وليامز، مع عقيلة صالح خطط الجولة المقبلة والأخيرة من محادثات اللجنة المشتركة لمجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في القاهرة الأسبوع المقبل، والرامية إلى الانتهاء من «وضع الإطار الدستوري اللازم لنقل البلاد إلى انتخابات وطنية شاملة، في أقرب وقت ممكن». وقالت وليامز إن اللقاء كان فرصة لإطلاع صالح على سلسلة الاجتماعات التي عُقدت أخيرا في تونس، بما في ذلك اجتماعات مجموعة العمل الأمنية الدولية بشأن ليبيا. وكان المشاركون في اجتماع مونترو قبل نحو شهر، اتفقوا على عقد اجتماع في المغرب، فيما يُرجح عقد جولة ثانية موسعة من اجتماع مونترو، في حضور الأحزاب السياسية وليس «الأحزاب العسكرية» فقط، بعد الاجتماع الأخير في المغرب. غير أن الأجواء الأمنية على الميدان لا تبشر بخير، فالعاصمة طرابلس وعدة مدن أخرى تعيش تحت وطأة التوتر والتعبئة العسكرية من أطراف مختلفة. وأبصرت شوارع طرابلس وضواحيها، ليل الخميس الماضي، انتشارًا لدوريات تابعة لإدارة إنفاذ القانون، بالإدارة العامة للعمليات الأمنية. وبثت صفحة إدارة إنفاذ القانون على «فيسبوك» صورًا أظهرت انتشارا للدوريات الأمنية في بعض شوارع طرابلس، وإنشاء تمركزات وبوابات أمنية، من أجل «فرض الأمن والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة» على ما قالت مصادر أمنية.
يأتي ذلك وسط تعدُد المبادرات من قوى دولية وإقليمية تسعى لأن يكون لها دور في الصف الأمامي في المرحلة المقبلة، ومنها المغرب الذي جمع فرقاء سياسيين وعسكريين من المنطقتين الغربية (خالد المشري) والشرقية (عقيلة صالح) ثلاث مرات منذ ايار/مايو الماضي، في خط مُواز لمسار برلين. ومن تلك القوى أيضا فرنسا التي استقبلت وفدًا ليبيًا مؤلفا من 11 شخصًا، لحضهم على إقامة مؤتمر موضوعه الرئيس اقتراح اتحاد فدرالي يضم أقاليم طرابلس وبرقة وفزان. وزعم التقرير الذي أورد الخبر أن هذه المبادرة يقودها سفير ليبيا السابق في باريس منصور سيف النصر ورئيس الوزراء الأسبق علي زيدان. غير أن الأخير نفى بشدة تلك المعلومات، التي نشرها موقع «موند أفريك» الاستخباري الفرنسي، مؤكدا تمسكه بوحدة ليبيا بأقاليمها الثلاثة، ومُعتبرا أنها «ليست موضوعًا للمساومة أو الصفقات السياسية».

حكومة الاستمرار؟

والأرجح أن الوضع سيبقى قابلا للانفجار في أية لحظة، وسط تعثر المسار السياسي والحرب الكلامية الدائرة بين الحكومتين الغريمتين. وطالما أن ملامح الروزنامة الانتخابية لم تتبلور بعدُ، بالرغم من كثافة المشاورات في هذا الشأن، سيستمرُ عبد الحميد الدبيبة بالجلوس على سدة رئاسة الحكومة، وتتحول حكومته الانتقالية إلى «حكومة الاستمرار». لكن رئيس «معهد البحث والأمن في أوروبا» إيمانويل دوبوي، يرى أنه يمكن أن يتكرر سيناريو استحواذ فائز السراج على السلطة، بدعم من المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز. ويُعتبر الدبيبة أحد الأرقام الأساسية في معادلة الحرب والسلم الليبية حاليا، فهو مدعوم من تركيا ومن أجسام مسلحة في مصراتة، كما أنه يحظى ببعض الشعبية لدى الطرابلسيين. وتُعتبر الاجتماعات التي عقدت في تونس الثلاثاء الماضي مهمة إذ حضرها دبلوماسيون من ثلاثة بلدان غربية أعضاء في مجلس الأمن، وهي فرنسا وبريطانيا وأمريكا، إضافة إلى إيطاليا وألمانيا اللتين تعتبران من الدول الأكثر تأثيرا في الملف الليبي. ومن جانب الدول الإقليمية لوحظت مشاركة كل من تركيا ومصر، وهما الدولتان الرئيسيتان اللتان تقودان الجبهتين المتعارضتين في ليبيا، إذ تدعم أنقرة والجزائر حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس بقيادة الدبيبة، فيما تدعم القاهرة وموسكو باشاغا، الذي كلفه مجلس النواب بتشكيل حكومة في فبراير/شباط الماضي، واختارت مقرا مؤقتا لها في مدينة سرت (شمال).
وتحضيرا لإنجاح الاجتماع المُقرر للأسبوع المقبل في القاهرة، من أجل وضع الاطار الدستوري اللازم لإجراء انتخابات حرة وشفافة، في أقرب وقت ممكن، اجتمعت المستشارة وليامز مع عدة شخصيات من أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) وممثلين عن المجتمع الدولي، ممن أعربوا عن دعمهم لاستكمال العمل على المسار الدستوري. وحسب مصادر مطلعة تحقق توافق مبدئي على 137 مادة من مسودة الدستور، وهو ما يُشكل قرابة 70 في المئة من مواد الوثيقة. وكانت وليامز أعلنت الشهر الماضي، تحقيق توافق على الباب الثاني من المسودة، المعني بالحقوق والحريات، إضافة إلى البابين الخاصين بالسلطتين التشريعية والقضائية، «عدا عدد قليل من المواد لا يتعدّى أصابع اليد الواحدة» حسب ما صرحت به وليامز. غير أن التوافق على مواد الدستور لا يُحتسب بعدد البنود التي حظيت بالاتفاق عليها، وإنما بمدى الالتقاء في المسائل الحساسة، التي من ضمنها الدين والدولة وطبيعة النظام السياسي واللغة الوطنية وشروط الترشيح للرئاسة. ولذا فإن الاتفاق على 137 مادة لا يعني أنه لا توجد خلافات على مسائل جوهرية خارج المواد المُتفق عليها.

تضليل إعلامي

وفي السياق أكد رئيس لجنة التواصل بالهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور المحامي ضو المنصوري عون، أنه يرفض محاولات سن دستور جديد، مُشككا بنوايا مجلس النواب، ومُلوحا باللجوء إلى القضاء الدولي. وانتقد المنصوري في تصريح لـ«بوابة الوسط» الليبية، اجتماعات المسار الدستوري، التي تجري في القاهرة، عبر لجنة مشكلة من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، مُعتبرا أن أعضاء مجلس الدولة لا يريدون سوى إقرار القاعدة الدستورية للانتخابات، بينما مجلس النواب يسعى إلى إنقاذ التعديل الدستوري الثاني عشر، ونسف إرادة الشعب الليبي الذي انتخب هيئة تأسيسية لصياغة مشروع الدستور، واستكملت اللجنة إنجازه في 29 تموز/يوليو 2017. كما اتهم المنصوري لجنة مجلسي النواب والدولة بـ«تزوير الحقائق والتضليل الإعلامي للتغطية على الهدف الرئيس لهما، وهو إطالة عمرهما في منصات التسلط على رقاب الليبيين». ويُعتبر رئيس مجلس النواب عقيلة صالح من أشد المدافعين عن إعداد دستور جديد، ومن ثم الاستفتاء عليه. واستطاعت مصر، باستضافتها اجتماعات لجنة المجلسين في القاهرة، التأثير في أعمالها، خاصة أن المنصوري كشف تلك الأجواء، مؤكدا أن أعضاء مجلس الدولة يشاركون في صياغة مشروع الدستور مادة مادة، متجاهلين حصاد العمل الذي أنجزته الهيأة التأسيسية. ولوح المنصوري في حواره باللجوء إلى القضاء الدولي، من خلال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أو محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، من أجل «إظهار الزيف الذي تزعمُهُ بعثة الأمم المتحدة والحكومات التي تسيطر على المشهد السياسي».
ومنذ العام 2017 استكملت لجنة كتابة الدستور أعمالها، استعدادا للاستفتاء على الوثيقة التي أعدتها «لجنة الستين» نسبة لعدد أعضائها. وقاطع ممثلو الأقليات مداولاتها، وهم الطوارق والتبو والأمازيغ، وقد أسند لكل مُكون منهم مقعدان في اللجنة. غير أن المشروع أثار صراعا بين المحافظين والمُجددين، مثلما أحدثت الدساتير السابقة شروخا في أجساد النخب، اعتبارا من الدستور الأول، وهو دستور الجمهورية الطرابلسية في العام 1920 وكذلك القانون الأساسي لإقليم برقة (شرق) في الفترة نفسها، قبل صدور دستور ليبيا الموحدة في العام 1952. ويُلفت الباحث في الشأن الدستوري الليبي الدكتور عبد المجيد الجمل الانتباه إلى خصوصيات التطور الدستوري في ليبيا، والدور المهم للقوى الدولية في سن تلك الدساتير، مُستدلا بالقرار الصادر عن الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 1949 إذ تم انجاز الدستور تطبيقا له في ديسمبر/كانون الأول العام 1952 أي بعد قرابة ثلاث سنوات.

هشاشة الدولة

تعيش ليبيا في ظل الإعلان الدستوري، الذي أعده المجلس الوطني الانتقالي، بعد الثورة، بدعم من الأمم المتحدة. لكنها ما فتئت تتوغل في أوحال أخطر أزمة عرفتها منذ الاستقلال، جراء انقسامها إلى منطقتين شرقية وغربية، تتنازع السلطات فيهما حكومتان، تعتبر كل واحدة منهما نفسها الشرعية. وترافقت هذه الأزمة الشاملة مع تصدُع مؤسسات الدولة، لا بل وانهيارها في إقليم فزان (جنوب). وأكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في تصريحات جديدة، أن الإرهاب أدى إلى تصعيد العنف في البلدان المتضررة من الصراعات، مثل ليبيا، وتقويض جهود السلام وإعاقة أهداف التنمية، وسط مزيد من عدم الاستقرار، مُحذرا من أن الجماعات الإرهابية، مثل تنظيمي القاعدة والدولة والجماعات التابعة لهما، تواصل التوسع في منطقة الساحل، وتشق طريقها في وسط وجنوب أفريقيا، مستغلة فراغ السلطة وهشاشة الدول. وشدد غوتيريش على أن المؤسسات الضعيفة وعدم المساواة والفقر والجوع والظلم توفر كلها أرضا خصبة لتجنيد الإرهابيين والتطرف العنيف. وقد تكون هذه الأوضاع التي تزداد تعقيدا كل يوم، هي التي تدفع غوتيريش إلى ترشيح السفير الألماني الأسبق لدى ليبيا كريستيان بوك، لتولي منصب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، خلفا للسلوفاكي المستقيل يان كوبتش. وسبق لبوك أن عمل مديرا لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط في وزارة الخارجية الألمانية اعتبارا من 22 أيار/مايو العام الماضي، قبل تعيينه مبعوثًا خاصًا لألمانيا إلى ليبيا من قبل وزيرة الخارجية أنالينا بربوك. وتُعتبر موافقة واشنطن على المرشح الألماني، خطوة حاسمة بعدما سبق أن اعترض الأمريكيون على عدة مرشحين أفارقة، بينهم وزير الخارجية الجزائري الحالي رمطان العمامرة. والأرجح أن وليامز ستغادر منصبها في أواخر الشهر الجاري، بعدما لم تُثمر مبادرتها بتشكيل لجنة مشتركة من أعضاء المجلسين، لإزالة العقبات من طريق التسوية السلمية للصراع، ما استوجب التعجيل بتسمية مبعوث أممي خاص بالملف الليبي، للحيلولة دون انهيار الحل السياسي والعودة إلى الصراع المسلح. وإذا كان ستة موفدين أمميين خاصين إلى ليبيا أخفقوا في الوصول إلى حل مقبول من الجميع، فالأرجح أن نصيب الموفد السابع سيكون مثل أسلافه، لأن الحل الحقيقي يوجد بين أيادي الليبيين وليس بيد الأمم المتحدة.

تعليقات