رشيد خشــانة – التقدم على المسار العسكري لا يعني حل جميع القضايا الخلافية، فمن يوم إلى آخر، تظهر جماعة مسلحة تستعرض قوتها وتُهمش المؤسسات الرسمية.

ليس مألوفا رؤية رئيس أركان القوات المسلحة بالمنطقة الشرقية الفريق عبد الرازق الناظوري في طرابلس، وهو الذي غادرها منذ 2014. وأغرب منه أن يكون سبب الزيارة حضور اجتماع أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 في العاصمة طرابلس يومي 18 و19 تموز/يوليو الماضيين. يرتدي اجتماع الناظوري ونظيره في المنطقة الغربية الفريق محمد الحداد رئيس الأركان التابع لحكومة الوحدة الوطنية، أهمية كبيرة لثلاثة أسباب: الأول أنه لم يكن اجتماعا على انفراد، وإنما شارك فيه عدد من مديري الإدارات والهيئات العسكرية في الجانبين، ما يعني أنه اللقاء الأول بين جناحي المؤسسة العسكرية، من أجل استكمال خطوات توحيدها. والثاني أنه نجاح للمسار العسكري في وقت تفاقمت فيه الأزمة السياسية بين حكومة الوحدة الوطنية والحكومة المكلفة من مجلس النواب. أما السبب الثالث فهو تعبير الطرفين في بيان مشترك عن «الرفض التام والمطلق للعودة للاقتتال بين أبناء الوطن الواحد ونبذهم العنف ودعمهم الكامل لمدنية الدولة وإبعاد المؤسسة العسكرية عن التجاذبات السياسية».
وتأكد هذا المنحى من خلال تفاعلات تشكيل الحكومة الموازية، التي لم يتم اللجوء فيها إلى استخدام القوة بين الطرفين الليبيين، عدا حوادث بسيطة تم احتواؤها بسرعة. لكن لا ينبغي الافراط في التفاؤل، بل ينبغي تنسيب الأمور، إذ أن هذا التقدم على المسار العسكري لا يعني حل جميع القضايا الخلافية، فمن يوم إلى آخر، تظهر جماعة مسلحة تستعرض قوتها وتُهمش المؤسسات الرسمية. من ذلك أن مسلحين من مدينة مصراتة وآخرين تابعين لما يعرف بـ«مجلس الشورى» أغلقوا الطريق الساحلي غرب مدينة سرت، في مستوى 60 كلم، وذلك للمرة الثانية خلال أسبوعين فقط، ما أدى إلى تعطيل الحركة أمام المسافرين وشاحنات نقل السلع، وسيارات الإسعاف، التي تقل المرضى بين الشرق والغرب لليوم الرابع على التوالي (حتى يوم الجمعة).
يرتدي هذا الأمر أبعادا أكثر خطورة عندما يستمر إرسال شحنات الأسلحة إلى الطرفين المتقاتلين في الشرق والغرب، في خرق واضح للحظر الذي قررته الأمم المتحدة بهذا الخصوص. ومن دلائل استمرار بعض القوى الإقليمية في إرسال السلاح والمعدات إلى ليبيا، ضبطُ السفينة «أم في فكتوري رورو» التي تحمل علم غينيا الاستوائية، قبالة سواحل ليبيا، وقد عُثر بداخلها على شحنة من عشرات المركبات العسكرية في خرق واضح للحظر الأممي. فما جدية تعهد الطرفين العسكريين بـ«الشروع في تحديد الخطوات الواقعية لتوحيد المؤسسة العسكرية» بينما توجد قوات غير نظامية قادرة على قطع الشريان الرابط بين مدينتين من أهم المدن الليبية، من دون رادع أو حسيب؟ أكثر من ذلك، كيف يستقيم المسار السياسي التوحيدي بينما يتدفق السلاح من الخارج على الأطراف المتصارعة؟ ولماذا لا يُرفع النقاب عن مصدره؟ تجدر الإشارة هنا إلى أن السفينة التي ضُبطت في المتوسط حاملة علم غينيا الاستوائية، تمت قيادتها إلى ميناء أوروبي، لم يُكشف عن اسمه، لاتخاذ الإجراءات اللازمة بحقها، إذ أن ضبطها تم في إطار عملية «إيريني» البحرية الأوروبية، وفقًا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2292 لسنة 2016 الذي يسمح بتحويل مسار السفن في مثل هذه الحالات ومصادرة الأسلحة المنقولة والعتاد ذي الصلة بتلك الأسلحة.
إلا أن اللافت في اجتماعات القيادات العسكرية الليبية أنها حضت بوضوح على «إخراج المرتزقة الذين جلبتهم تركيا لدعم حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج سابقًا». ومن الواضح أن البيان الختامي صمت عن مرتزقة «فاغنر» الروس بشكل غير مفهوم، ربما لأن أعدادا منهم غادرت ليبيا إلى أوكرانيا. فهل هناك صفقة قيد الإعداد للاستغناء عن عناصر «فاغنر»؟ وهل سيقبل الروس بهذا الترتيب ويتخلوا عن منطقة نفوذ اقتصادية وسياسية مهمة، بعدما باتوا طرفا معترفا بدوره في الأزمة الليبية؟

أتراك في المنطقة الشرقية

على عكس الروس، حقق الأتراك اختراقا مهما في ليبيا، بعدما دخلوا إلى المنطقة الشرقية ليس كغزاة، مثلما يصفهم الموالون للواء المتقاعد خليفة حفتر، وإنما كأصدقاء جدد، يسعون إلى تبادل المصالح الاقتصادية مع كل من يمدُ لهم يده. وهذا هو مضمون الرسالة التي وجهها رئيس مجلس الأعمال التركي- الليبي مرتضى قرنفل إلى الليبيين. ويرى قرنفل أن العقبة الكبرى على مسار التقارب التركي الليبي تتمثل بحجم الديون التي لم يتم تحصيلها من الليبيين، في مقابل المشاريع التي أنجزوها في ليبيا قبل عام 2011 والتي قدرها بحوالي 4 مليارات دولار. واقترح قرنفل تفعيل نظام المقايضة بهدف استعادة حقوق المستثمرين الأتراك.
ووفق تقديرات رئيس مجلس الأعمال فإن ليبيا بحاجة اليوم إلى مشاريع عامة بقيمة 40 مليار دولار، إلا أن عدم تسديد الدفعات السابقة، يشكل عائقًا أمام تنفيذ مشاريع جديدة. وعرض قرنفل على الليبيين والأتراك، اعتماد نظام المقايضة «بارتر» على نحو يساهم في إيجاد حل لآلية التسديد المعقدة في ليبيا، فضلا عن توفير فرص استثمارية جديدة للأتراك. واللافت أن حجم التجارة بين تركيا وليبيا ارتفع بنسبة 43 في المئة في العامين 2020 و2021 أي في ظل حكومة فائز السراج، ليبلغ 2.3 مليار دولار، بحسب إحصاءات رسمية تركية.
وتعزز هذا التقارب بزيارة مهمة أداها منذ أسابيع وفد تركي رفيع المستوى، مؤلف من دبلوماسيين ورجال أعمال، إلى بنغازي. وتوصل الجانبان إلى نتائج مهمة، من بينها معاودة فتح القنصلية التركية في بنغازي، واستئناف خط الطيران المباشر بين بنغازي واسطنبول، إضافة إلى عودة الشركات التركية للعمل في المنطقة الشرقية. والمُلاحظ أن الأتراك ركزوا على المدن المفتاحية في ليبيا وهي طرابلس وبنغازي ومصراتة، التي «تملك» مفاتيح الحل السياسي، زيادة على قوتها الاقتصادية.
أما على الصعيد السياسي ففتح الأتراك قناة اتصال غير رسمية مع رئيس الحكومة المُعين من مجلس النواب فتحي باشاغا من خلال اجتماع عُقد بين مسؤول تركي لم يُكشف عن هويته وممثلين عن باشاغا في 22 آذار/مارس الماضي، بقيادة الرجل الثاني السابق في المجلس الرئاسي أحمد معيتيق. ويؤكد خبراء أنه لا يمكن لباشاغا أن يدخل العاصمة والجنود الأتراك ما زالوا في قواعد عسكرية بطرابلس ومصراتة. ولوحظ أن تركيا دعت لاجتماع حول الأزمة الليبية في اسطنبول، الخميس الماضي، ضم مسؤولي مجموعة الاتصال الليبية. وتتألف المجموعة من ممثلي الدول الخمس الكبرى، وهي بريطانيا وأمريكا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، بالإضافة لتركيا ومصر. وكان محور الاجتماع، وفقا لمصادر ليبية، قيام قادة ليبيا بإكمال المسار الدستوري للانتخابات. وهذا يعني توافقا بين الأطراف الدولية والإقليمية على ضرورة الإسراع بالحل، بعدما كانت تلك الأطراف هي التي تنفخ في نار الخلافات الليبية الليبية. وبناء على هذا المناخ الجديد تم الاتفاق خلال الاجتماع على إيجاد جسم تنفيذي موحد، والحفاظ على حيادية المناصب السيادية والاستخدام الشفاف للموارد الوطنية.
ويعتبر هذا الاجتماع الثالث بعد اجتماعين أحدهما في تونس مطلع حزيران/يونيو الماضي، والآخر في العاصمة الإيطالية روما نهاية الشهر الماضي. ولن يكون هذا الإطار بديلا من البعثة الأممية، إذ أن الحضور في اجتماع أنقرة أكدوا دعمهم لجهود مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز. أما الأتراك فحصدوا مكسبين كبيرين الأول هو عودتهم بقوة إلى شرق ليبيا، وأبواب التجارة والأعمال التي فتحتها أمامهم، والثاني يتمثل في الدور المحوري الذي ستلعبه أنقرة، بعدما باتت علاقاتها مع جميع الفرقاء الليبيين سمنا على عسل. وقد تعزز هذا التقارب بزيارة مهمة أداها منذ أسابيع وفد تركي رفيع المستوى، مؤلف من دبلوماسيين ورجال أعمال، إلى بنغازي. وتوصل الجانبان إلى نتائج مهمة، من بينها معاودة فتح القنصلية التركية في بنغازي، واستئناف خط الطيران المباشر بين بنغازي واسطنبول، إضافة إلى عودة الشركات التركية للعمل في المنطقة الشرقية.
وتكرس هذا الانعطاف بتوجيه أنقرة دعوة إلى عقيلة صالح لزيارة تركيا. وعندما سُئل عن سبب تغيير موقفه من الأتراك أجاب بانه ليست هناك خصومة دائمة، وان «مصالح الأتراك مرتبطة بمصالحنا». ولم يُحدد موعد الزيارة بعدُ «بسبب الأحداث الأخيرة في ليبيا» على ما قال صالح. وأعلن الأخير أن هناك لقاءً قريبًا لوفد من مجلس النواب التركي مع رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب فتحي باشاغا في ليبيا، وهي خطوة ستُحول اللقاءات غير الرسمية الجارية بين الطرفين إلى اجتماعات رسمية، مع ما يترتب على ذلك من مُخرجات.
داخليا وفي ظل الأجواء المشحونة في ليبيا، قررت مديرية الأمن في مصراتة غلق المحطة الإذاعية «راديو مصراتة» من دون ذكر الأسباب، أو تحديد فترة الغلق. وأكد أحد الصحافيين العاملين في المحطة أن الغلق تم بالقوة وان الصحافيين مُنعوا من دخول المقر، من دون إعلامهم بالأسباب. كما توقف بث برامج الاذاعة على موجات «الأف أم» منذ الأربعاء الماضي. ويطرح هذا الإجراء مأساة حرية الإعلام، التي تعرضت وما زالت إلى انتهاكات عديدة، سواء في المنطقة الشرقية أم في الغرب، حيث يُختطف الصحافيون أو يُسجنون أو يتلقون تهديدات جدية بالقتل أو الخطف. ولم نسمع من الساعين إلى الترئيس تعهدا، أو حتى مجرد وعد، بإطلاق المعتقلين وصون الحريات وملاحقة مرتكبي الانتهاكات والتعديات على حقوق الإنسان. وطبعا ليست مصر ولا تركيا ولا روسيا من سيُدافع عن احترام الحريات وشُرعة حقوق الإنسان.

تعليقات