رشيد خشــانة – روما والجزائر لا ترغبان بربط علاقات مع الحاكم العسكري للمنطقة الشرقية الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، وتتعاطيان مع حكومة عبد الحميد الدبيبة، بوصفها الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا.

شكلت الجزائر وإيطاليا محورا دافعا باتجاه تحقيق الحل السلمي للصراع في ليبيا، بمباركة من الأمم المتحدة. وأكدت الزيارة التي بدأتها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني أمس لطرابلس، بعد زيارتها إلى الجزائر، المكانة المحورية التي تتبوأها منطقة شمال أفريقيا في الاستراتيجية الإقليمية لإيطاليا، خصوصا في الظرف الراهن. ولوحظ أن زيارتي ميلوني للجزائر وطرابلس تزامنتا تقريبا مع جولة قام بها نائب رئيس الحكومة وزير الخارجية أنطونيو تاياني إلى كل من مصر وتركيا وتونس، لبحث الأزمة الليبية وتداعياتها مع المسؤولين في البلدان الثلاثة، المتقاربة في موقفها من سُبُل تسوية الصراع الأهلي في ليبيا. ومن الواضح أن روما والجزائر لا ترغبان بربط علاقات مع الحاكم العسكري للمنطقة الشرقية الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، وتتعاطيان مع حكومة عبد الحميد الدبيبة، بوصفها الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا. ومن المؤكد أن هذا الموقف يُغضب رئيس الحكومة المُعينة من مجلس النواب فتحي باشاغا، الذي لم يتمكن من تحصيل اعترافات دول وازنة بحكومته.
وقد اختارت رئيسة الوزراء الإيطالية أن تكون زياراتها الخارجية الأولى إلى المنطقة المغاربية، انطلاقا من الجزائر. ويُعزى هذا «التبجيل» إلى مصالح اقتصادية وأخرى سياسية وأمنية لم تُخفها ميلوني، وهي تتعلق بأربعة مجالات، أولها زيادة تدفقات الغاز الجزائري والليبي على إيطاليا، وثانيها التصدي لقوارب الهجرة غير القانونية عبر المتوسط، وثالثها احتواء التمدد الروسي في دول الساحل والصحراء، أما الرابع فهو القضاء على ما تبقى من عناصر شبكة «القاعدة» وتنظيم «داعش» في الجنوب الغربي لليبيا وشمال مالي وبوركينا فاسو.
وهذه المحاور هي عناوين البرنامج الانتخابي لائتلاف اليمين وأقصى اليمين، الذي فاز بالانتخابات الأخيرة في إيطاليا. وهو يعتزم الشروع في تطبيق مرسوم الهجرة الجديد، الذي يعتمدُ قواعد صارمة في التعاطي مع قوارب المهاجرين غير النظاميين، الذين ينطلقون من السواحل الجنوبية للمتوسط، وخاصة من مصر وليبيا وتونس. وتسعى ميلوني إلى استكمال زياراتها المغاربية قبل اجتماع مجلس الاتحاد الأوروبي المقرر للأسبوع الثاني من الشهر المقبل، والذي سيُخصص لملف الهجرة بأصنافها. ويتسم المرسوم الإيطالي الجديد بالتشدد مع سفن الانقاذ، التي تُسيرها منظمات الإغاثة وجماعات المدافعين عن حقوق المهاجرين، والتي تتلقف الراكبين في القوارب الجانحة، لإنقاذهم من الموت في البحر. وربما الأهم من ذلك، من منظور الإيطاليين، هو تأمين تدفق الغاز والنفط من ليبيا، بعد معاناة إيطاليا من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. ويربط إيطاليا بالجزائر وليبيا أنبوبان لنقل الغاز عبر البحر المتوسط، ويجوز القول إن أهم مكسب حصلت عليه رئيسة الحكومة الإيطالية من زيارتها للجزائر، هو الأنبوب الجديد، الذي قال الرئيس عبد المجيد تبون إن الدراسات الفنية الخاصة بإنجازه ستنطلق في وقت قريب، مؤكدا أنه سينقل أربع مواد في وقت واحد، وهي الغاز والكهرباء والأمونياك والهيدروجين. وتزود الجزائر إيطاليا حاليا بـ40 في المئة من حاجاتها من الغاز المُسال، ورفعت في آخر الشهر الماضي الكميات إلى أكثر من 25 مليار متر مكعب. وستصل طاقة الأنبوب الجديد إلى 29 مليار متر مكعب من الغاز المُسال. وينقل الأنبوب الحالي، الذي أنشئ في ثمانينات القرن الماضي، الغاز الطبيعي إلى جزيرة صقلية، وتحصل تونس على رسوم عبور تُؤمن لها قرابة نصف استهلاكها من الغاز الطبيعي.

حقلا غاز جديدان

في هذا الإطار أكدت ميلوني لمحاوريها العرب أن استتباب الأمن والاستقرار في شمال أفريقيا هو مصلحة لإيطاليا ولدول الإقليم في الآن نفسه. وأعلن الرئيس تبون في جانبه أن إيطاليا ستغدو بفضل الأنبوب الجديد، موزعا للغاز على البلدان الأوروبية، انطلاقا من إيطاليا. وقدر رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، في تصريح لوكالة «بلومبرغ» قيمة الاتفاق الذي تم التوقيع عليه أمس في طرابلس، مع مجموعة «إيني» بـ8 مليارات دولار، ستُخصص لتطوير حقلين للغاز قبالة السواحل الليبية.
هذا المشروع سيكون في أحد أبعاده، منافسا لمشروع غازي ضخم سيربط بين طنجة في شمال المغرب ونيجيريا، التي تملك أعلى احتياط من الغاز الطبيعي في القارة الأفريقية، بطول 3000 كيلومتر، بمحاذاة السواحل الأطلسية. وكان ملك المغرب ورئيس نيجيريا وقعا في 2016 على اتفاق لإقامة هذا المشروع، الذي تزداد أهميته، مع تعثُر إمدادات الغاز من روسيا إلى أوروبا الغربية، أو ربما توقفها تماما.
وفي خط مُواز أقامت الجزائر شراكة مع ليبيا في مجال الطاقة وهي تسعى لتوسعتها في المستقبل، خصوصا بعدما يعود إليها الاستقرار. وأكد وزير النفط والغاز الليبي محمد عون أن بلاده بحاجة إلى مزيد من إنتاج الغاز لتمويل الدولة وتشغيل محطات الكهرباء. وتتعاون الجزائر وليبيا في مجال إنتاج الغاز وتسويقه، إذ استكملت «الشركة الجزائرية لإنتاج الكهرباء» (سونالغاز) منذ أكثر من سنتين بناء محطة لتوليد الكهرباء بطاقة 160 ميغاوات بطرابلس. كما تمكنت فرق الشركة الجزائرية من إعادة تشغيل محطة مدينة الخمس بطاقة 260 ميغاويت. وفي السياق حصل الوفد الإيطالي على صفقة لإنجاز مشروع ظل مُجمدا منذ العام 2013 ويتمثل في إنشاء محطة للتخلص الآمن من النفايات الطبية، طبقا للمواصفات العالمية. وستنفذ المشروع شركة «بروغراما بينتي» الإيطالية. وعن احتمال تصدير الغاز الليبي إلى إيطاليا، أكد الوزير عون أن ليبيا تصدر حوالي 300 مليون قدم مكعب من الغاز إلى إيطاليا يوميا، مشيرا إلى أن بلاده دعت بعض شركات النفط الروسية للعودة للعمل في عمليات الاستكشاف في ليبيا.

انتخابات حرة وشفافة؟

وتتفق روما مع كل من الجزائر وتركيا وتونس على أن إحلال الاستقرار في ليبيا يمرُ عبر عملية انتخابية توافقية بين جميع المكونات الليبية، حسب ما قال وزير الخارجية تاياني، في جلسة مساءلة بمجلس النواب الإيطالي قبل أيام. ورافق تاياني رئيسة الحكومة في زيارتها لليبيا أمس، ضمن وفد رفيع المستوى ضم أيضا وزير الداخلية الإيطالي. ويقول الإيطاليون إن هدفهم هو المساعدة على إجراء انتخابات حرة وشفافة في ليبيا، قبل نهاية 2023 تماشيا مع وساطة الأمم المتحدة، مؤكدين أن هذا الهدف يقع في صميم محادثاتهم مع جميع الجهات الفاعلة، التي لها تأثير في الوضع الليبي.
وبعدما نادت ميلوني، أثناء حملتها الانتخابية، إلى فرض حصار بحري على السواحل الليبية، لمنع انطلاق قوارب المهاجرين منها، عدلت أخيرا من شعاراتها القُصووية، وباتت تُسوق لخطة بديلة، هي «خطة ماتي» على اسم أنريكو ماتي مؤسس مجموعة الطاقة «إيني» الذي كسر سيطرة المجموعات الطاقية الغربية السبع الكبرى على القطاع. ويعتقد الإيطاليون أن تحقيق الاستقرار في ليبيا يشكل عنصرا حاسما في السيطرة على موجات الهجرة غير النظامية والتصدي للتهديد الإرهابي، الذي ينطلق من منطقة الساحل الأفريقي باتجاه حوض المتوسط، وصولا إلى سواحل أوروبا الجنوبية.
ولا يُخفي الإيطاليون كونهم يضغطون، مع الجزائر وتركيا، على رجال السياسة والقيادات العسكرية في ليبيا، لدفعهم إلى الاتفاق على روزنامة للحل السياسي، يتحدد من خلالها تاريخ إجراء انتخابات ذات مصداقية، من شأنها إضفاء الشرعية على القادة السياسيين. ويأمل الإيطاليون وكثير من الدول الغربية أن يؤدي إطلاق المسار السياسي، وتحقيق السلم الأهلي، إلى القضاء على ما يعتبرونه «نقطة سوداء» في إشارة إلى السواحل الليبية. وأظهرت إحصاءات عرضها رئيس القيادة العامة لسلطات الموانئ الإيطالية جيوزيبي أوليشينو، في إحاطة أمام لجنة الشؤون الدستورية والنقل في البرلمان الإيطالي، أن غالبية المهاجرين غير النظاميين في المتوسط أتوا من ليبيا وبزيادة قُدرت بـ70 في المئة السنة الماضية، أي بواقع 53 ألف مهاجر غير قانوني. وشهدت إيطاليا بحسب أوليشينو وصول 105 آلاف مهاجر غير قانوني في العام الماضي، عن طريق البحر، ما يعني زيادة بمعدل 56 في المئة قياسا على العام 2021.
ويُركز الايطاليون على أهمية دور حُراس السواحل المحليين في اعتراض مراكب المهاجرين، وخاصة على محوري التدفقات، وهما منطقة طرابلس التي يقولون إن 33 ألفا انطلقوا من سواحلها، وإقليم برقة (شمال شرق) التي كانت منطلقا لـ20 ألف رحلة غير قانونية، بينما بلغ عدد الغرقى 1373. وأثارت هذه الأرقام جدلا بين الأحزاب اليمينية واليسارية في البرلمان الإيطالي، إذ أكد نائب زعيم الحزب الديمقراطي (يسار) والنائب البرلماني جوزيبي بروفينزانو، أن النتيجة الوحيدة لتنفيذ «مرسوم ماتي» هي القضاء على نشاط سفن الإغاثة التابعة للمنظمات غير الحكومية، واصفا إياه بـ«مرسوم إغراق السفن».
على أن ميلوني وصلت إلى طرابلس والعلاقات بين صُناع القرار الليبيين في أسفل درجاتها، بعدما تنصل عقيلة صالح من الاتفاق الذي توصل له مع رئيس مجلس الدولة خالد المشري في القاهرة، في أعقاب أكثر من عشرة اجتماعات، في إطار إعداد مرجعية دستورية للانتخابات. وأعاد ذلك الموقف المسار السياسي إلى نقطة الصفر، خاصة أن مصر، التي تابعت الاجتماعات منذ البدء، وبحضور رئيس المخابرات عباس كامل، لم تُعلق على تراجع صالح. والأرجح أن أمريكا والدول الأوروبية المتداخلة في الملف الليبي، قلقة من انهيار التفاهم بين رئيسي مجلس الدولة ومجلس النواب، وهي تنتقد أيضا القاهرة لميوعة مواقفها وقلة حماستها لإجراء انتخابات عامة ذات مصداقية وخاضعة لرقابة المجتمع الدولي. والأرجح أن مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون المنظمات الدولية ميشال سيسون، التي زارت الجزائر واستقبلها تبون، قد تكون بحثت الملف الليبي مع الرئيس الجزائري. وقد تكون سيسون طلبت من تبون دعم الجزائر لتسمية الدبلوماسي الأمريكي كينيث غلوك، في المرتبة الثانية، مساعدا لرئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا السنيغالي عبد الله باثيلي. ويدل هذا المسعى، إذا صح، على رغبة أمريكا بمتابعة تفاعلات الأزمة الليبية عن كثب، وهو الدور الذي كانت تقوم به ستيفاني وليامز المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة.

تعليقات