الأربعاء 09 يوليو 2025 13 محرّم 1447

كل مقالات Farouk

السراج احتفظ بأوراقه للعب أدوار سياسية في المستقبل

 

رشيد خشانة – تؤكد تقارير أن طائرات شحن عسكرية وسفنا محملة بالأسلحة ما زالت تتدفق على طرفي النزاع في ليبيا، بموازاة الحل السياسي، ما يفرض عدم الإفراط في التفاؤل.

من سخرية الأقدار أن استقالة فائز السراج من رئاسة المجلس الرئاسي ورئاسة حكومة الوفاق، تزامنت تقريبا مع استقالة عبد الله الثني رئيس الحكومة المؤقتة في المنطقة الشرقية، على الرغم من أن الأول يقود حكومة شرعية معترفا بها دوليا، فيما “المؤقتة” غير شرعية. فاستقالة الثني أتت تعبيرا عن العجز على حل مشاكل المواطنين المعيشية في بنغازي، وغيرها من المدن الشرقية، وهي عنوان إفلاس سياسي، بعدما ظل ألعوبة بين يدي الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. أما السراج فقرر الخروج من الباب الكبير محتفظا بجميع أوراقه، التي ستجعل منه رقما مهما في المستقبل.

فمثلما دخل السراج إلى سدة الحكم من بوابة الصخيرات (2015) ها هو يستعد لمغادرتها (مؤقتا) عبر بوابة بوزنيقة. لكن لماذا أعلن عزمه على الاستقالة قبل نهاية الشهر المقبل؟ يمكن اعتبار هذا الإعلان خطوة أولى في طريق تنفيذ مخرجات بوزنيقة، والتي توافق خلالها مفاوضو الطرفين على البدء بإعادة تشكيل المجلس الرئاسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية، بالاضافة لإجراء انتخابات خلال 18 شهرا؟

وإعادة التشكيل تفترض طبعا تخلي السراج عن موقعيه، رئيسا للمجلس الرئاسي ولحكومة الوفاق، ولذلك فهو لم يعلن الاستقالة، وإنما أبدى استعداده للتنحي إذا ما اختير بديلٌ منه. كما أنه ربط التنحي بالتوقيت الذي يتوقع أن تستكمل فيه الأمم المتحدة إعداد خريطة الطريق، بالتشاور مع ممثلي الطرفين المتصارعين. وسيكون ذلك على الأرجح في الاجتماع المقبل للجنة التوجيه، المؤلفة من خمسة أعضاء عن كل طرف، في بوزنيقة خلال الأسبوع الأخير من أيلول/سبتمبر الجاري. بتعبير آخر، اختار السراج استباق مخرجات بوزنيقة بتنفيذ “حصته” من الإجراءات المتفق عليها في الاجتماع الأخير، ولكن ليس للانسحاب من الحلبة، وإنما من باب التكتيك اللينيني المعروف “تراجع خطوة لتقفز اثنتين”. كما استطاع السراج إحراج حفتر بهذا الإعلان، لأن الجنرال لا يعترف في قاموسه بالاستقالة أو التراجع التكتيكي. ولا شيء يُفسر صمته بعد الإعلان عن مخرجات بوزنيقة سوى أن داعميه الدوليين والإقليميين فرضوا عليه “الانضباط” والكف عن استفزاز قوات الحكومة الشرعية في محيط مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس).

مستقبل ليبيا في موسكو وأنقرة

من هذه الزاوية تبدو الأمور وكأنها تسير في اتجاه إبعاد متزامن للسراج وحفتر، لكن الفارق بينهما أن أوراق الجنرال احترقت، مع فرار قواته من طرابلس، بينما ما زالت في جعبة السراج أوراق لم يستخدمها، بينها الترشح لرئاسة الدولة أو الحكومة، في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة. وبالعودة إلى السؤال عن توقيت الإعلان عن هذه الاستقالة، يبدو أن السراج حسم أمره في أعقاب اجتماعي موسكو وأنقرة الأخيرين، في شأن مستقبل ليبيا. فقد اجتمع مصريون وروس في موسكو لتثبيت الوقف النهائي لإطلاق النار في جبهتي سرت والجفرة، واستطرادا ضبط الايقاع وتوحيد الرؤى في شأن مآلات المرحلة الانتقالية وميقات الانتخابات، وإن كانت المفوضية العليا للانتخابات تؤكد أنها غير جاهزة لوجستيا وماليا لإدارتها.

الجدير بالملاحظة هنا أن روسيا بدأت حوارات مباشرة مع بعض الفرقاء الليبيين، في موسكو، على غرار الاجتماع بين نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف والرئيس السابق للمؤتمر الوطني العام، رئيس تيار “يا بلادي” حاليا نوري بوسهمين، الأربعاء في موسكو، بالإضافة للاتصالات المستمرة مع سيف الإسلام نجل الزعيم الراحل معمر القذافي، الذي التف حوله أخيرا عدد من أعمدة النظام السابق. والغريب أن بوسهمين، الذي ترك خلفه في المؤتمر الوطني، بصمات تثبت اعتماده على العلاقات العشائرية والمناطقية، أبدى رغبته بأن يكون “شريكا فاعلا في بناء دولة المؤسسات”! ليس بوسهمين الوحيد في هذا المجال، فمع كثرة الحديث عن الانتخابات المقبلة، تتحفز شخصيات عديدة للعودة إلى الملعب السياسي بدعم من القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في المعادلة الليبية.

توافق روسي تركي

أما في أنقرة فاجتمع الروس والأتراك معا، بحثا عن توافقات في الملف الليبي، بغية ضمان ديمومة وقف إطلاق النار، ووضع الحل السياسي على سكة التنفيذ. واستفاد الجانبان من خبرتهما في التوافقات على الساحة السورية، من أجل الوصول إلى “أستانا ليبية”. ولم يشارك في اجتماعي موسكو وأنقرة وزيرا الخارجية، وإنما “خبراء” من الماسكين بالملف الليبي، وهم الطباخون الحقيقيون في كل من موسكو وأنقرة. ومن هنا تتوضح أهمية الاجتماعين، اللذين ساهما في تحفيز السراج على إعلان انسحابه الوشيك من الرئاستين، بعدما أدرك أن لا مكان له في الصيغة الانتقالية المطروحة، مع الاحتفاظ بأوراقه للمرحلة اللاحقة. وبات من الواضح اليوم أن الحل روسي – تركي، وأن هذا الثنائي هو من سيبحث ترتيبات المرحلة المقبلة مع اللاعبين الخاسرين، ومنهم فرنسا وإيطاليا ومصر والامارات.

مجلس رئاسي مصغر

عندما يعود الوفدان، اللذان يضم كل واحد منهما خمسة نواب من المجلس الأعلى للدولة (مقره في العاصمة طرابلس) ومن مجلس النواب (مقره في طبرق- شرق) المؤيد لحفتر، إلى الاجتماع، سيناقشان معاودة تشكيل المجلس الرئاسي، المؤلف من تسعة أعضاء، والذين يتجه رُعاة الحل إلى تقليصهم إلى ثلاثة فقط، بالإضافة إلى تسمية رئيس جديد للحكومة. كما سيناقشون أيضا التسميات في المناصب السيادية، وفقا لمعايير اتفقوا عليها، وأكدوا أنها “آليات شفافة وموضوعية”. وهذه المناصب هي المؤسسة الوطنية للنفط، التي تعتبر العامود الفقري للاقتصاد الليبي، ومصرف ليبيا المركزي وقيادة القوات المسلحة. وسيُراعى في اختيار المسؤولين عنها العمل على إعادة توحيدها، بعدما ظهرت بعض التشققات، الناتجة عن محاولات حفتر وداعميه تقسيم مؤسسات الدولة بين الشرق والغرب، لا سيما بعدما عمد إلى إقفال الحقول والموانئ النفطية، لإرباك حكومة الوفاق. وقد تُضاف إلى المؤسسات الثلاث المذكورة أربع أخرى هي المفوضية العليا للانتخابات والنائب العام وهيئة مكافحة الفساد وهيئة الحوكمة والرقابة الادارية.

والمُتوقع في المدى القريب أن بعثة الأمم المتحدة للدعم، التي استكملت “مشاورات مكثفة استمرت أسابيع” على ما قالت، مع الأطراف الرئيسة، الليبية والدولية، ستطلق الترتيبات اللازمة “لاستئناف الحوار السياسي الليبي الشامل” في إشارة إلى المؤتمر الليبي الليبي، الذي تمت التهيئة لعقده في مدينة غدامس الحدودية مع الجزائر، أواسط نيسان/ابريل 2019 قبل أن يُحبطه حفتر بزحفه على طرابلس في الشهر نفسه. وكانت تلك العملية بداية تفكير الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة للدعم الدكتور غسان سلامة، بالاستقالة من منصبه.

خطوة استباقية؟

في السياق أكد عضو المجلس الأعلى للدولة، محمد معزب، أن المساعٍي منصبة حاليا على عقد اجتماع للجنة الحوار، مع نهاية هذا الشهر، أو بداية تشرين الأول/أكتوبر المقبل، ربما في جنيف، من أجل التوافق على تشكيل المجلس الرئاسي المصغر، والمؤلف من رئيس ونائبين، وتسمية رئيس جديد للحكومة. واعتبر معزب في تصريحات لوكالة “سبوتنيك” الروسية، أول أمس، أن السراج “أراد استباق الأمر وإفساح الطريق لتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة، وهذه مبادرة جيدة تساهم في حلحلة الأوضاع التي زادت تأزما” على ما قال.

أما أوروبا فتستعجل الوصول إلى مرحلة الحوار والاستقرار بسبب مخاوفها المتزايدة من أن تعود ليبيا منصة متقدمة للهجرة غير النظامية، فضلا عن خشيتها من وجود برميل بارود في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. وهذا ما عبرت عنه المستشارة الألمانية إنغيلا ميركل ورئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي في مكالمة هاتفية بينهما الخميس، ركزاها على الوضع الليبي وآفاق حلحلته.

يبقى السؤال الكبير: من سيتعاطى مع الميليشيات المتحكمة في طرابلس ومدن أخرى، بعد خروج السراج، الذي كان يحسن تطويعها بالمال وبمُحفزات أخرى؟ تُردد بعض التسريبات اسم عقيلة صالح بوصفه مرشحا محتملا لرئاسة المجلس الرئاسي، وقد يكون هو من يقف خلف هذه التسريبات، لكن الثابت أنه لا عقيلة صالح ولا أي زعيم من المنطقة الغربية، يستطيع التحكم بتلك الميليشات، المتمردة أصلا على جميع السلطات، والمتنافسة في ما بينها حد الاقتتال. ولا يوجد سوى مسارين يمكن أن يُساعدا على ضبطها، وهما مشروع الجيش الوطني، الذي أعلنت تركيا أنها ستساعد على تكوين ضباطه، والذي يستغرق إعداده بعض الوقت. أما المسار الثاني فيتمثل في إدماج عناصر الأجسام العسكرية غير الشرعية في قوات الأمن والجيش، وتأهيلهم للعودة إلى الحياة المدنية، بشرط ألا يكونوا ارتكبوا جرائم حرب.

استمرار شحن الأسلحة

وهناك ملف شائك آخر يتمثل بالأسلحة الثقيلة المنتشرة في المدن، والتي تشكل خطرا جسيما على حياة المدنيين. وهذا الملف لا تقدر على التعاطي الحازم معه، على الأقل حاليا، سوى القوى الدولية والإقليمية، التي أرسلت تلك الأسلحة، إذا ما صحَ منها العزم على المساهمة في إنهاء الصراع العسكري وبناء السلام الأهلي. وتؤكد تقارير متطابقة أن طائرات شحن عسكرية وسفنا محملة بالأسلحة، ما زالت تتدفق على طرفي النزاع في ليبيا، في خط مواز للتقدم المسجل في الحل السياسي، مما يفرض عدم الافراط في التفاؤل. وبالنظر لخطورة التسليح المفرط عادت نائبة رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم، ستيفاني وليامز، إلى حض الدول المعنية على “التقيد التام بقرار حظر التسليح الذي تفرضه الأمم المتحدة” لكن لن يُسمع لها من دون توخي الردع أو المحاسبة.

والسؤال الآخر هو إذا لم تتوصل لجنة الحوار (ومن خلفها أصحاب القرار الإقليميين والدوليين) إلى صيغة مقبولة لمعاودة تشكيل المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق، هل سيستمر السراج، أم يغادر موقعه، خاصة أن العلاقات بينه وبين باقي أعضاء المجلس الرئاسي وأعضاء حكومة الوفاق ليست على ما يُرام؟

خطة واضحة المعالم

الملف الشائك الأخير يخص إعادة تصدير النفط، الذي بات أمرا حيويا للدولة، بل عنصر احتقان للبلد بأسره. وأكد رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، مصطفى صنع الله، أن المفاوضات التي تجريها المؤسسة بشأن معاودة تصدير النفط، “بالتنسيق مع المجلس الرئاسي والمجتمع الدولي” تتضمن مبادرة وخطة واضحتي المعالم. وتشمل الخطة، بحسب صنع الله، “التشغيل الآمن للحقول والمواني النفطية، وحماية المستخدمين والأهالي في مناطق الإنتاج والتصدير، إضافة إلى خروج جميع المجموعات المسلحة بكل مسمياتها”.

في المحصلة، وعلى الرغم من تواضع الخطوات التي قُطعت حتى اليوم، فإن أكبر مكسب لليبيا هو تفادي التقسيم، الذي كان الاتجاه الاجباري، وسط ظلام النفق الذي تردت فيه الأوضاع قبل اجتماعات بوزنيقة. لكن هذا الشبح لن يُطرد نهائيا ما لم يذعن جميع الفرقاء للحل السلمي، القائم بالضرورة على تنازلات متبادلة.

ليبيا: ضغوط أمريكية وحذاقة مغربية تمهد لحل سلمي

 

رشيد خشـانة – يتأسس هذا الحل على إعادة هيكلة السلطة التنفيذية لكي تتألف مستقبلا من مجلس رئاسي يضمُ رئيسا ونائبين فقط بدل تسعة، ومن حكومة وحدة وطنية مستقلة عن المجلس.

أسفرت اجتماعات بوزنيقة في المغرب ومونترو في سويسرا عن تقريب الشقة بين الفرقاء الليبيين، ما أتاح بلورة خريطة طريق أولية، للتدرج نحو انتخابات عامة، رئاسية وبرلمانية في نهاية 2021 أو بداية 2022. تعني “بوزنيقة” في اللهجة المغربية الشارع الضيق، فهي تصغير لـ”زنقة” (شارع) غير أنها اتسعت لأعضاء الوفدين الليبيين، من أجل وضع معالم حل سياسي للأزمة المستمرة منذ 2014. يتأسس هذا الحل، طبقا لمخرجات الاجتماعات التي استمرت ثلاثة أيام، على إعادة هيكلة السلطة التنفيذية لكي تتألف مستقبلا من مجلس رئاسي يضمُ رئيسا ونائبين فقط بدل تسعة، ومن حكومة وحدة وطنية مستقلة عن المجلس.

وفي خط مواز تجد المبادرة الأممية التي تتبناها أمريكا وألمانيا، طريقها نحو إقامة منطقة منزوعة السلاح، بشكل تدريجي، بدءا من مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس) إلى قاعدة الجفرة، مع وضع آلية رصد دولية مشتركة لمراقبة وقف إطلاق النار، وهي آلية لم تلق ترحيبا من الجنرال خليفة حفتر، الذي ما فتئ يعارض هذا المسار برمته. وقد يكون مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، يشير إلى الجنرال حفتر، عندما تحدث في محاضرة بمعهد “بروكنغز”، عن وجود أشخاص عنيدين في ليبيا. كما شدد، في تلك المحاضرة، على أن من غير الممكن حل النزاع الليبي عسكريًا، وهذا نقيضُ الموقف المعروف عن حفتر. وكان الأخير رفض التوقيع على اتفاق لوقف القتال في موسكو وأبو ظبي، مُصرا على حسم عسكري لم يأت ولن يأتي.

على أن ما يتوجس منه الليبيون اليوم، هو احتمال توافق مجلس النواب (طبرق) والمجلس الأعلى للدولة (طرابلس)، على الدخول في مرحلة انتقالية جديدة تضمن التمديد لأعضائهما، عوضا عن الاتفاق على انتخابات جديدة يختار فيها الشعب ممثلين جُدُدا.

تباعد في المواقف

غير أن المجلس الأعلى للدولة، كثيرا ما أكد على ضرورة الذهاب إلى استفتاء على الدستور، قبل التوجه إلى الانتخابات، بينما يفضل عقيلة صالح انتخاب عضو من كل إقليم من الأقاليم الثلاثة (فزان وبرقة وطرابلس)، لتشكيل مجلس رئاسي يتخذ من سرت مقرا له، لفترة انتقالية تمتد من 18 إلى 24 شهرا. وهنا يبدو الاختلاف واضحا بين ما اقترحته اجتماعات بوزنيقة/مونترو، في شأن إجراء انتخابات في غضون 18 شهرا، وما دعا إليه السراج في شأن التوجه إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية في آذار/مارس المقبل.

على أن تطبيق الخطوات التمهيدية التي تم الاتفاق عليها مبدئيا، سيستغرق وقتا، بسبب تلكؤ السلطات في الشرق كما في الغرب في الالتزام بتنفيذها. وهذه الخطوات هي إنهاء ظاهرة الاحتجاز غير القانوني والإدانة لأسباب سياسية، وتفعيل قانون العفو عن السجناء السياسيين، والعمل على العودة الآمنة للمبعدين والنازحين، الذين يتجاوز عددهم 425 ألف نازح، وجبر الضرر، من دون إسقاط الحق الشخصي في التقاضي. وتتمثل الخطوة المقبلة باختيار أعضاء المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة في إطار أعمال لجنة الحوار السياسي الليبي. ويكلف الأخير بتشكيل الحكومة، “بما يراعي وحدة ليبيا وتنوعها الجغرافي والسياسي والاجتماعي” ثم يطرحها لنيل الثقة.

مرشحون للمؤسسات الرقابية

وأفاد المشاركون في الاجتماعات أنهم توصلوا إلى تفاهمات بشأن المؤسسات الرقابية، وكذلك بشأن الأسماء المقترحة لقيادتها، ما يعني أن هناك تقدما نحو توحيد هذه المؤسسات المنقسمة بين غرب البلاد وشرقها. وتتمثل المؤسسات الرقابية، بحسب المادة 15 من اتفاق الصخيرات، في حاكم مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس جهاز الرقابة الإدارية، ورئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس المفوضية العليا للانتخابات وأعضائها، ورئيس المحكمة العليا، والنائب العام.‎

بهذا المعنى يمكن القول إن ثلاثة أيام من الاجتماعات في بوزنيقة، وضعت معالم الحل المرحلي، وفوضت للجنة الحوار السياسي تقويم عمل السلطة ومتابعتها بشكل دوري، لمعرفة مدى إنجاز مهامها، مع دعوة مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة إلى “الاتفاق في شأن المناصب السيادية والمسار الانتخابي في آجال معقولة”. قد يستغرب بعض المراقبين من السلاسة النسبية لاجتماعات بوزنيقة ومونترو، قياسا على الاجتماعات العقيمة في السابق، في باريس وباليرمو وموسكو، وغيرها من العواصم والمدن التي استضافت حوارات ليبية ليبية. صحيح أن اجتماعات بوزنيقة تم تمديدها من يوم واحد إلى ثلاثة أيام، بسبب الخلافات المستحكمة حول مسائل عدة، غير أن طبيعة المخرجات جعلت التمديد أمرا مقبولا.

ضغط أمريكي

من خلال أحاديث مع الشخصيات المشاركة في الاجتماعات من الجانبين، يتضح أن ثلاثة عناصر أساسية دفعت الأمور نحو الوصول إلى التوافقات التي انبثقت من اجتماعات بوزنيقة ومونترو. وأول هذه العناصر هي الدور الأمريكي، الذي ضغط بقوة، وخاصة على حفتر، لفرض نوع من الانضباط يردعه عن تخريب المحادثات. واعترف مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، شينكر، وإن مُداورة، بذلك “الشغل” على ليبيا حين أكد أنه ووزير الخارجية مايكل بومبيو، يخصصان وقتا طويلا للملف الليبي، وأنه يبحث مع نظيريه البريطاني والفرنسي هذا الشأن بشكل مستمر. ويتجلى هذا الدور أيضا من خلال “الترحيب الحار” الذي أبدته الأمريكية ستيفاني وليامز، نائبة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، بنتائج المشاورات. وكان السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند زار الجنرال حفتر في مقره بقاعدة الرجمة، في أعقاب إعلاني وقف إطلاق النار المتزامنين، الصادرين في 21 آب/اغسطس الماضي، عن رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ليؤكد له أن الإعلانين “يُشكلان أساساً لجميع الأطراف الليبية، التي تتحلى بروح المسؤولية الوطنية”. ولوحظ أن وليامز هي التي سارعت إلى الاعلان من مونترو عن “توافق آراء المشاركين خلال المشاورات على وجوب إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في نهاية فترة تمتد لـ 18 شهراً، وفق إطار دستوري يتم الاتفاق عليه، مع انطلاق هذه الفترة بمعاودة تشكيل المجلس الرئاسي وتأليف حكومة وحدة وطنية.

مركز حوار سياسي

العنصر الضاغط الثاني هو سويسرا من خلال “مركز الحوار الانساني”، وهو منظمة غير حكومية، رسميا، متخصصة في تهدئة النزاعات، وهي تعمل في ليبيا منذ سنوات، في كنف الكتمان، بعيدا عن أضواء الاعلام. وأجرى خبراء المركز مئات اللقاءات مع طرفي الصراع في ليبيا، من دون الاعلان عن أية مخرجات.

ولعب “مركز الحوار الانساني” دورا فعالا، بالتنسيق مع الممثل الخاص السابق للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، الدكتور غسان سلامة، في إعداد الأوراق التمهيدية للمؤتمر الوطني، الذي كان مُزمعا عقده في مدينة غدامس الليبية في أواسط نيسان/ابريل 2019 إلا أن الجنرال حفتر بدأ هجومه المُباغت على طرابلس قبل ذلك بعشرة أيام لإحباط المؤتمر. كما كان المركز وراء الاجتماع التشاوري الأخير في مدينة مونترو بمشاركة مجموعة من الشخصيات الليبية، وفي حضور البعثة الأممية لدى ليبيا. وهو الاجتماع الذي انتهى بالتأكيد على ضرورة تشكيل مجلس رئاسي، وحكومة وحدة وطنية مستقلة، وإجراء انتخابات في مواعيد لا تتجاوز 18 شهراً. ولهذا اعتبرت وليامز أن الدور الذي قام به المركز “نقطة تحول حاسمة في مسعى طويل بحثاً عن حل شامل للأزمة الليبية” على ما قالت.

أما العنصر الثالث الذي لم يمارس ضغوطا بقدر ما لعب دور المُيسر فهو المغرب. واشتغل المغاربة منذ فترة لإنضاج المواقف الليبية لكي تجنح إلى السلم، استعدادا للقاء على مائدة الحوار. واتسمت الاتصالات المغربية بالتكتم، إلى أن وصلت المساعي إلى المرحلة الأخيرة، التي تُوجت بزيارة كل من عقيلة صالح وفائز السراج إلى المغرب بشكل متزامن، لوضع اللمسات الأخيرة على مشروع الاتفاق الذي نوقش لاحقا في اجتماع بوزنيقة.

وسطاء أم مُيسرين؟

بالرغم من أن الوساطة بين الفرقاء الليبيين كانت أحد محاور المنافسة الجزائرية المغربية، ومع أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون دعا الليبيين أكثر من مرة للاجتماع في الجزائر، واستقبل كلا من السراج وصالح في يونيو/حزيران الماضي، إلا أن آلته الدبلوماسية كانت أثقل خطوا وأقل فعالية من مثيلتها المغربية. ومن هنا حرص المغاربة على قلة الظهور في المشهد الليبي، عدا كلمة وزير الخارجية بوريطة في الجلسة الافتتاحية ببوزنيقة، مع إبراز التواصل في دورهم بوصفهم مُيسرين لا وسطاء. من هنا أبرز المغاربة أن اتفاق بوزنيقة أتى تطبيقا للمادة 15 من الاتفاق السياسي الليبي، الموقع بالصخيرات، وتأكيداً على مخرجات مؤتمر برلين، التي تدعم الحل السياسي في ليبيا، وبناء على قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. ومن المهم أن الغريمين اتفقا أخيرا على إصدار بيان مشترك في أعقاب جلسات بوزنيقة، وهو أمر كان غير ممكن مع حفتر في لقاءات باريس (سال سانكلو) وباليرمو وأبو ظبي وموسكو وبرلين. كما أن من المهم أيضا اتفاق الطرفين، في ذلك البيان المشترك، على “تحديد المعايير والآليات الشفافة والموضوعية لتولي المناصب السيادية”.

متشددون في المعسكرين

لكن حساب الحقل قد لا يُطابق حساب البيدر، فالوفدان اللذان عادا إلى ليبيا سيجدان في المعسكرين أصواتا متشددة ترفض الحل السياسي وتدعو إلى الحسم العسكري، وفي مقدمة هؤلاء حفتر وبعض ضباطه. كما سيوجد في الفريق الآخر من يرفض نقل العاصمة، وإن مؤقتا، إلى مدينة سرت، وفي مقدم هؤلاء الطرابلسيون والمصراتيون. لهذا السبب تم الاتفاق على استئناف اللقاءات في الأسبوع الأخير من أيلول/سبتمبر الجاري، “من أجل استكمال الإجراءات التي تضمن تنفيذ هذا الاتفاق وتفعيله”، وفي الحقيقة من أجل امتصاص الاعتراضات على الاتفاق في الجهتين. والأرجح أن السراج على سبيل المثال، لن يكون سعيدا بإعادة تشكيل المجلس الرئاسي وإنشاء حكومة وحدة وطنية، تحل محل الحكومة التي يرأسها منذ كانون الأول/ديسمبر 2015.

يبقى أن ما أنجز في بوزنيقة ومونترو سيبقى مجرد مدخل للمسار السلمي وليس هو المسار نفسه، إذ أن المسائل الكبرى التي لا سلام من دونها، مازالت لم توضع على مائدة الحوار، ومن بينها إخراج الأسلحة الثقيلة من المدن ومعاودة بناء الجيش والمؤسسات الأمنية وحل المليشيات والاتفاق على صيغة إعادة إدماجها، وإخراج المرتزقة من البلد، وعودة المهجرين إلى بيوتهم، فهل سيتوفق الوسطاء إلى حل هذه القضايا خارج قاعات الاجتماعات، قبل إضفاء الأمم المتحدة الغطاء الشرعي عليها، في اجتماعات رسمية؟

قائد عسكري ليبي: الحوار بالمغرب يقطع الطريق أمام داعمي الحرب

اللواء أسامة جويلي، آمر المنطقة العسكرية الغربية في الحكومة الليبي

 

دعا قائد عسكري ليبي، الجمعة، إلى الاستفادة من نتائج مشاورات مدينة بوزنيقة المغربية في “قطع الطريق” أمام داعمي الحرب في ليبيا.
جاءت الدعوة على لسان اللواء أسامة جويلي، آمر المنطقة العسكرية الغربية في الحكومة الليبية، في تصريح لـ”قناة ليبيا” الرسمية.
وطالب جويلي وفدي المجلس الأعلى للدولة، ومجلس نواب طبرق (شرق)، بضرورة “الإسراع في تحويل التفاهمات التي جرى التوصل إليها في المغرب إلى خطوات عملية تسهم في قطع الطريق أمام داعمي الحرب بين الليبيين”.
وتتهم الحكومة الليبية دول، في مقدمتها الإمارات ومصر وفرنسا وروسيا، بتقديم دعم عسكري واسع لمليشيا الجنرال الانقلابي خليفة حفتر في عدوانه على طرابلس ومدن الغرب الليبي.
وقال جويلي إنه تابع بـ”ارتياح” النتائج الإيجابية للحوار السياسي الليبي في بوزنيقة، معتبرا أن ذلك “يبعث أملا لدى الجميع (في ليبيا) بإمكانية تحقيق الاستقرار وحل المشاكل المعيشية التي يعاني منها الشعب”.
وشكر جويلي المغرب، وبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، ومركز الحوار الإنساني (منظمة دولية غير حكومية)، على جهودهم في جمع الفرقاء على طاولة واحدة لحل مشاكلهم سلميا.
وأعرب آمر المنطقة الغربية، عن تطلعه لاستمرار تلك الجهات “في دعم الدولة المدنية وصولا إلى الانتخابات كسبيل وحيد للوصول إلى السلطة”.
والخميس، اختتمت جلسات الحوار الليبي بالمغرب بحضور أعضاء وفدي المجلس الأعلى للدولة ومجلس نواب طبرق، باتفاق شامل بشأن المعايير والآليات المتعلقة بتولي المناصب السيادية، في المؤسسات الرقابية.
ومساء السبت الماضي، أعلن الجيش الليبي، خرق مليشيا حفتر، وقف إطلاق النار في سرت للمرة الرابعة، عبر إطلاقها قذائف صاروخية تجاه المدينة.
ومنذ 21 أغسطس/آب الماضي، يسود في ليبيا وقف لإطلاق النار، حسب بيانين متزامنين للمجلس الرئاسي ومجلس طبرق الداعم لحفتر الذي ينازع الحكومة على الشرعية والسلطة في البلد الغني بالنفط.
وتتصاعد تحركات دبلوماسية للتوصل إلى حل سياسي ينهي النزاع الليبي، عقب تحقيق الجيش الليبي سلسلة انتصارات مكنته من طرد مليشيا حفتر من العاصمة طرابلس (غرب)، مقر الحكومة، ومدن أخرى.

 

 

 

 

 

غوتيريش يؤكد دعمه الكامل للحوار الليبي في المغرب

 

أكد أمين عام الامم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الثلاثاء، دعمه الكامل للحوار الليبي الذي تستضيفه المغرب؛ بهدف “تعزيز واستكمال جهود السلام الجارية التي يقودها مؤتمر برلين حول ليبيا في يناير/ كانون الثاني الماضي”.

جاء ذلك في بيان أصدره ستيفان دوغاريك، المتحدث الرسمي باسم غوتيريش.

وذكر البيان أن “الأمين العام يدعم جميع المبادرات التي من شأنها أن تعزز وتكمل جهود السلام الجارية التي يقودها مؤتمر برلين حول ليبيا”.

وقال غوتيريش: “منذ بداية الأزمة الليبية، لعبت المملكة المغربية دورا بناءً، وساهمت في جهود الأمم المتحدة الهادفة إلى تحقيق حل سلمي للصراع الليبي”.
وأضاف: “الاتفاق السياسي الليبي الموقع بمدينة الصخيرات المغربية عام 2015 هو شهادة على التزام المغرب الحازم في إيجاد حل للأزمة الليبية إلى جانب الأمم المتحدة”.

وتابع: “نحن على ثقة من أن أحدث مبادرة للمغرب سيكون لها تأثير إيجابي على تيسير الأمم المتحدة للحوار السياسي الليبي”.

وانطلقت الإثنين، اجتماعات اليوم الثاني من الحوار الليبي بمدينة بوزنيقة شمالي المغرب، بين وفدي المجلس الأعلى للدولة وبرلمان طبرق (شرق).

والأحد، أشاد كل من المجلس الأعلى للدولة الليبي وبرلمان طبرق، عبر بيانين منفصلين، بجهود المغرب لحل الأزمة الليبية.

ونوه الطرفان بـ”سعي المغرب الصادق وحرصه على توفير المناخ الملائم الذي يساعد على إيجاد حل للأزمة الليبية”.

وأضافا أن الجهود المغربية تهدف إلى “الوصول لتوافق يحقق الاستقرار السياسي والاقتصادي، الذي من شأنه رفع المعاناة عن الشعب الليبي”.

كما أبدى الطرفان رغبتهما في تحقيق توافق يصل بليبيا إلى بر الأمان وإنهاء معاناة المواطن الليبي.

ومنذ سنوات، تعاني ليبيا من صراع مسلح، فبدعم من دول عربية وغربية تنازع مليشيا الانقلابي خليفة حفتر، الحكومة الليبية المعترف بها دوليا، على الشرعية والسلطة في البلد الغني بالنفط.

وتتصاعد تحركات دبلوماسية للتوصل إلى حل سياسي ينهي النزاع الليبي، في أعقاب تحقيق الجيش الليبي سلسلة انتصارات مكنته من طرد مليشيا حفتر من العاصمة طرابلس (غرب) ومدن أخرى.

ونهاية يوليو/تموز الماضي، زار بالتزامن كل من رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري، ورئيس برلمان طبرق عقيلة صالح، الرباط، لكنهما لم يعقدا اجتماعا معا، واقتصر الأمر على لقاءات منفصلة مع مسؤولين مغاربة.

كان طرفا النزاع الليبي وقعا، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2015، اتفاقا سياسيا في مدينة الصخيرات المغربية، نتج عنه تشكيل مجلس رئاسي يقود حكومة الوفاق، إضافة إلى التمديد لمجلس النواب، وإنشاء مجلس أعلى للدولة.

لكن حفتر عمل طيلة سنوات على تعطيل وإفشال الاتفاق، ما أسقط قتلى وجرحى بين المدنيين، بجانب دمار مادي واسع.

ويسود ليبيا، منذ 21 أغسطس/ آب الماضي، وقف لإطلاق النار تنتهكه مليشيا حفتر من آن إلى آخر.

ليبيات يصرخن من أجل الحرية… دعوة لجلسة «فك سحر » لرئيسة حزب جزائري

 

نساء يصرخن في الشارع في تظاهرات طرابلس، التي أخرجت مئات الليبيين للتنديد بتدهور ظروف الحياة والفساد في بلد ما زال يعيش الانقسامات السياسية وفوضى حرب المليشيات وتدخل «الحيتان» الكبيرة في شؤونه.
نساء نقلت صرخاتهن وانكساراتهن القنوات المحلية بفصاحة اللغة، سواء العربية أو العامية، حيث خرج الألم بليغا أيضا. سيدة ليبية تصرخ بحرقة نقلتها قناة «الجماهيرية»: «عشر سنوات ونحن نعيش حالة الموت البطيء»!
وعنوت قناة «ليبيا الحدث» تلك الصرخة بـ»المرأة الليبية التي هزت عرش الحكومات».
بدأت السيدة صاحبة الخمار الأسود في عقدها السابع، كلامها بهدوء: «والله إحنا مطالبنا بسيطة جدا جدا، أبسط حقوقنا هي حصولنا على الكهرباء، عصب الحياة، بدون كهرباء ما فيش مية» كيف نعالج كورونا بدون ماء، كيف نعقم، كيف نغسل وكيف نعيش؟ حرام عليكم يا قادة الدولة ويا أصحاب القرار ويا أعضاء النواب. نسيتمونا مرة واحدة، بالليل تغيب الكهرباء ويغيب الأوكسجين ونبقى في كآبة، والأطفال يصرخون. التفتوا إلينا، انظروا لنا، راعونا، هذا لا يطاق. هذا اسمه الموت البطيء»؟! لا تريد هذه السيدة، معاش تقاعدها، لا تريد 420 جنيها، لا تريده خدمة، تريد ماء وضوء «نبي مية وضي»!
تخاطب المسؤولين: أنتم دولة لا بد أن تفكروا فينا. لكنكم لا تفكرون سوى في رواتبكم وامتيازاتكم، هذه ليست حياة. ونحن من صفقنا لكم ورقصنا للثورة، لكن النتيجة: لا كهرباء ولا ماء ولا سيولة وزادتنا كرونا. طفح الكيل. القمامات تغزو الشوارع، والكورونا تستلزم الكمامات والقفازات. وكل هذا «يشترى» بالأموال. أين نجد الأموال وكيف نقف في الطوابير مع الكورونا. ثم يتكلم الإعلاميون عن استحالة تصليح وصيانة مرافق الكهرباء والمياه. هل يصعب عليكم كدولة صيانة الكهرباء والمياه ورفع القمامات؟
الحمد لله ليبيا دولة غنية، وأزمة النفط ستحل. ارأفوا لحالنا نحن كبار السن، كم بقي لنا من العمر». تتأسف لما يحدث للبلاد. وتختم صرختها بالحسبلة من المتسببين في هذا الوضع الكارثي.
سيدة أخرى شابة، تصرخ لقناة «الساعة 24» من الأوضاع المعيشية وأزمة الكهرباء والماء والعلاج والدراسة. قائلة «ما نطالب به هو أبسط حقوقنا في الحياة، ليبيا أكبر من هذا، خيراتها كثيرة (هلبة) ونحن متعلمين ولسنا جاهلين، دمرونا، استعبدونا. لماذا الخوف، تعبنا. إما نعيش عيشة حرة أو نموت. نحن أموات ماذا تركوا فينا ولنا، هم عايشين واحنا تعبانين، صغارنا تعبوا، دمروا، من مات مات، ومن دمرت نفسيته ومن ضاع وهاجر. صوتنا لا بد أن يصل إحنا ليبيين وهذه أرضنا. نحبها ولازم نعيش فيها ونموت فيها، لكن طالبة الحرية، طالبة ضي، طالبة مي…عيب أن أقول هذا في دولة نفط. أريد علاجا عوض الذل في الخارج»!
تلف وتعطي ظهرها للكاميرا وهي تصرخ وتطالب بخروج أكثر لليبيين للاحتجاج، ثم تهبط نحو أسفل، كمن يغمى عليه: «عييييينا والله تعبنا. تخاطب الصحافي: «اللي قدامك راها متعلمة واخذة بكالوريوس جيد جدا. حلمي نعيش في بلادي مرتاحة. عشت مدمرة، صغاري مش متعلمين، ولدي عمرو سبع سنين يقول حسبي الله ونعم الوكيل. علاش شني اللي طالبينه نحن»؟!
من يلتفت لليبيا غير الطامعين في هذا الوقت العصيب. أين أشقاؤها؟! لك الله يا ليبيا.

نعيمة صالحي: سحروها

تداولت منصات التواصل الاجتماعي منشور نعيمة صالحي، رئيسة حزب العمل والبيان، والنائب في البرلمان على صفحتها الرسمية على «فيسبوك» الذي نشرت فيه خبرا «سري للغاية». الله سيحميني.. من إبطل مفعول سحر كنت آكله وأشربه طيلة أكثر من ثلاث سنوات على يد المقربين، الذين كنت أثق بهم، هو الذي يحميني من السحر السياسي»!
هذه العبارات تناقلتها مواقع عديدة، مثل موقع «سيفن دي زاد» كذلك موقع «أنا الجزائر» الذي عنون الخبر بـ»آخر خرجات نعيمة صالحي، أنا مسحورة. نعيمة صالحي مسحورة. المثيرة للجدل تخرج بمنشور وتعد بكشف المستور.
وكانت قد وعدت أنها ستحكي التفاصيل عن عملية «السحور» في منشور آخر: «ترقبوني في بث مباشر على الساعة التاسعة والنصف في ليلة اليوم لأحدثكم عن حادثة السحر الخطيرة التي تعرضت لها. وبالفعل بعد ساعات نشرت على صفحتها فيديو تتحدث فيه عن عديد القضايا السياسية، المتعلقة بالسحر كومضة إشهارية في البداية أو كبرومو مسلسل، وهي تشكر كل من قلق لأجلها بشأن قضية الشعوذة، التي حدثت لها وظاهرة الشعوذة التي انتشرت بشكل رهيب في المجتمع، من خلال ما يعرض على منصات التواصل الاجتماعي من صور وفيديوهات، لا سيما بعد حملات تنظيف المقابر.
ثم تعرج طويلا على الأحداث السياسية كانعقاد المجلس الوزاري كل بداية أسبوع . ومسودة الدستور والاستفتاء عليه. وضرورة المشاركة في الاستفتاء لأن الانتخابات ستكون نزيهة.
المهم كان موضوع السحر طعما لمتابعة «لايفها» الذي دام أكثر من الساعة. ولم تبدأ في تفصيل «سحرها» حتى الدقائق الأخيرة، حيث تكلمت عن «السحر الخطير جدا أو السحر الأسود على حد تعبيرها، وأيضا رجعت إلى سياق حياتها الخاصة وأنها جاءت من وسط نظيف وأنها كانت متزوجة ولديها أبناء وأنها من عائلة محافظة، وعائلة زوجها السابق أيضا محافظة. حيث تقول إنها عندما أتت هنا «تقصد العاصمة و»بومرداس» كانت كـ»قروي بالمدينة» لم تكن لديها فكرة عن المجتمع السياسي كيف يسير. إذ بها وجدته عالما «قذرا جدا جدا». «وسخ وسخ» وتواصل في وصلة اللعب على الأوتار الحساسة، أنها لا تعتمد على الكذب والنفاق وأنها تلقائية نتيجة الوسط، الذي تربت فيه وأنها لا تصلح للعمل السياسي لهذا الزمن. وصل بهم الأمر أن يسحروني سحرا أسود «التمريض» و«التعطيل»! وكادت أن تموت لكنها لم تشتك ولم تفصح عما جرى لها. تواصل بأنها تعبت من العمل السياسي، والذي يحتاج لامرأة متحررة وليست لها قيود أبدا، وتجلس في مجالس خمر ودخان. أو يكون السياسي رجل. ثم تعود للكلام عن السحر، وهذه المرة ليس كومضة إشهار، بل كمشاهد من مسلسل غير محبوك السيناريو، وأن الظاهرة، أي ظاهرة «سحروني» تعود إلى عام 2015 عندما تكلمت عن «الموساد وأن نادي روتاري له اليد الفاعلة في مختلف القرارات». عندما بدأت تنبه الشعب والسلطة للأمر الخطير هذا وأن الجزائر في طريقها إلى الهاوية وأن تقاليد وهوية وديانة الشعب الجزائري ستضيع.
بعد هذا بدأت الحرب ضدها أو كما قالت: «بعدها عطاولي الحسّ وأطلقوا عليها الأوباش والسفهاء. والمشكلة أنه ليس من يخالفونها في الايديولوجيا من حاربها من العلمانيين، كما تقول واللائكيين، من أقلقتهم بكلامها عن تعدد الزوجات وعدم الاختلاط في المدارس، وعدم تغريب قانون الأسرة. لكن الضربة جاءتها من ناس تدعي الإسلام، من التنظيمات الإسلامية. ممن يخطبون في المساجد وهم «من يخططون لك مخططا قذرا وخسيسا» ويمسون بعرضك وأولادك وزوجك.
الصدمة الكبيرة، تقول نعيمة صالحي، عندما تعرف أن حركة أو تنظيما إسلاميا هم من فبركوا القصة وهم من نشروها بين الناس، ولا تستبعد أن يكونوا هم سبب ضررك، وأنهم كانوا يرسلون جواسيس منذ تأسيسها الحزب في 2012 من البسطاء من يطلبون عملا أو مساعدة لكي يدبروا لها ما يريد من «جندهم».
وبما أنها كانت تقضي كل وقتها في الحزب من التاسعة صباحا إلى منتصف الليل فهي تأكل وتشرب قهوتها وعصيرها في المكتب، فأكيد من معها هم من سحروها، بعدما ارتاحت لهم واطمأنت وممن كانت تحسن معاملتهم.
وتقول: «يا ريت سحر «تاع الرش» . هم يضعون لك بالأكل، ليسمموك، كل الجسم يتسمم. وكانت بسبب ذلك تعاني من آلام فظيعة في بطنها وفي مزاجها الذي تغير. ومنذ ذلك الوقت حتى 2018 وحالتها تتقهقر، وتخاطب مشاهديها بأنها ستضع صورا وفيديوهات لها، حين كانت تبدو متعبة وشاحبة وبهالات تحت عينيها. والناس من يعرفونها هم من أخبروها أنها مسحورة، ونصحوها. ولم يكتفوا بسحرها فقط بل سحروا كلبها وأشجار بيتها ومكتبها. والأسباب التي كانت تحميها، وتبطل مفعول السحر المدمر قراءة القرآن. وطهارتها الدائمة ووضوؤها الأصغر والأكبر.
كما قامت بشكر الرقاة والراقيات من الجلفة وباتنة والعاصمة وأدرار.
وقدمت للمشاهدين ومتتبعيها، وصفة العلاج المتمثلة في التحصين بالقرآن، ثم قامت من مكتبها وأحضرت مسبحة لا تفارقها أينما ذهبت، وتنصح متتبعيها بعدم الذهاب إلى الرقاة الذين أصبحوا مشعوذين .
وتشكر رقاة الجلفة والجزائر العاصمة من أنقذوا كلبها قبل أن يموت وفكوا سحر البيت والسيارة. وأوصوها أن لا تأكل في أي مكان. بعد ما حدث، لم تعد تأمن لأحد ولم تعد تستعين بخادمة ببيتها ولا تأكل في مطعم.
ألم يوصها الرقاة أن تغلق مقر حزبها وتكف عن الفيديوهات، التي تثير غضب وسخط متابعيها. وهي من تعودت على إثارة الجدل واتهمت بالكراهية من خلال مواقفها من الأمازيغية وتدريسها، الأمر الذي جعل حقوقيين ومحامين يرفعون قضايا ضدها. خرجتها الأخيرة في عباءة سوداء مزينة بلآلئ، جرت العادة أن تلبس في الأفراح، قد يلمح لمرحلة جديدة ما في مسار رئيسة حزب «العدل والبيان» وعضو البرلمان.
هذه الخرجة التي تحتاج إلى «بخور» و«جاوي» ورش الملح في أركان المؤسسات، ملح العرافات الشوافات، وليس ملح القضاء على الطاقة السلبية في البيوت، ليست جديدة على مسيري مؤسسات حكومية رسمية وخاصة ومن مختلف الاتجاهات والتيارات، فبمجرد الحصول على مناصب وامتيازات وللخلود في المناصب والمحافظة على الامتيازات، تصبح كل الطرق والوسائل مباحة، ولا يجدوا سوى العرافات والرقيات لتحويل المؤسسات العمومية والخاصة إلى أوكار شعوذة.
كلنا نحتاج للرش لنستفيق من غيبوبة «السحر» الحقيقي عندما نصمت عن الأذى والفساد المنتشر في المؤسسات، التي نبني فيها ومن خلالها البلاد ونخدم فيها العباد!

“بنات السياسة” يساريات في قلب تحولات المجتمع التونسي

 

رشيد خشانة – مع أن الرئيس حبيب بورقيبة هو من فرض قانون الأحوال الشخصية، بعد شهور من الاستقلال في 1956 ومنح المرأة حقوقا لم تكن تحلم بها، فإنه تعاطى بقسوة مع الفتيات اللائي انخرطن في العمل السياسي اليساري، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. تعرضت اليساريات اليافعات إلى الاعتقال والتعذيب، ومثلن أمام محكمة أمن الدولة بتهم شتى.

بعد أربعين عاما التقت الناشطات ليكتبن سردياتهن عن ذلك الجدار الذي لو لم يخطفن أجزاء منه، لانهار بلا عودة وضاع إلى الأبد. واعتبرت الصحافية والناشرة زينب فرحات، التي حولت السرديات الشفوية إلى كتاب صادر أخيرا عن دار النشر “زنوبيا” أن تلك الفتيات “وقفن وقفة أنتيغون ليقلن لا لمشروع السيطرة المطلقة لنظام ما بعد الاستقلال”. أما المشرفة على المشروع الكاتبة والإعلامية العراقية هيفاء زنكنة، فتشرح كيف جمعت اليساريات، لا لكي يُقدمن تفاصيل عن الاعتقال والتعذيب وحسب، على أهميتها، وإنما لتقديم سرد شخصي محوره حدث يضيء الماضي القريب، بنمط في الكتابة يختلف عن القصة، لأنه بلا نهاية محددة، ويتميز بالدعوة المفتوحة للمشاركة مع الآخرين. لذا أتت الشهادات/ القصص الإخبارية حاملة مشاعرهن وأفكارهن، وتلك الومضات والمواقف الإنسانية الحميمة، الفردية منها والجماعية، بين رفيقات الدرب، وهن يعشن أصعب الظروف.

ست مناضلات

ربما من الصدف الجميلة أن المشاركات في الورشة كُن ينتمين إلى “تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي” الذي كان يُصدر المجلة الفكرية “آفاق تونسية” فيما كانت زنكنة التي أدارت ورشة الكتابة الإبداعية، مع ست مناضلات تونسيات، ينتمين إلى تنظيم مشابه في العراق، وفي الفترة نفسها تقريبا. واللافت أيضا أن التنظيمين العراقي والتونسي اشتغلا كثيرا على دعم الفيتنام ضد الغزو الأمريكي، وتجلى ذلك في مناسبات عدة بينها تسيير الطلاب التونسيين مظاهرة في العاصمة تونس، ضد زيارة نائب الرئيس الأمريكي هيوبرت همفري العام 1968 ثم وزير الخارجية وليم روجرز العام التالي.

في الجامعة التونسية كان عدد الفتيات مُهما لأن تعليم البنات بدأ في زمن مبكر، وخاصة بعد تأسيس مدرسة نهج (شارع) الباشا الخاصة بالفتيات في 1911 والتي درست فيها بعض المناضلات اليساريات. وتقول أستاذة التاريخ الدكتورة ليلى تميم البليلي، التي كانت من بين المناضلات المعتقلات في 1973 إن حضور الفتيات في الجامعة كان واسعا جدا سواء كن من تونس العاصمة أم من المدن الداخلية أم من المناطق النائية. وشاركن في الاجتماعات وحلقات النقاش وقمن بتأطير المظاهرات في الشوارع. وعلقت البليلي بأن قسما كبيرا من شباب الجامعات في السبعينيات اختار معسكره، وهو أيديولوجيا اليسار، أيا كانت انتماءاتها شيوعية أم ماوية أم تروتسكية أم قومية عروبية. وعلى الرغم من خلافاتها الداخلية، تقف تلك التيارات صفا واحدا أمام خصم مشترك هو الطلاب الدستوريون، المنتمون للحزب الواحد “الحزب الاشتراكي الدستوري”.

شغفٌ بكانط وروسو

في هذا المناخ انخرطت طالبة الفلسفة زينب بن سعيد في المعترك السياسي، وهي تقول إن تلك النقلة كانت انعطافا في حياتها، فهي كانت شغوفة شغفا كبيرا بكانط وروسو ولم تكن قد قرأت بعدُ ماركس. مع ذلك كان أحد مُدرسي الفلسفة في تلك الكلية نفسها ماركسيٌ بارز هو ميشيل فوكو. وتنقل زينب شهادة أستاذها فوكو عن الغليان الطلابي في تلك السنة، إذ قال “كانت تجربة مذهلة. كنا في اذار/مارس 1968 وشهدنا إضرابات وانقطاعا عن الدروس واعتقالات وإضرابا عاما للطلاب. اقتحمت الشرطة الجامعة وانهالت بالضرب على عدد كبير من الطلاب بالهراوات فجرحت كثيرا منهم. حوكم بعضهم (في محاكمة سياسية) وحُكم على بعضهم بثماني سنوات سجنا، والبعض الآخر بعشر سنوات، بل حُكم على آخرين بأربع عشرة سنة”. أما زينب فعادت من باريس إلى تونس العام 1972 بعدما أكملت دراستها العليا. وانضمت هناك إلى “تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي” حيث باشرت الاتصال بالعمال التونسيين وتوزيع منشورات التنظيم عليهم. غير أن عودتها تزامنت مع سلسلة من المآسي التي حلت بأسرتها بسبب الالتزام السياسي، إذ اعتقل شقيقها محمد الطالب في كلية الطب بعد انتخابه عضوا ممثلا للطلاب في المجلس العلمي للكلية. وتصف زينب كيف اقتاد رجال شرطة شقيقها إلى بيت الأسرة، مكبل اليدين لتفتيش غرفته، أملا بالعثور على منشورات سرية. وتصف كيف كانت والدتها ترتجف وتصرخ “لماذا تقيدوا يديه؟ ابني ليس مجرما؟ أطلقوا سبيله” وكان مصير محمد تجنيده في إحدى الثكنات البعيدة حيث تعرض لسوء معاملة استوجبت إدخاله المستشفى. أما شقيقتها هاجر فاعتقلت في سياق حركة شباط/فبراير 1972. ووصفت زينب حال والدتها التي لم تفهم مصدر سوء الحظ الذي ضرب أبناءها الثلاثة، بعدما كانت تشجعهم وتساندهم بقوة “لكنها باتت تعتقد أنهم مفرطون في الاندفاع”.

في نهاية رواق الذكريات، الذي تقودك هيفاء زنكنة عبر محطاته المختلفة، تسرُ إليك بأن هذا الكتاب يحتضن أصوات نساء استثنائيات يقفن بنضالهن جنبا إلى جنب مع الأسيرات الفلسطينيات المحررات وبقية المعتقلات والسجينات السياسيات التونسيات، على مدى سنوات ما بعد الثورة. إنهن استثنائيات بامتياز، لعدة أسباب أولها أنهن رفضن قبول الأمر الواقع، بعبوديته وظلمه، وثانيها أنهن واصلن النضال وهن داخل المعتقل والسجن، إذ واجهن السجان والجلاد بصلابة أفشلت محاولاته للسيطرة عليهن وإخضاعهن لما يريد. أما الثالثة فهي متابعة النضال بأشكال جديدة بعد إخلاء سبيلهن، بالرغم من القيود الإدارية وحرمانهن من الحقوق المدنية، والتضييق عليهن حتى في كسب القوت.

المعطف الأحمر

توفقت زينب في وصف المواقف المختلفة والمتضاربة التي عاشتها كأم ومناضلة وزوجة ومدرسة فلسفة، ثم كمفصولة من العمل لسنوات من المدارس العمومية. وحتى لما قبل صاحب معهد خاص أن يشغلها، كان دخلُها لا يسد رمق أسرة مؤلفة من خمسة أفراد. ونقتبس من الكتاب هذه السطور عن ظروف استنطاقها في 1974 إذ كتبت “استمر استجوابي في سوسة أسبوعين على الأقل. كانت أساليب التحقيق أكثر إنسانية (من وزارة الداخلية). كان لدي سرير وبطانيتان خفيفتان من النوع الذي يُستخدم عادة في الثكنات. حصلت على هذا الامتياز بعدما قضيت ليلة نائمة على الأرض في مكتب بالطابق الأرضي على حصير كبير مخصص لمسح الأحذية الملوثة. استلقيت عليه وتغطيت بمعطفي الأحمر الجميل. كان معطفا طويلا اشتريته من باريس العام 1971 بمناسبة موسم التنزيلات. لم أتصور أن هذا المعطف سيغطيني يوما في مركز للشرطة في بلدي العزيز، الذي كنت أستعجل العودة إليه لتعليم الفلسفة”.

كان هذا هو الوضع الذي عاشته أيضا أستاذة الفلسفة العائدة من باريس آمال بن عبا، التي طرحت هي ورفيقاتها السؤال التالي “كيف يمكن تفسير هذا الصمت الطويل لمناضلات منظمة (آفاق) وأنا واحدة منهن عن القمع الوحشي الذي تعرضن له في السبعينيات من اعتقالات غير قانونية وتعذيب في محلات أمن الدولة ومثول أمام هيئات قضائية استثنائية أفضت إلى أحكام سجنية بالنسبة للبعض منا؟”. وتمضي سائلة في نصها الذي يحمل عنوان “تجربة حياة”: لماذا تطلب الأمر كل هذه السنوات قبل أن تلتقي أحاديثنا ويُرفع الستار، أخيرا، عن هذا الماضي المشترك؟”. وتجيب آمال على سؤالها بالإشارة إلى أن الجلاد لوث فعل الكتابة نفسه، إذ كان يُرغمهن على كتابة مسارهن النضالي تحت التهديد، من أجل الكشف عن هويات رفاقهن، وكلما وجدوا ذلك غير كاف، مزقوا الأوراق وطلبوا منهن معاودة الكتابة.

التداوي بالحكي

عائشة قلوز هي أنتيغون أخرى دُعيت إلى الورشة لتقص سرديتها عن أحداث “تراكمت فوقها طبقات من الصمت والنسيان” مثلما قالت، مضيفة أن “الكتمان في علم الطب داء ينخر النفس، ولا دواء منه إلا بالحكي لأن ما عشناه يبقى قطعة منا إلى الأبد، ولأننا تركنا فيه حفنة منا في جميع الحالات”. وتمضي عائشة متحدثة عن لقائها مع رفيقاتها فتكتب “يوم اللقاء استدعيتُ بكاء طالما راود جفوني، فإذا بضحكة تنسيني كل الدموع”. ومنحت الورشة فسحة لعائشة لم تكن تتوقع لذتها. “ما حكيت يوما لأحد عن تلك الذكريات، ولا شاركني أحد مخاوفي ورعبي وشوقي إلى تقاسم الأوجاع. تكلموا عني وما تكلمت عن أحد واحتفظ كلٌ بصندوقه الأسود”.

غير أن عائشة تكلمت فعلا هذه المرة، مُبتدئة بهذه الجملة “أنا السجينة السياسية رقم 362. هذا هو المُعرَف الذي تداولته الوثائق الإدارية. كان ذلك منذ 46 سنة أي منذ اعتقالي، واستعدت هذا اللقب عندما راجعت رسائل كانت ترد علي من رفاق بعضهم غاب عن نظري وبعضهم الآخر واراه تراب النسيان وبعضهم الثالث واراه تراب الأرض”.

إلى قصر الأميرات

كانت السجينة 362 واحدة من “بنات السياسة” مثلما يُلقبن في السجن، وهو اسم أسبغته عليهن الحارسات تمييزا لهن عن سجينات الحق العام، بحسب اليسارية ساسية الرويسي، التي سلكت نفس المسار بانتمائها إلى التنظيم نفسه، ومثولها أمام محكمة أمن الدولة، ومن ثم الزج بها في سجن النساء في ضاحية منوبة. ومن الطرائف التي تخبرنا بها ساسية أن هذا السجن ليس سوى قصر كان مخصصا لأميرات الأسرة الحسينية قبل إعلان النظام الجمهوري في 1957. لكن عندما دخلت إليه اليساريات، بعد نحو عقدين من الزمن، بات متداعيا وحمَاماته مُقرفة. ولم يطل مقام المناضلات اليساريات في هذا السجن، إذ تراوحت الأحكام الصادرة في حقهن بين ستة شهور سجنا نافذا وسنة مؤجلة التنفيذ.

بعدما أخفقت الحركة اليسارية في الارتباط بالطبقة العاملة التي كانت تتطلع للالتحام بها، منحتها الحركة النقابية فضاء فسيحا، خصوصا مع توتر العلاقات بين الحكم وقيادة النقابات العمالية في أواخر السبعينيات. ووجد المدرسون اليساريون المفصولون سندا قويا في نقابة التعليم الثانوي، التي دافعت عن إعادتهم إلى مراكز عملهم، لا بل نفذت اضرابا عاما للقطاع دعما لمطلبهم المشروع. وأثناء الصدام بين حكومة هادي نويرة واتحاد النقابات، مطلع 1978 كان اليساريون، ومنهم زينب بين المحاصرين في مقر الاتحاد لدى اقتحامه من قوات الأمن، فعرفت مجددا الاعتقال والاستنطاق داخل مقر الداخلية.

انتظرن قرابة أربعين سنة قبل أن تُبصر أعينهن أمواجا من البشر زاحفة نحو مبنى وزارة الداخلية في قلب العاصمة يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011 قبيل هروب بن علي من البلد. تصف ساسية كيف وجدت رفيقاتها ورفاقها السابقين، في الجادة الكبيرة، من دون اتفاق مسبق. كانوا يتعانقون ويقبلون بعضهم البعض، فبن علي سيرحل والثورة على قدم وساق. “ربما هي ليست الثورة التي حلمنا بها” تقول زينب، “لكن النظام الاستبدادي انهار”. منذ تلك اللحظة قررت زينب الانخراط في السياسة مجددا. ومع اقتراب ميقات الانتخابات العامة، وكانت أول انتخابات حرة وشفافة منذ الاستقلال، انتابها شعور بالخلاص ونهاية القمع وهي تتوجه إلى مركز الشرطة القريب، لكي تعرف أين المساحة المخصصة لوضع بياناتها الانتخابية على جدران مدينة منوبة. وعلقت قائلة “أزاحت تلك البادرة تاريخا من القهر مارسته أجهزة الدولة على المنادين بالتعددية السياسية”. لكن “حزب العمل” الذي انضمت إليه زينب لم يحصد أي مقعد في المجلس التأسيسي (الجمعية التأسيسية).

المحافظة على الذاكرة

انتهت غالبية المشاريع السياسية التي قادها اليسار الجديد بعد الثورة، إلى الفشل، فهو لم يعرف كيف يتكيف مع التغييرات الاجتماعية الكبرى التي عرفها البلد طيلة ربع قرن. وفي الأخير أسست زينب مع رفيقاتها ورفاقها القدامى جمعية ضمن مسار مواطني، للمحافظة على ذاكرة ذلك الجيل من المناضلين من أجل الحرية. وأزاحت الجمعية الغبار عن تاريخ اليسار ومساهماته في تطوير الحركتين الفكرية والثقافية، وخاصة عبر مجلته “آفاق” التي أعيدت طباعة أعدادها، بعدما كانت مطاردة ومصنفة في خانة الممنوعات.

سردت الناشطات مساراتهن بكامل الشفافية، فأكملن بذلك حلقة كانت مفقودة من الذاكرة الجماعية ومن تاريخ النخبة المتمردة على الدولة الوطنية في بواكير الاستقلال. كان حصاد الورشة شهادات ثمينة بإيقاعات مختلفة، عن حقبة أليمة لم تمنع غالبيتهن من استئناف الدراسة بعد السجن، ونيل شهادات الدكتورا، فيما تبوأ بعضهن مراكز مهمة في الدولة. والثابت أن المناضلات اللائي لم يطلبن يوما أي نوع من التعويض عن تضحياتهن، يدركن أن أشياء كثيرة تغيرت في النظرة المجتمعية إلى المرأة، وقدرتها على حمل مشروع اجتماعي كان حكرا على الرجال، “ففي دخول السجن اقتحام لمناطق يحكمها الرجال” مثلما تقول زينب فرحات، ناشرة الكتاب. ولعل في ذلك وجها من وجوه المساواة بين الجنسين.

ليبيا واجهة التمدد التركي في المتوسط

 

رشيد خشانة – عادت تركيا إلى الفضاء المتوسطي، بعدما أمضت سنوات تطرق أبواب الاتحاد الأوروبي، أملا بالحصول على عضوية كاملة. اعترضت دول وازنة في الاتحاد على ضم بلد إسلامي قوامه قرابة 100 مليون ساكن، بالرغم من أن أنقرة قبلت بسن قوانين واعتماد إصلاحات جديدة استجابة للشروط الأوروبية. ومنذ أغلق الأتراك في عهد “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي، قوس المفاوضات مع الأوروبيين، استداروا إلى محيطهم الاستراتيجي يبحثون عن بناء تحالفات جديدة. وبالإضافة إلى بلدان آسيا الوسطى، المرتبطة تاريخيا بالدولة العثمانية، مثل أذربيجان وأوزباكستان وتركمانستان، ركزت تركيا أيضا على محيطها المتوسطي، بدءا من سوريا وليبيا وتونس وصولا إلى الجزائر. وغدا هذا الفضاء يحظى بالأولوية في خطط “العدالة والتنمية” على إثر صعوده إلى سدة الحكم في العام 2002. ووصف مُنظر الحزب أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقا رئاسة الحكومة، هذه المنطقة الممتدة من آسيا الوسطى إلى شمال أفريقيا، بـ”العمق الاستراتيجي”. وهو يرى في المنطقة المتوسطية جسرا لتحويل تركيا إلى قوة إقليمية متوسطة الحجم.

وتبوأت ليبيا موقعا بالغ الأهمية في العقل الاستراتيجي التركي، لأسباب تاريخية أولا، فقد استنجد بها الليبيون لتحرير بلدهم من احتلال “فرسان مالطا” في 1551 ثم أصبحت ولاية عثمانية، إلى أن احتلها الإيطاليون في 1911 وكان من بين المشاركين في تلك الحرب الزعيم التركي مصطفى كمال، الذي صار أول رئيس للجمهورية التركية. أما الاعتبار الثاني فهو استراتيجي ويتعلق بموقع ليبيا بوصفها معبرا من سواحل المتوسط إلى الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل. والاعتبار الثالث اقتصاديٌ، إذ شكلت ليبيا منذ عهد معمر القذافي سوقا كبيرة للمنتوجات التركية، ومجالا فسيحا للمقاولات التي عهد لها الليبيون ببناء المطارات ومد الطرقات السريعة وإقامة الجسور والموانئ والمشاريع السكنية.

ومنحت ثورات الربيع العربي فرصة غير متوقعة للأتراك لإقامة علاقات مباشرة مع قوى سياسية واجتماعية مؤثرة في ليبيا، حتى أن كثيرا من وسائل الإعلام الليبية هاجرت إلى اسطنبول لتبث من هناك، وتحاول التأثير في الرأي العام الليبي، من دون تعريض عناصرها ومكاتبها لضربات الميليشيات أو انتقام السلطات في الشرق كما في الغرب.

تورغوت أوزال

وخلافا لما كتب بعض الخبراء الغربيين المتخصصين بالشؤون التركية، من أمثال الفرنسية دوروثي شميت، لم يُعد الأتراك “اكتشاف ليبيا” بعد الربيع العربي، وإنما انطلق هذا المسار منذ عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال (1989-1993). ويؤكد مؤرخون أن الدولة العثمانية انكفأت على نفسها وتراجعت مكانة المتوسط في أذهان قادتها، بعد سلسلة الهزائم العسكرية، التي جعلتها تفقد ولاياتها المطلة على هذا البحر، بدءا من اليونان (1821) وقبرص (1878) والجزائر (1930) وتونس (1881) ومصر (1882) وانتهاء بليبيا (1911). أكثر من ذلك أدت هزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، والتوقيع على “معاهدة سافر” (1920) إلى التخلي تماما عن سواحلها المتوسطية. وبفضل “حرب الاستقلال” التي قادها مصطفى كمال، استعادت مقاطعاتها المشرفة على هذا البحر، بموجب معاهدة لوزان (1923).

وتقول الخبيرة آمال برلار دال الأستاذة في جامعة مرمرة التركية، إن “القادة الأتراك يعتقدون راسخ الاعتقاد أن البحر المتوسط بحرُنا، فقد كان كذلك على مدى قرون وسيستمر مدى الدهر. إنه نافذتنا على العالم”. وتعزو دال هذا التصور إلى السببين التاليين: الأول هو إرادة امتلاك الفضاء الشرقي للمتوسط من جديد، باستدعاء التاريخ المعاصر (وهذا ما يُسميه داود أوغلو بـ”العمق التاريخي”) فيما يتمثل العنصر الثاني في النظرة الوظيفية لهذا البحر، بوصفه وسيلة للانتشار الاقتصادي والثقافي في المنطقة المتوسطية وما ورائها، بحكم موقع تركيا الجغرافي الفريد في مفترق القارات، وهو ما يصفه داود أوغلو بـ”العمق الجغرافي”. علما أن سواحل ليبيا المتوسطية تبلغ 4000 كلم، أي أكثر من ضعف السواحل الليبية. وفي هذا الإطار تضيف الخبيرة دوروثي دال أن البحر المتوسط، الذي كان في الماضي مرادفا للهزائم والاذلال والبلقنة، ارتدى اليوم معاني إيجابية في المخيال الجمعي التركي.

قوة متوسطة الحجم

في خط مُواز، تغيرت وظيفة تركيا، العضو البارز في الحلف الأطلسي، من ستار حديدي لاحتواء التمدد السوفييتي نحو المياه الدافئة، إلى قوة متوسطة ذات مصالح إقليمية مع شركاء محتملين في المنطقة. وهكذا عززت علاقاتها مع الدول المتوسطية اعتبارا من 2005 وخاصة بعد 2009 وهي السنة التي تسلم فيها داود أوغلو حقيبة الخارجية في حكومة “العدالة والتنمية”. وبرأيه يشكل المتوسط الفضاء الطبيعي لإعادة إدماج تركيا في الساحة الدولية، وتمكينها من لعب دور إقليمي متصاعد.

من هنا عاد اهتمام النخبة التركية بتطوير العلاقات مع هذه الدول، والذي جسدته الاتفاقات الموقعة مع كل من ليبيا وتونس والجزائر، والتي بوأت تركيا مكانة مميزة، في منافسة شديدة مع القوى الأوروبية التقليدية. وتعكس الهجمات المتواترة للرئيس الفرنسي ماكرون على تركيا وانتقاداته لدورها في شرق المتوسط، وجها من وجوه هذا الصراع على النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة.

وفي هذا السياق اتجهت أنظار صناع القرار الأتراك إلى ليبيا، التي ترافقت إعادة اكتشافها في المخيال التركي، مع معاودة تقدير المصالح المشتركة التي يمكن بناؤها بين الجانبين. ومع أن داود أوغلو استقال من رئاسة الحكومة، انتهج صُناع القرار بعده الطريق التي وضع معالمها، قبل استقالته، ومفادها أن على تركيا أن تتطور من دولة طرفية إلى دولة مركزية. وأفضى هذا النهج إلى تحقيق نقلة في العلاقات الثنائية مع كل من تونس وليبيا بشكل خاص. وشكلت مذكرة التفاهم الخاصة بالتعاون العسكري والأمني، التي تم التوصل إليها في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية، انعطافا جوهريا في الصراع الليبي الليبي، إذ كرست بداية تقهقر قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، التي حاصرت العاصمة طرابلس طيلة أكثر من عام، وكادت تقبض على أعضاء الحكومة والمجلس الرئاسي.

طائرات مسيرة

بقدر ما كان دخول المرتزقة التابعين لشركة “فاغنر” الأمنية الروسية، الحرب إلى جانب قوات حفتر، خطوة ذات تأثير حاسم في تغيير الموازين العسكرية، كان تدخل الطائرات التركية المسيرة، من طرازي “بيرقدار” و”أنكا” (العنقاء) هو الذي حقق التفوق على قوات الشرق، وأنهى الضغط على حكومة الوفاق، بسيطرتها الكاملة على الأجواء. وكانت أولى الانتصارات العسكرية للقوات الموالية لـ”الوفاق” سقوط قاعدة الوطية (140 كلم جنوب العاصمة) في الليلة الفاصلة بين 17 و18 أيار/مايو الماضي. وبعد مطاردة القوات المقابلة، توقفت قوات “الوفاق” عند شارف مدينة سرت، حيث ما زال الوضع يتسم بالتوتر بالرغم من سكوت المدافع استجابة لوساطة ألمانية. غير أن وقف إطلاق النار ما زال هشا، فيما ما زالت الاتصالات السياسية لم تعط ثمارها من أجل وضع محادثات السلام على السكة.

على خلفية هذه الانتصارات، وهي الأولى التي تحققها حكومة “الوفاق” تبلور المحور السياسي-العسكري أنقرة /الدوحة /طرابلس، الذي جسده الاجتماع الأخير لوزراء دفاع البلدان الثلاثة خلوصي أكار وخالد بن محمد العطية وصلاح النمروش، مرفوقين بقادة أركانهم. وحسب صحيفة “ترك برس” التركية، تطرق المسؤولون العسكريون في اجتماعاتهم إلى الأنشطة المُنفذة في إطار التعاون الأمني والعسكري. ويحظى هذا التجمع المناهض للتمدد الروسي في ليبيا، بعطف أمريكا، وهو ما قد يكون أبلغه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو خلال اجتماعه الأسبوع الماضي مع نظيره التركي مولود تشاووش أوغلو، في الدومينيكان، وكان الملف الليبي محوره الرئيسي. وأسفرت تلك المباحثات عن اتفاق على مواصلة التشاور في مستوى الخبراء بشأن ليبيا. في الوقت نفسه، أكد الروس والأتراك، المُزودون الرسميون للمتحاربين بأحدث الأسلحة والمقاتلين، أنهم سيثابرون على المشاورات السياسية، من أجل المحافظة على وقف إطلاق النار وبدء الحوار السياسي.

اتفاق أستانا ليبي؟

من المؤكد أن هذا الملف يحظى باهتمام الرئيسين التركي والروسي، إذ أن اجتماع الوزيرين لافروف وأوغلو أتى تنفيذا لاتفاقات تمت في مكالمة هاتفية سابقة، بين الرئيسين اردوغان وبوتين حول ليبيا وسوريا. لكن لم تظهر بعدُ مؤشرات تدل على توقفهما عن إرسال الأسلحة إلى الطرفين المتحاربين، ولا على الاتجاه نحو تفاهم شبيه باتفاق أستانا الخاص بالحرب في سوريا.

أما الموقف الغربي فيُراوح بين الدعم الأمريكي الخفر لحكومة “الوفاق” في أعقاب خيبة أملها من الجنرال حفتر، وموقف الحلف الأطلسي، الذي أعلن أمينه العام يانس ستولتنبرغ أن الحلف لا ينوي الاعتراض على دور تركيا في ليبيا، وهي دولة عضو في الحلف، كما أنه لا يستطيع وضع حفتر “في كفة واحدة مع الحكومة الليبية التي تعترف بها الأمم المتحدة” على ما قال.

وحسب تقرير صدر أخيرا عن البنتاغون، أرسلت تركيا 3500 مقاتل سوري إلى ليبيا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة لدعم قوات حكومة الوفاق، مشيرا إلى أن موسكو ترسل أيضا مقاتلين لم يُحدد التقرير أعدادهم، تابعين لشركة “فاغنر” من سوريا إلى ليبيا، لتعزيز قوات حفتر. والأرجح أن ما حصدته تركيا أهم بكثير مما استطاع الروس تحقيقه في ليبيا، وهو ما يؤكده الخبير في الشؤون الليبية جان دومنيك مرشي، الذي يعتقد أن التدخل التركي، في ليبيا أواخر السنة الماضية، لمنع سقوط حكومة “الوفاق” وكسر الطوق عن ضواحي طرابلس الجنوبية، أحدث تغييرا مفاجئا في الموازين العسكرية. وعزا التفوق الذي حققته قوات حكومة الوفاق على قوات الشرق، إلى أن الرئيس اردوغان وضع كل ثقله في الميزان اعتبارا من حزيران/يونيو الماضي، فأمد قوات “الوفاق” بالضباط والطائرات المسيرة والأسلحة المتطورة، ما أتاح له الاستئثار بأوراق الحرب والسلام في ليبيا.

أوراق الحرب والسلام

ويمكن القول إن القوى التقليدية في المتوسط، وخاصة منها فرنسا وإيطاليا، فقدت الأدوار التي كانت تقوم بها في ليبيا، بعد الاختراقين الروسي والتركي، إذ تغيرت علاقة القوة بين الغريمين الليبيين، حكومة الوفاق والجنرال المتقاعد حفتر، لكنها أعادت، في الوقت نفسه، تشكيل التحالفات في شرق المتوسط، بعد فرض الدور التركي كلاعب أساسي في مواجهة روسيا.

أكثر من ذلك، بدا الاتحاد الأوروبي اليوم لاعبا صغيرا مع تعاظم دور أنقرة، وهو ما تجلى في ضعف التضامن مع اليونان العضو في الاتحاد، في خصومته مع الأتراك. وفيما تتمسك ألمانيا بمسار برلين، وتسعى بشكل خاص إلى تفعيل الحوار العسكري المعروف بـ5+5 الذي يجمع ضباطا من الطرفين، لا وجود لاتفاق أوروبي على موقف موحد من الأزمة الليبية، سوى التوجس من صعود تركيا، الذي هو القاسم المشترك. وحسب الخبيرة كريستين شاتينو تتلخص أولويات الرئاسة الألمانية الحالية، بخمس ليس بينها الملف الليبي، أهمها خطة الانعاش الأوروبية بعد جائحة “كوفيد-19” والموازنة الاتحادية والمفاوضات مع بريطانيا لتفادي طلاق قاس. أما باقي الملفات فيُرجح إرجاؤها بالنظر لضغوط الأزمة الاقتصادية والصحية، وهذا ما يمنح تركيا هامشا أوسع للحركة في المستقبل.

ليبيا: عقبات تُعطل إجراء انتخابات في مارس

 

رشيد خشـانة –  حضّ مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة مجلس الأمن، على الإسراع بالالتفات إلى مطلب تنظيم الانتخابات. غير أن عقبات جمَة ما زالت تعرقل التقدم في هذا الاتجاه.

يسعى رئيس حكومة “الوفاق” فائز السراج إلى تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا بحلول آذار/مارس المقبل، بينما الأوضاع العسكرية والأمنية ما زالت بعيدة عن الأجواء التي يمكن أن تُجرى فيها انتخابات حرة ونزيهة شفافة. وفي مقدم الشروط لتحقيق ذلك الهدف، إغلاق قوس الحرب الأهلية، الذي يبدأ بإنهاء حالة الاستنفار المتبادل بين المعسكرين المتحاربين، في محيط مدينة سرت وقاعدة الجفرة. وفي هذا الإطار دفعت ألمانيا ونائبة رئيس البعثة الأممية للدعم في ليبيا ستيفانى وليامز، أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة، المعروفة بـ5+5 إلى مناقشة إقامة منطقة منزوعة السلاح، في كل من سرت والجفرة، وتثبيت وقف نهائي لإطلاق النار.

وأكدت المظاهرات التي اندلعت في طرابلس، لمناهضة الفساد والمطالبة بتأمين الخدمات العامة، وخاصة الكهرباء، ضرورة إطلاق المسار الانتخابي بشكل مستعجل. كما أن مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير طاهر السني، ركز كلمته، في الجلسة التي خصصها مجلس الأمن للوضع الليبي، الأربعاء الماضي، على ضرورة الإسراع بالإعداد لتنظيم الانتخابات. غير أن عقبات جمَة تعرقل التقدم في هذا الاتجاه، وفي مقدمها ضرورة الاتفاق على القاعدة الدستورية التي ستُجرى الانتخابات على أساسها. ويمكن حل هذا الاشكال بدعوة لجنة من الأكاديميين المتخصصين إلى مراجعة القانون الانتخابي، الذي أجريت على أساسه انتخابات المؤتمر الوطني عام 2012 ومجلس النواب 2014 من أجل وضع إطار قانوني من صنع ليبي خالص.

ويبدو أن خيار الانتخابات يستهوي أكثر من طرف سياسي في ليبيا هذه الأيام، فقد توجهت شخصيات من النظام السابق برسالة إلى الرأي العام نشرتها بوابة “الوسط” الليبية، وطالبوا فيها بتسريع الحل السلمي وإخراج القوات الأجنبية من ليبيا. واعتبروا أن الأزمة لم تعد مجرد صراع على السلطة والثروة بين أطراف ليبية “بل باتت ليبيا ساحة لصراعات بين أطراف خارجية” منبهين إلى أن بعض الدول، التي لم يُسموها “وجدت في الظروف التي تمر بها البلاد منذ العام 2011 فرصة لتسوية حساباتها الإقليمية والدولية، وتحقيق مصالحها”.

وفي السياق نفسه، يتحرك أنصار سيف الإسلام نجل الزعيم الراحل معمر القذافي لتسويقه انتخابيا بوصفه “رجل الوفاق” مع أن سجله حافل بالجرائم السياسية. وتعكس هذه الحملة رغبة أنصار النظام السابق بالانضمام إلى العملية السياسية، التي يُتوقع أن تنطلق بعد الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار. وكشف اعتقال جاسوسين روسيين في الزنتان، حيث يحظى سيف الإسلام باللجوء حاليا، عن وجود اتصالات بينه وبين روسيا، التي يُرجح أنها تدعم ترشيحه للرئاسة. وما زال أحد الجاسوسين، اللذين استظهرا بهوية باحثين، مسجونا في الزنتان. وسبب مراهنة الروس على نجل القذافي اعتقادهم أنهم تعرضوا لمقلب من الدول الغربية، التي أطاحت بحكم صديقهم معمر القذافي في 2011 ما أدى إلى خسارة صفقات كبرى لم تُستكمل، من يينها صفقات عسكرية ضخمة، بالإضافة لتعليق مشاريع كانت مجموعات روسية تتولى تنفيذها في ليبيا.

من هذه الزاوية تعتبر موسكو أن وقف إطلاق النار، المدعوم أمريكيا، والذي يقضي بنزع السلاح من محور سرت- الجفرة الإستراتيجي، خدعة غربية لإحباط نفوذ روسيا العسكري والاقتصادي والسياسي الدائم في الجارة الجنوبية لأوروبا، باعتبار أن نزع السلاح يعني في المقام الأول، سحب القوات الروسية المتمركزة في المنطقة. وكشف تقرير أعده خبراء أمميون في 24 نيسان/أبريل وقُدم إلى مجلس الأمن، عن وجود جنود خاصين في ليبيا يعملون لدى مجموعة “فاغنر” الروسية، لدعم الجنرال حفتر.

إعجاب أمريكي بالسراج

في المقابل تبدو أمريكا مُعجبة برئيس حكومة “الوفاق” إذ أعلنت “تقديرها للشراكة الوثيقة مع حكومة السراج” في تغريدة نشرتها السبت قبل الماضي، السفارة الأمريكية في طرابلس، على حسابها بموقع تويتر، تعليقا على بيان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. وكانت البعثةُ دعت في البيان إلى “عملية سياسية شاملة ومتكاملة”. وجاء في التغريدة أيضا أن الولايات المتحدة تدعم سيادة القانون وتحث رئيس الوزراء السراج “على التعاون لما فيه مصلحة توفير الحكم الرشيد للشعب الليبي”. وفي إشارة إلى المظاهرات التي اندلعت في طرابلس أواخر الشهر الماضي، قالت البعثة في بيانها، إن الأحداث الأخيرة التي تشهدها ليبيا “تؤكد الحاجة الملحة للعودة إلى عملية سياسية شاملة ومتكاملة، من شأنها تلبية تطلعات الشعب إلى حكومة تمثله بشكل ملائم”.

لكن السفير طاهر السني اعتبر أن نجاح العملية الانتخابية يتوقف على وجود نوايا صادقة لدى المجتمع الدولي، ودعم كامل من الأمم المتحدة، وتنسيق وثيق مع باقي المنظمات الإقليمية، مؤكدًا أن ذلك يمكن من إنهاء أزمة الشرعيات وتوحيد المؤسسات واستئناف العمل في المشاريع التنموية والسكنية المعطلة.

أمراء حرب بلاحرب

إلا أن العقبة الأكثر تعقيدا على طريق إجراء انتخابات عامة هي الأجسام العسكرية التي سيفقد أمراؤها سلطاتهم وموارد أموالهم غير النظيفة، حالما تنتهي الفوضى الراهنة وتنبثق من الانتخابات مؤسسات تحظى بالشرعية الكاملة. وتتمثل العقبة الأخرى في الصراعات الداخلية للمجلس الرئاسي وحكومة “الوفاق” إذ أن أعضاءهما ليسوا على قلب رجل واحد، ما يُعطل دور الهيئتين في تسهيل إجراء الانتخابات. وطفت على السطح بعض تلك الخلافات في الفترة الأخيرة، ومنها الانتقادات العلنية اللاذعة التي وجهها نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق لرئيس المجلس فائز السراج، وكذلك النقد الشديد الموجه أيضا من وزير الداخلية فتحي باشاغا إلى السراج متهما إياه بالفساد. أما العقبة الثالثة فتتمثل بضخامة أعداد المُهجرين والنازحين الذين سيُحرمون من الإدلاء بأصواتهم، لأنهم يوجدون حاليا خارج مواطنهم الأصلية. اللهمَ إلا إذا اهتدت المفوضية العليا للانتخابات، إلى حلول مبتكرة بالاعتماد على مشروع بطاقة الناخب الالكترونية. وتُقدر إحصاءات موثوقة أعداد هؤلاء المهجرين والنازحين بـ425 ألف شخص، أي ما يمثل حوالي 15 في المئة من الشعب الليبي.

بالمقابل يمكن اعتبار الحلقة الناقصة في مسار الإعداد للانتخابات متمثلة في عدم جاهزية “المفوضية الوطنية العليا للانتخابات” التي ما زالت تشتغل بشكل دائم، بالرغم من تعرُضها لعملية إرهابية استهدفت موظفيها ومقرها الرئيس. وتوقع رئيس المفوضية الدكتور عماد السايح، تحقيق مشاركة كبيرة في أي انتخابات مقبلة تشهدها البلاد، لكنه أبدى استغرابه من دعوة السراج إلى انتخابات في اذار/مارس المقبل، في ظل عدم تقديم الحد الأدنى من الميزانية للمفوضية.

مع ذلك لم يتوقف العمل، فقد ناقش مجلس المفوضية أخيرا، مشروع بطاقة الناخب الإلكترونية، خلال جلسة عمل أدارها رئيسها الدكتور السايح. وتعتبر البطاقة الجديدة وثيقة ذكية تضمن مشاركة الناخب وفق أعلى معايير النزاهة، وهو ما أكدته التجارب الدولية المتقدمة في هذا المجال. والظاهر أن ألمانيا، المكلفة بمتابعة تنفيذ مقررات مؤتمر برلين، بالتنسيق مع بعثة الأمم المتحدة للدعم، مهتمة بدور المفوضية العليا في أي مسار انتخابي محتمل. وتجلى ذلك الاهتمام من خلال الزيارة التي أداها السفير الألماني، أوليفر أوفتشا، الأسبوع الماضي، إلى مقر المفوضية، وكان مرفوقا بوفد من الخبراء الألمان. واعتبر السايح أن الزيارة علامة على “دعم المجتمع الدولي للمسار الديمقراطي في ليبيا، وحرصه على الاطلاع على مستوى جاهزية المفوضية، لتنفيذ أية عملية انتخابية تقرها أية تسوية سياسية مرتقبة”.

وتسعى المفوضية إلى الحصول على مزيد من الدعم في مجال الخبرات الدولية وتكنولوجيا الانتخابات. ويمكن اعتبار هذه المساعي تصب في خطة السراج، الراغب في إجراء الانتخابات في الربيع المقبل، فيما يسعى حفتر إلى إحباطها، بعدما سمى نفسه حاكما عاما على ليبيا، وهو يخشى من بروز أية سلطة شرعية تُفرزها صناديق الاقتراع، وتحظى بشرعية داخلية وخارجية، لأنها تقوض السلطة التي بسطها بالقوة على الشرق والجنوب الليبيين.

نهاية الفترة الانتقالية؟

الجدير بالإشارة هنا أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية كانت إحدى التوصيات التي نصت عليها مخرجات مؤتمر برلين في النقطة السادسة والعشرين، والتي صادق عليها رؤساء وفود الدول الست عشرة المشاركة في المؤتمر. وأكدت التوصيات على أن نهاية الفترة الانتقالية تكون من خلال “انتخابات برلمانية ورئاسية حرة، ونزيهة وشاملة، وذات مصداقية، تقوم بتنظيمها لجنة انتخابات وطنية عليا مستقلة وفعالة”.

ويعتقد مراقبون أن هناك جسما منتخبا يمكن أن يلعب دورا إيجابيا في الأعمال التمهيدية للانتخابات ثم في إجرائها، بحكم خبرته في هذا المجال، وهو سلك عمداء البلديات، وهم منتخبون انتخابا مباشرا، ولا يمكن لأحد أن يُشكك بصدقيتهم. غير أن البلديات تعاني منذ سنوات من اضطراب حبل الأمن وتأخير تحويل الموازنات إليها. وشكا عميد بلدية سبها عاصمة اقليم فزان (جنوب) الشاوش غربال في تصريحات أدلى بها إلى بوابة “الوسط” الليبية من أن البلدية لم تحصل على اعتمادات من الحكومة. وقال “منذ تسلمنا العمل، وكأي جسم منتخب من الشعب، لم نتسلم أية مخصصات أو ميزانية من المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق (غرب) أو الحكومة المؤقتة (شرق) ولا دينار ولا درهم تم صرفه لنا حتى الآن، وخاطبنا جميع الجهات والوزارات، بالطرق الرسمية، كما ناشدنا البرلمان ولجان الأزمة، ولكن حتى الآن لم يصلنا أي رد. نحن نعمل بمجهودات ذاتية”.

وفي ظل شح الامكانات المحلية يلجأ بعض السياسيين إلى مؤسسات خارجية للمساهمة في تهيئة الأجواء الأمنية الملائمة لإجراء الانتخابات. وفي هذا الإطار اجتمع السراج بوفد من مؤسسة “جونز” الأمريكية للاستشارات الأمنية والعسكرية، برئاسة الجنرال شك والد، يرافقه الجنرال توم والدهاوسر، وعدد من كبار مسؤولي المؤسسة. ولم يرشح شيء عن هذا الاجتماع، لكن الأرجح أن واشنطن ستشرف على نشر قوات شرطية مشتركة في الجفرة وسرت، بدعم أممي، لتأمين الحكومة الموحدة، التي يُفترض أن تحتضنها مدينة سرت. لكن لا أحد يستطيع أن يضمن شيئا من هذا القبيل في الوقت الراهن، لأن المسار ما زال في بداياته. وقد يكون هذا الدور الأمريكي، إذا ما تكرس في الواقع، أرضية لعودة أمريكا إلى ليبيا، بعد غياب استمر منذ 2012 تاريخ اغتيال سفيرها جون كريستوفر ستيفنز يوم 11 أيلول/سبتمبر في مكاتب القنصلية الأمريكية ببنغازي.

لكن لا يُعرف الموقف الأمريكي من الدور الذي تعتزم تركيا القيام به لمعاودة بناء الجيش الليبي “من الصفر” عبر اتفاق تم توقيعه مع حكومة “الوفاق” يقضي بتحويل الميليشيات إلى جيش نظامي. ويندرج في إطار هذا الاتفاق “إنشاء مرافق للتدريب والاستشارات وإرسال مستشارين وعناصر عسكرية (تركية) إلى ليبيا”. ويعتمد نجاح هذه الخطوة على مدى قدرة أنقرة على إيجاد شركاء أقوياء يدعمون هذه “الشراكة” خصوصا ألمانيا وأمريكا، القلقتان من الاهتمام الروسي المتزايد بليبيا. وما يُعزز موقف حكومة “الوفاق” في هذا الصدد، أن واشنطن وبرلين لم تتخذا موقفا علنيا من مبادرات أنقرة وتداخلاتها في ليبيا، على عكس الأمر في سوريا.

فرنسا تحصد ثمار أخطائها في ليبيا ومنطقة الساحل وشرق المتوسط

 

تغوص فرنسا يوما بعد آخر، في مستنقع الأزمات الممتد من منطقة الساحل والصحراء، إلى شرق المتوسط، والتي تشكل ليبيا حلقتها المركزية. وبعدما احترقت أوراق باريس في ليبيا مع احتراق ورقة حفتر، الذي راهن عليه قصر الإيليزي إلى اللحظة الأخيرة، أتى انقلاب العسكر في مالي، يوم 18 آب/أغسطس، الذي أطاح بصديق فرنسا الرئيس ابراهيم أبو بكر كايتا (75 عاما) ليُزعزع الأوضاع الأمنية الهشة في منطقة الساحل والصحراء، ويُظهر عجز قوات “عملية برخان” على ضبط الأمور. وتحتفظ فرنسا بقوات قوامها 5100 جندي في منطقة تزيد مساحتها عن ضعف مساحة فرنسا، ما جعلها في مواجهة دائمة مع الجماعات الارهابية، التي غادرت ليبيا نحو الجنوب، لكي تتحصن في الفضاء الصحراوي الشاسع. وكانت مالي أبصرت انقلابا عسكريا مماثلا في آذار/مارس 2012 قاده ضباط ضد نظام اعتبروه عاجزا عن احتواء انتفاضات عرقية هنا وهناك، وصدامات مع جماعات مسلحة سيطرت على شمال البلد.

ولما أرسل الرئيس السابق فرانسوا أولاند قواته إلى المنطقة، في يناير/كانون الثاني 2013 لاستعادة مدن الشمال من الجماعات المسلحة وشبكات المهربين، استطاعت أن تفعل ذلك، لكن مازال أكثر من 5000 جندي فرنسي منتشرين حتى اليوم في تلك المنطقة. ولاشك بأن خلفه ماكرون ندم على التعهد الذي قطعه في 2018 بالقضاء النهائي على الجماعات، إذ أن الحرب في مالي صارت أطول من حرب الجزائر (1954-1962).

ويقول الفرنسيون إنهم تعلموا من انقلاب 2012 ألا يخفضوا من الاستعدادات العسكرية أثناء فترات الاضطراب، لضرورة التحسب من استثمار الجماعات المسلحة انخرام الأوضاع الأمنية في العاصمة، من أجل الاستحواذ على مدن ومواقع جديدة في غفلة من الجميع. ويقول الخبير الفرنسي نيكولا باروت إن باريس تتابع الأوضاع في مالي بقلق شديد باعتباره إخفاقا استراتيجيا. وأقرَ باروت بوجود خلاف داخل القيادة الفرنسية، بين من يدعون إلى الاتعاظ من الإخفاقات السابقة وفتح قنوات حوار مباشرة مع حكومة الوفاق الليبية من جهة، والداعين إلى التمادي في سياسة التحيُز ضدها من جهة ثانية. واعتبر أن الخلاف يعكس مقدار التردد والشك المُحيطين بمركز القرار الفرنسي، سواء في الإيليزي أم في “المديرية العامة للاستخبارات الخارجية”. ويُشجع الاماراتيون الفريق الثاني، فيما يدعو الفريق الأول إلى التزام التوازن في علاقات فرنسا مع الغريمين الليبيين.

وفي إطار المراهنة على حفتر قدمت “المديرية العامة للاستخبارات الخارجية” المشورة إلى قوات الشرق الليبي، على مدى سنوات، عبر ذراعها العسكرية “سرفيس أكشن” بعنوان المساعدة في ملاحقة تنظيم “داعش”. وأدى إسقاط مروحية في بنغازي ومقتل ثلاثة من ضباط المخابرات الفرنسية الخارجية كانوا على متنها، إلى كشف النقاب عن حجم الدعم الفرنسي للجنرال المتقاعد حفتر، إذ تحدثت بعض المصادر عن وجود ما لا يقل عن مئة ضابط ومستشار فرنسي في المنطقة الشرقية. لكن هذه الأرقام تبقى عادة في كنف السرية.

الفرار الكبير

وإمعانا في التحيُز ضد حكومة الوفاق، تلقى عناصر من القوات الخاصة الفرنسية تعليمات بمرافقة قوات حفتر لدى زحفها نحو العاصمة طرابلس في 2019. وكشفت هزيمة تلك القوات في غريان، جنوب العاصمة، النقاب عن حجم الدعم الفرنسي، إذ هربت مجموعة من “المستشارين” عبر الحدود التونسية القريبة، فيما عُثر في القاعدة العسكرية على صواريخ فرنسية مضادة للدبابات من طراز “جافلان” في صناديقها.

إلى هذا الدعم العسكري الواضح، دأبت الدبلوماسية الفرنسية في الأمم المتحدة على تعطيل أي مشروع قرار يمكن أن يصدر عن مجلس الأمن، لدفع الأمور باتجاه تسوية سياسية في ليبيا. كما عرقلت باريس إصدار أي بيان يُدين حصار طرابلس ويطلب وقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني، فضلا عن التحقيق في الجرائم ضد الانسانية المرتكبة في ليبيا خلال السنوات الأخيرة. ولم تجد فرنسا صعوبة في تمرير هذه السياسة بما أن أربعة من الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن ينتهجون السياسة نفسها، عدا الصين.

ربما كانت أكثر الهزائم إيلاما لحفتر وداعميه الإقليميين (الإمارات ومصر والسعودية) والدوليين (روسيا وفرنسا) انسحابه من ضاحية طرابلس بلا أمل بالعودة إلى تلك المواقع، واضطراره إلى معاودة فتح الحقول والمرافئ النفطية. والأصعب من ذلك تغييبه تماما من المسار السياسي، الذي يُرجح أن يُستأنف قريبا بجهد ألماني. ويتوقع الرئيس السابق للمخابرات العسكرية التركية، العميد اسماعيل حقي بيكين، مع بعض التحفظ، أن مسار برلين سيُحقق تقدما في الفترة المقبلة، إذا ما تم تثبيت وقف إطلاق النار.

المهندس لودريان

في قلب السياسة الفرنسية في ليبيا ومنطقة الساحل عموما، توجد شخصية مفتاحية، هي وزير الخارجية الحالي إيف لودريان، الذي كان مهندس التدخل العسكري سنة 2012 على عهد الرئيس أولاند، لما كان وزيرا للدفاع. واستمر الملف بين يديه عندما اختاره ماكرون وزيرا للخارجية. وعلى الرغم من أن خارطة الطريق التي وضعها لودريان لحماية المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الفرنسية في ليبيا، قادت إلى الطريق الخطإ، لا تُبدي الحكومة الفرنسية أي استعداد لمراجعتها وإحداث توازن في علاقاتها مع الطرفين المتصارعين. ويعتقد الخبير الفرنسي المتخصص في العلاقات الدولية رومان غيبار أن باريس توقفت عن إرسال السلاح إلى حفتر (كانت تدفع ثمنه الإمارات) لكنها مازالت تحافظ على علاقات متينة مع حفتر “حتى وإن انزعج منها شركاؤها الأوروبيون الذين لم تعد صدورهم تتسع لمجاملة “أمير حرب” بحسب غيبار.

وتحافظ فرنسا أيضا على علاقات قوية مع أنظمة استبدادية في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، من بينها حليفها في تشاد ادريس ديبي إتنو، الذي سمى نفسه أخيرا “ماريشال تشاد”. ويرى محللون أن بلدا غنيا بالثروات الطبيعية والامكانات الزراعية مثل تشاد، يخضع منذ ثلاثة عقود إلى حكم الرئيس ديبي وأسرته ضد إرادة الشعب، وبمباركة عسكرية فرنسية. وعلى الرغم من اكتشاف ثروة نفطية في البلد منذ عشرين عاما، فإن أسرة ديبي تستحوذ على إيراداتها لتضعها في الملاذات الضريبية، على ما يقول خبراء فرنسيون. وأسفرت هذه السياسة عن انخرام الأمن في البلد وتعميق الإنقسامات العرقية والمناطقية، وضرب الحريات، فيما وضعت مؤشرات التنمية تشاد في أسفل سلم المؤشرات الاقتصادية والبشرية. وعندما تطالب قوى التغيير بإصلاح الأوضاع في البلد، يأتي جواب باريس وعواصم غربية أخرى أن ديبي يشكل “سورا على الصعيد الاقليمي أمام انتشار الجماعات الارهابية” وأن “لا أحد سواه قادر على احتواء الهجمات الجهادية واستيعاب الصراعات الحدودية”، على الرغم من المجازر الكثيرة التي أمر بها واحترافه إرسال ميليشيات مسلحة إلى بلدان الجوار.

نصائح أمريكية

مع أن مركز بحوث أمريكي نبه فرنسا إلى الكلفة السياسية الباهظة لدعم ديبي، استمرت باريس بمنحه دعما سخيا يوصف بكونه صكا على بياض. ورأى خبراء المركز الأمريكي أن وجود ميليشيات مسلحة ودعم مادي ومعنوي من فرنسا عززا من عنهجية ديبي وزادا من صلفه، وشجعاه على تكريس عبادة الفرد والتلاعب بالدستور للبقاء في الحكم. بمثل هذه الأنظمة الهزيلة تعتقد باريس أنها ستحافظ على مصالحها. وإذا كانت الحوكمة الرشيدة تتقدم فعلا في بعض البلدان الأفريقية، ومنها كينيا وغانا، فإن المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب أفريقيا مازالت متعثرة، فبعضها محكوم بأنظمة استبدادية مثل الكامرون وتشاد، وبعضها الآخر يتجه نحو تحويل الجمهوريات إلى ممالك أسوة بالغابون والتوغو وساحل العاج، بالرغم من مرور ستة عقود على استقلال بلدان غرب أفريقيا عن الامبراطورية الاستعمارية العجوز.

أكثر من ذلك، دخل منافسون جدد إلى الملعب الأفريقي، أبرزهم روسيا والصين وتركيا، بما يحكم على النفوذ الفرنسي بمزيد من التقهقر. هكذا يبدو مشهد فرنسا اليوم كالتالي: ساق غارقة في الرمال الليبية المتحركة، والساق الأخرى غائصة في غابة الصراعات الأفريقية المتشابكة. مع ذلك يستحث الرئيس ماكرون جيران تركيا للدخول في احتكاكات معها أملا بالانتقام لهزيمة حليفه حفتر، وإشعال حريق جديد يُنسي ما يحدث في ليبيا.

مع اليونان.. ضد تركيا

عدا ليبيا ومنطقة الساحل، حيث تلقت فرنسا ضربات مؤلمة هذا العام، جعلت بعض الفرنسيين يتساءلون “ماذا نفعل هناك؟” وبعضهم الآخر يدعو إلى عودة الجنود إلى بلدهم، انخرط الرئيس ماكرون في الصراع بين تركيا واليونان، وكان من كبار المشجعين على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، الذي صدق عليه البرلمان اليوناني الخميس. وأثار الاتفاق غضبا في أنقرة، التي اعتبرته ردا على الاتفاقية الليبية التركية الموقعة أواخر العام الماضي، وارتياحا في باريس. أكثر من ذلك قامت قوات من فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص بمناورات عسكرية مشتركة، استمرت ثلاثة أيام، فيما أجرت القوات التركية في الوقت نفسه، مناورات مشتركة مع قوات أمريكية، باعتبارهما عضوين في الحلف الأطلسي.

وأفادت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي أن باريس شاركت في المناورات بثلاث طائرات من طراز “رافال” وفرقاطة وحاملة الطائرات شارل ديغول. ودخلت قطع بحرية وطائرات فرنسية على خط الأزمة، في عملية اعتُبرت استفزازا لسفينة المسح الزلزالي التركية “الريِس عروج”، والقطع الحربية المرافقة لها. وإذ كان الملف الليبي “الغائب الحاضر” في تلك المناكفات، مثلما أشار إلى ذلك موقع “الوسط” الليبي، فإن فرنسا كانت النافخ في نار الخلافات، بدافع تحشيد الضغوط على تركيا والانتقام من هزيمة حليفها حفتر في ليبيا.

تدخل ترامب

بالرغم من أن الرئيس الأمريكي تدخل، قي مكالمتين منفصلتين مع الرئيسين التركي والفرنسي، لتهدئة الأجواء ووقف التصعيد من الجانبين، فإن باريس مضت في ممارسة الشحن وسكب الزيت على النار، بما قد يُفجر الوضع العسكري. بهذا المعنى نفهم التحفظ الألماني الذي وضع اليونان وتركيا في نفس الدرجة، وطلب منهما التعقل.

واللافت هنا أن هذه القضية كرست تباعد المواقف بين ألمانيا وفرنسا بشكل أدى إلى شرخ عميق في الاتحاد الأوروبي، إذ اعتُبر “خذلان” ألمانيا لكل من فرنسا واليونان، تكريسا لنهاية الثنائي الفرنسي الألماني، بعدما كانت برلين وباريس قاطرة الاتحاد. والظاهر أن الألمان غير مقتنعين بالحجج التي تعللت بها فرنسا لتبرير هذه الحمية الزائدة، إذ أن السواحل الفرنسية تُطل على الحوض الغربي للمتوسط، بينما الخلاف التركي اليوناني منحصر في الحوض الشرقي. وهكذا خرجت فرنسا حتى الآن خاسرة من تورطها في الخلاف اليوناني التركي، لينضاف هذا الاخفاق إلى انتكاسات الديبلوماسية الفرنسية في كل من ليبيا ومنطقة الساحل. ولاشك بأن استمرار هذه السياسة الانفرادية سيزيد من عزلة باريس ويُعمق شقة الخلاف مع شركائها في الاتحاد الأوروبي، ويُضعف موقفها التفاوضي في حال وُضعت الآزمة الليبية على سكة الحل السياسي.

واشنطن: نقدر الشراكة الوثيقة مع رئيس الوزراء الليبي

 

أعلنت الولايات المتحدة، السبت، تقديرها للشراكة الوثيقة مع حكومة رئيس الوزراء الليبي، فائز السراج، داعية إياها للتعاون لما فيه مصلحة شعب البلاد.

جاء ذلك في تغريدة نشرتها السفارة الأمريكية في طرابلس، على حسابها بموقع تويتر، تعليقا على بيان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الذي دعت فيه إلى “عملية سياسية شاملة ومتكاملة ” في ليبيا.

وقالت التغريدة: “إن الولايات المتحدة تدعم سيادة القانون وتقدر الشراكة الوثيقة مع رئيس الوزراء (فائز) السراج، وتحث على التعاون لما فيه مصلحة توفير الحكم الرشيد للشعب الليبي”.

وفي وقت سابق اليوم، دعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إلى عملية سياسية شاملة ومتكاملة من شأنها أن تلبي تطلعات الشعب الليبي.

وقالت البعثة في بيان، إن الأحداث الأخيرة التي تشهدها ليبيا “تؤكد الحاجة الملحة للعودة إلى عملية سياسية شاملة ومتكاملة، من شأنها تلبية تطلعات الشعب الليبي إلى حكومة تمثله بشكل ملائم”.

والإثنين، أعلن رئيس الحكومة الليبية فائز السراج، في خطاب متلفز بالتزامن مع تظاهرات في عدة مدن ليبية، عزمه إجراء تعديلات وزارية عاجلة “بعيدا عن الإرضاءات والمحاصصة”.

وخلال الأسبوع الماضي، شهدت العاصمة طرابلس وعدة مدن ليبية تظاهرات مناهضة للفساد ومطالبة بتوفير الخدمات العامة مثل الكهرباء وغيرها.

والخميس، أعلن الجيش الليبي، أن مليشيا الجنرال الانقلابي خليفة حفتر خرقت اتفاق وقف إطلاق النار في البلاد، واستهدفت قواته بأكثر من 12 صاروخا، من نوع “غراد”، في خطوة قد تنسف العمل على وصول إلى حل سياسي.

ومنذ سنوات، يعاني البلد الغني بالنفط صراعا مسلحا، فبدعم من دول عربية وغربية، تنازع مليشيا حفتر، الحكومة الليبية، المعترف بها دوليا، على الشرعية والسلطة.