رشيد خشــانة – ما فتئت أمريكا تعزز اهتمامها وتوسع نفوذها في ليبيا، بعدما ظلت غائبة عنها في السنوات التي أعقبت مقتل سفيرها الأسبق كريستوفر ستيفانز في مقر قنصليتها في بنغازي، عام 2012 على أيدي جماعة «أنصار الشريعة» المتشددة.
وعلى الرغم من أن ليبيا لم تكن على قائمة الدول التي زارها أخيرا وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وهي مصر وإسرائيل والضفة الغربية، فإن رئيس الدبلوماسية الأمريكية حمل في حقيبته ثلاثة ملفات على الأقل تتصل بالأزمة الليبية، أولها ملف قوات «فاغنر» الروسية، التي تعمل واشنطن على احتواء تمدُدها في المنطقة، وثانيها يتعلق بإنهاء الصراع بين الفرقاء الليبيين، من خلال إجراء الانتخابات المؤجلة. أما الملف الثالث فهو ضمان تدفق الغاز من ليبيا والجزائر، إلى البلدان الأوروبية، للتعويض عن الغاز الروسي.
ومن الواضح أن مشاركة عناصر من «فاغنر» في الحرب الروسية على أوكرانيا، كانت التطور الحاسم الذي دفع واشنطن إلى تصنيف المجموعة في خانة «المنظمات الإجرامية الدولية» منددة بتجاوزاتها في أوكرانيا، واستخدامها أسلحة حصلت عليها من كوريا الشمالية، وتجنيدها سجناء روس في الحرب، حسب مصادر رسمية أمريكية. وهذا ما قاله المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، جون كيربي، الذي اتهم «فاغنر» بارتكاب «فظائع وانتهاكات لحقوق الإنسان على نطاق واسع». والأرجح أن بلينكن أثار هذا الموضوع مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لأن مصر لها اليد الطولى على القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر، الذي استدعى قوات «فاغنر» إلى ليبيا، لمساعدته في الحرب التي شنها على طرابلس، اعتبارا من الرابع من نيسان/ابريل 2019. وكاد حفتر يسيطر على العاصمة، لولا التفوق الجوي للمُسيرات التركية، التي أوقفت تقدم قواته وداعميها الروس، وأجبرتهم على الانسحاب إلى مدينة سرت (شمال الوسط).
وحسب تقديرات كيربي ما زالت المجموعة «تُشغل» نحو خمسين ألف مقاتل منتشرين في أوكرانيا، هم عشرة آلاف من المرتزقة وأربعون ألف سجين، أما عددهم في ليبيا فيقارب ثلاثة آلاف عنصر حسب مصادر ليبية، قبل نقل عدد غير معروف منهم إلى أوكرانيا. وكان كيربي أعلن أن واشنطن لن تكتفي بإعلان المجموعة منظمة إجرامية، بل ستفرض عليها عقوبات أخرى من دون إعطاء مزيد من التفاصيل. أما الجانب الروسي فهون من دور المجموعة في ليبيا، وأكد على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف أن وجودها يرتدي طابعا «تجاريا» مشيرا إلى أن مقاتليها أتوا بناء على دعوة من «السلطات في طبرق» أي مجلس النواب، الذي يتخذ من تلك المدينة مقرا له. على أن مصادر إعلامية أمريكية حذرت من الدور الذي قد تكون «فاغنر» تلعبه في أفريقيا، بوصفها منطلقا لنشر المرتزقة هناك، ففي 29 نيسان/ابريل الماضي، أفاد موقع «فاينانشيال تايمز» أن روسيا استخدمت ليبيا محورا لنشر مرتزقتها في القارة الأفريقية، وخاصة في مالي وأفريقيا الوسطى. ومن هنا سارعت أمريكا إلى محاولة تقويض النفوذ الروسي والصيني في القارة السمراء، بإعلانها، خلال القمة الأمريكية الأفريقية، التي عقدت قبل شهر من زيارة بيرنز إلى ليبيا، تخصيص 55 مليار دولار لأفريقيا، من أجل الحد من تمدُد الأصابع الروسية والصينية في القارة.
وفي سياق استراتيجي متصل، يُرجح أن ملف مكافحة الإرهاب شكل أحد المحاور البارزة في الاجتماع الأخير بين بلينكن والسيسي، فمثلما قصف الطيران الحربي المصري والإماراتي أهدافا في جنوب ليبيا وشرقها، لمطاردة زعماء حركات متشددة، في مقدمها تنظيما «داعش» و«القاعدة» لا يتردد الجيش الأمريكي أيضا في قصف أو اعتقال من يصل إليهم من المسجلين على لوائح الإرهاب، خاصة في جنوب ليبيا. وكان القسم الأكبر من قوات «داعش» التي سيطرت على مدينة سرت، قد تمكن من الانسحاب نحو الجنوب، بعد هزيمته في كانون الأول/ديسمبر 2016. وهو ما زال يشكل خطرا بسبب وجود عناصره في مناطق بالجنوب الشرقي لا تسيطر عليها الدولة الليبية. ومن أبرز من اعتقلت أمريكا الليبي أحمد أبوختالة، المتهم الأول في قضية الهجوم على مقر القنصلية الأمريكية في بنغازي، والذي نُقل في حزيران/يونيو 2014 إلى الولايات المتحدة حيث حوكم أمام هيئة قضائية فدرالية في واشنطن، قضت بسجنه 22 عاما.
كما قبضت أمريكا العام الماضي على الليبي أبو عقيلة مسعود المريمي، المتهم بصنع القنبلة التي استخدمت في تفجير طائرة «بان أم» الأمريكية فوق بلدة لوكربي عام 1988 ما أسفر عن وفاة 259 شخصا. وتم الاعتقال باتفاق مع حكومة عبد الحميد الدبيبة، في أعقاب خطف جماعة مسلحة للمشتبه به من بيته في طرابلس. وما من شك بأن وزير الخارجية الأمريكي ناقش ملف مكافحة الإرهاب مع الرئيس المصري، الذي ينتهج خطا متشددا مع الجماعات الأصولية المسلحة.

سقوط أحجار الدومينو

ويقول الخبير الفرنسي لوك دوباروشي إن وزير الخارجية الأمريكية لا يمكن أن يكون قد تناسى المخاطر المتزايدة في منطقة الساحل والصحراء، بعد الانسحاب الفرنسي المتعثر من تلك المنطقة. وتتعرض باريس لطلبات من بعض الدول الأفريقية، بسحب قواتها من القارة، بدأت العام الماضي من مالي وأفريقيا الوسطى، ثم توالى سقوط أحجار الدومينو، ليشمل أيضا الانسحاب الفرنسي من بوركينا فاسو. والأرجح أن استمرار هذا التدحرج يُؤشر لالتحاق بلدان أخرى قريبا بالقطار، ما يعني إخفاقا ذريعا للحرب الفرنسية على الإرهاب في أفريقيا، بعد عشر سنوات من إطلاقها على يد الرئيس السابق فرانسوا أولاند. من هذه الزاوية فإن المخاطر التي تمثلها تلك الظاهرة، كانت على الأرجح قاسما مشتركا في الحديث بين بلينكن والسيسي.
ورأى الخبير دوباروشي أن أمريكا تسعى للعودة إلى أفريقيا بقوة، وأظهرت ذلك من خلال الوفد رفيع المستوى، الذي رافق بلينكن في جولته الأفريقية الأخيرة، الصيف الماضي، إذ كان قوام الوفد نحو خمسين مسؤولا وخبيرا. وقام بلينكن بجولته الأفريقية الثانية بعد أقل من سنة. ويُعزى ذلك الاهتمام إلى الرغبة الأمريكية في مواجهة التمدد الروسي السريع في القارة الأفريقية. ورد الروس على تلك الجولة بجولة مضادة قام بها وزير الخارجية سيرغي لافروف، وشملت مصر وأوغندا وأثيوبيا وكونغو برازافيل.
ومن غير المستبعد أن يكون السيسي قد استكمل مع بلينكن الحديث الذي بدأه مع مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز خلال زيارته الأخيرة للقاهرة، بحضور رئيس المخابرات المصرية، إذ اتفقا على تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين. وكان بيرنز وضع السيسي في صورة المجموعة الجديدة التي شكلتها الوكالة المركزية الأمريكية، والتي قال إنها تركز بشكل مطلق على الصين، واصفا التحديات التي تمثلها على الأمن القومي الأمريكي بكونها «أهم تهديد تواجهه أمريكا».
مع ذلك تبقى روسيا خصما عنيدا وقويا لأمريكا، ويتجلى هذا الصراع في الحرب الأوكرانية وكذلك في ليبيا، التي باتت تشكل منذ 2014 إحدى ساحات المواجهة بين الدولتين. وأحرزت أمريكا تقدما على حساب روسيا من خلال وجودها على الأرض، سواء عبر بعثتها الدبلوماسية في طرابلس، أم مبعوثيها الخاصين وآخرهم بيرنز.

تقارب الفرقاء الليبيين

تركز واشنطن على ليبيا ضمن رؤية أشمل في صراعها مع روسيا، خاصة في ظل الحرب الأوكرانية وتداعياتها على أمن الطاقة العالمي. ويبدو أن مصلحة واشنطن تكمن في ألا يؤدي انهيار العملية السياسية في ليبيا إلى اندلاع حرب جديدة تكون عناصر «فاغنر» طرفا فاعلا فيها، وأن يستمر تدفق النفط والغاز الليبيين حتى لا تتعمق أزمة الطاقة في أوروبا، مع تراجع إمدادات الطاقة الروسية، وخاصة بعد قرار تسقيف الأسعار.
بهذا المعنى كان الملف الليبي على مائدة البحث بين بلينكن والسيسي، انطلاقا من المحاولات المصرية لجمع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري. وأفادت مصادر مصرية مطلعة أن القاهرة بصدد القيام بترتيبات لجمع صالح والمشري مجددا في القاهرة. ويدعم الأمريكيون هذه الجهود، لكنهم يستعجلون الحل السياسي لأن استمرار عدم الاستقرار في ليبيا يُلقي بتداعياته على أمن الإقليم. ويمكن اختزال موقف واشنطن من سرعة اجتراح الحل السلمي، بضرورة إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة وشفافة. وأورد موقع السفارة الأمريكية لدى ليبيا تلخيصا لهذا الموقف، مؤكدا أن واشنطن «تدعم حلا سريعا للصراع في ليبيا من خلال وساطة بإشراف بعثة الدعم الأممية إلى ليبيا (أونسميل)». ويضيف الموقع أن أمريكا مصممة على المساهمة في إقامة ليبيا مستقرة ومزدهرة «بالخصوص من خلال انتخابات وطنية».
على هذه الأسس يُعتقد أن الملف الليبي طُرح للمناقشة على مائدة الحوار، مثلما ورد في البيان الصحافي، الذي سبق زيارة بلينكن لمصر. وقد يكون شمل دعوة القاهرة للتخفيف من دعمها للواء المتقاعد حفتر، الذي سبق أن اتهمته ستيفاني وليامز، المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة، بكونه يُعرقل الوصول إلى حل سياسي للأزمة الليبية. وبهذه الخلفية ندرك حرص وليم بيرنز على زيارة الجنرال في بنغازي لتحذيره من تعطيل المسار السياسي والانتخابي، زيادة على إبلاغه قلق الإدارة الأمريكية من تحالفه مع مجموعة «فاغنر». وربما يرتدي الحوار الأمريكي مع حفتر بعدا آخر يتعلق بإقدام قوات الجنرال على غلق الحقول النفطية والغازية في المنطقة الشرقية، كلما تأزمت العلاقات مع حكومة الوحدة في طرابلس. ويحض الأمريكيون الدول المنتجة للغاز أسوة بالجزائر وليبيا، على ضخ الغاز إلى بلدان أوروبا الغربية للتعويض عن الغاز الروسي. وتحتل ليبيا الرتبة الحادية والعشرين عالميا من حيث احتياطي الغاز، بطاقة إنتاجية تقدر بنحو 2.2 مليار قدم مكعب يوميا. وتصدر ليبيا الغاز إلى إيطاليا منذ 2007 عبر أنبوب يبلغ طوله 520 ميلا بحريا، بالإضافة لزبناء غربيين آخرين، من حلفاء الولايات المتحدة. وإجمالا ينبني الاهتمام الأمريكي بالوضع في ليبيا على تحديين كبيرين، الأول هو ملاحقة قوات «فاغنر» وإخراجها من الجنوب الليبي، وثانيهما تأمين تدفق الغاز والنفط على الدول الأوروبية، من دون إغلاقات أو تعطيلات.
لكن مع هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في تشرين الأول/اكتوبر 2020 وتعثر اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة «5+5» ستنصبُ الجهود على حماية الوضع القائم من أي انزلاق نحو عملية عسكرية جديدة.

تعليقات