الأحد 05 مايو 2024 26 شوّال 1445

كل مقالات Farouk

ليبيا: ما مدى قدرة أمراء الحرب على أن يصبحوا صُناعُ سلام؟


رشيد خشــانة – أكَّد المجتمعون في طرابلس على أن يكون الحوار ليبياً- ليبياً، وأن يُرفض التدخل الأجنبي، والالتزام بكل ما نتج عن الحوار بين القادة العسكريين والأمنيين مع اللجنة العسكرية المشتركة 5+5.

تحت عنوان «استراتيجيا الولايات المتحدة لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار» في البلدان التي تشهد صراعات، أحال الرئيس الأمريكي جو بايدن على الكونغرس، قانونا لاعتماده والبدء بتنفيذه، وهو يتضمن خططا جديدة لمنع الحروب وترسيخ الاستقرار، تشمل ستة بلدان بينها ليبيا. وتؤشر المبادرة، التي يمتد تنفيذها على عشر سنوات، إلى الاهتمام الأمريكي المتزايد بتغيير الأوضاع في ليبيا، نحو إنهاء الحرب الأهلية ووضع الأساس لحكومة وطنية منتخبة، قادرة على الحكم وتقديم الخدمات، والحفاظ على الأمن في جميع أنحاء البلد. وتشتمل الخطة على خمسة برامج تجريبية تهدف إلى دمج جميع جوانب المساعدة الخارجية في استراتيجيا واحدة متماسكة، ترمي إلى تحقيق الاستقرار في البلدان المُعرضة للخطر، قبل اندلاع الأزمات.
ولئن أتت المبادرة بعد أيام من زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي بربارا ليف إلى ليبيا، فالمؤكد أنها ليست وليدة تلك الزيارة، وإنما أتت المسؤولة الأمريكية إلى المنطقة لشرحها للقيادات الليبية وحشد الدعم لها. وسيعتمد تنفيذها على الجهود المحلية للحد من العنف في جنوب البلد، كأساس لجهد طويل الأمد، يرمي لدعم بناء نظام ديمقراطي ومستقبل مستقر. ويمكن القول إن الجنوب الليبي (إقليم فزان) خارجٌ عن سيطرة الحكومة منذ سنوات، واستثمرت جماعات مسلحة غياب الدولة هناك لتُحكم قبضتها على المنطقة وتُساوم الحكومة المركزية.
ويسعى القانون إلى تغيير أوضاع دول الصراعات، مُخصصا نحو 200 مليون دولار سنويًا، على مدى تنفيذ الاستراتيجيا، التي حُددت مدتها بعشر سنوات، في خمسة برامج. وترمي تلك البرامج التجريبية إلى دمج جميع جوانب المساعدة الخارجية في استراتيجيا واحدة متماسكة، بُغية تحقيق الاستقرار في البلدان المعرضة للخطر، قبل اندلاع أزمات فيها.

زيارات متتالية

يعمل الأمريكيون على مُسابقة روسيا، غريمتهم الأولى في ليبيا، بخطتهم العشرية. وبالتوازي مع الزيارات المتوالية لمسؤولين أمريكيين إلى ليبيا، وأبرزهم وليم بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية، يعتزم الروس تعزيز وجودهم في ليبيا، من خلال معاودة فتح السفارة الروسية في طرابلس، وتسمية المستعرب أيدار رشيدوفيتش، سفيرا جديدا فوق العادة، مع الإقامة في طرابلس، حيث تعتزم البعثة الدبلوماسية الروسية استئناف العمل بشكل كامل، بالإضافة إلى معاودة فتح القنصلية العامة في بنغازي. وكان القائم بالأعمال الروسي لدى ليبيا، يقيم في تونس حتى الآن.
وحقق الأمريكيون سبقا اقتصاديا على غرمائهم، بعد توصُل شركة زُلاف الليبية لإبرام أول عقودها مع ائتلاف شركة «هاني ويل – يو أو بي» الأمريكية، لإنشاء مصفاة لتكرير الغاز بالمنطقة الجنوبية بقيمة 600 مليون يورو.
وستتعهد المجموعة الأمريكية، بناء على بنود العقد، بإنجاز الأعمال الهندسية الأولية لوحدات التكرير، ومنح إجازات تقنية للوحدات المرخص لها. ويتألف المشروع من مرحلتين الأولى تم التوقيع على العقد بشأنها، أما الثانية فهي محور مفاوضات حاليا لتنفيذ أعمال التركيب والاختبارات النهائية للمصفاة. وسيتدعم تحصيل مثل هذه المشاريع الاستثمارية في المستقبل، بالدور السياسي الذي باتت تلعبه أمريكا على الساحة الليبية، سواء من خلال البعثة الأممية أو من خلال العلاقات الثنائية المباشرة، خصوصا بعد انطلاق تنفيذ «استراتيجيا منع الصراع وتعزيز الاستقرار».
ولإدراك التأثير الذي باتت تحظى به أمريكا في الصراع الليبي، يكفي التذكير بأن المسؤولين الأمريكيين، السياسيين والعسكريين، لم يكونوا يتجاسرون على زيارة ليبيا، على مدى سنوات، بعد مقتل السفير الأمريكي بيتر ستيفانس في قنصلية بلده ببنغازي العام 2012. وكانت الاجتماعات الخاصة بليبيا تتم في الجزائر أو تونس. وعندما أرادت الإدارة الأمريكية في العام 2011 الرد على تهديدات شبكة «القاعدة» في ليبيا، بشن حملات على أوكارها في المنطقة، لجأت إلى عقد الاجتماعات في الجزائر، بمشاركة كبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين الأمريكيين، المعنيين بالحرب على الإرهاب.
أما على الصعيد الاقتصادي، فالأرجح أن الأوضاع ستتحسن في العام الجاري، طبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، وهي تقديرات مُعتمدة على مشاورات قامت بها أخيرا «بعثة الصندوق للتشاور مع ليبيا» والتي توقعت نمو إنتاج الهيدروكربونات بحوالي 15 في المئة، بعد الرفع من حجم الإنتاج من 1 مليون برميل يوميا في العام الماضي إلى حوالي 1.2 مليون برميل في العام الجاري.
وفي خط مُواز للمشاورات مع بعثة صندوق النقد، ناقش الليبيون أخيرا مع نادر عبد اللطيف محمد، المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي، ملفات قطاع المياه والصرف الصحي وتنويع الاقتصاد الليبي وإيجاد بدائل أخرى، إلى جانب إيرادات النفط. ومن شأن الاستقرار النسبي الذي عرفته ليبيا منذ التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الأول/اكتوبر 2020 أن يُساعد على العمل من أجل معاودة إعمار المدن والمناطق المتضررة والانطلاق في إصلاح البنية الأساسية لقطاعي النفط والغاز، والتي تؤثر سلبا في حجم الإنتاج.
يتضافر هذا الاتجاه الاقتصادي مع تطورات مهمة على الصعيد السياسي أبرزها تواتر الحديث عن جلاء قوات «فاغنر» من القواعد الجوية الثلاث التي تسيطر عليها في ليبيا، وهي قاعدة الجفرة الاستراتيجية في وسط البلد، حيث تتمركز المقاتلات الروسية من طراز «ميغ 29» وقاعدة براك الشط الجوية وقاعدة تمانهنت، بالقرب من سبها، عاصمة اقليم فزان.

قرار الترحيل

ولئن أكدت مصادر إعلامية إيطالية أن مرتزقة «فاغنر» ما زالوا في ليبيا، فإن ذلك لا ينفي أن قرار ترحيلهم قد اتُخذ. وكان مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليم بيرنز ضغط على القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر ليسحب المرتزقة الروس من ليبيا. ثم عادت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي بربرا آي ليف لطرح الموضوع مجددا على حفتر. والأرجح أنها حصلت على موافقته على السحب، مع اشتراط المحافظة على التوازن، بما يعني ألا تتفوق القوات المدافعة عن طرابلس، عددا وعتادا، على القوات التي يقودها حفتر وأولاده. وسيكون من المهم جدا أن يبني الطرفان المتخاصمان على نتائج اجتماعات القادة العسكريين من الشرق والغرب، الأحد الماضي في طرابلس، برعاية المبعوث الأممي عبد الله باثيلي، في إطار لجنة 5+5 بعدما عقدوا اجتماعا أولا في تونس. والأهم أنهما توصلا إلى عدة نقاط توافق أدرجاها في بيان مشترك، وقررا عقد الاجتماع المقبل في بنغازي. وعندما يتحرك هؤلاء القادة العسكريون، فذلك مؤشر على أن القيادات السياسية، التي تملك سلطة القرار، موافقة على ذلك الخيار الصلحي. وبتعبير آخر فإن تزكية اللواء المتقاعد خليفة حفتر للبحث في توحيد المؤسسة العسكرية، دليلٌ على ضعفه قياسا على مواقفه المُتشددة السابقة. ومن أهم ما ورد في الاجتماع الأمني رفيع المستوى الاتفاق على مواصلة العمل على توحيد المؤسستين العسكريتين من خلال رئاستي الأركان، إلى جانب توحيد المؤسستين الأمنيتين.

تسع نقاط

أكثر من ذلك، أكَّد المجتمعون في طرابلس على تسع نقاط، أبرزها أن يكون الحوار ليبياً- ليبياً، وأن يُرفض التدخل الأجنبي، بالاضافة إلى الالتزام الكامل بكل ما نتج عن الحوار بين القادة العسكريين والأمنيين مع اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 في اجتماعيها الأول في تونس والثاني في طرابلس، مثلما أسلفنا.
وفي تحرُك مُكمل، على هذا المحور، باشر المبعوث الأممي باثيلي جولة هي الأولى من نوعها على دول الإقليم، للاتفاق معها على سحب قواتها من ليبيا، ففي سنوات الفوضى وانهيار مؤسسات الدولة، سيطرت جحافل من المرتزقة على المناطق الحدودية. وتشمل الجولة الحالية لباثيلي كلا من السودان وتشاد والنيجر. وما من شك بأن نجاح مهمة المبعوث الأممي، معطوفا على التقدم المرتقب في توحيد المؤسسة العسكرية، سيُمكنان من سحب القوات الأجنبية، واستعادة ليبيا سيادتها على أراضيها الشاسعة، تدريجيا، نظرا لشساعة الحدود. وسمع باثيلي من المسؤولين في الدول التي جال عليها، استعدادا لدعم الانسحاب المنسق لجميع المقاتلين الأجانب ومعاودة إدماجهم في القوات النظامية، على ما قال في تدوينة على حسابه على «تويتر».
وعلى صعيد مُتصل لوحظ أن خط موسكو بنغازي عاود الاشتغال بعدما توقف منذ فترة تبادل الزيارات بين المسؤولين الروس من جهة والقيادات العسكرية والمدنية في المنطقة الشرقية من جهة ثانية. وأفيد في بنغازي أن وفدا من مجلس النواب الليبي زار موسكو واجتمع مع نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، الذي يعتبر مهندس السياسة الروسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولا تخفى خلفيات المنافسة الأمريكية الروسية في هذا السباق، الذي يسعى كل طرف من ورائه إلى وضع قدم ثابتة في منطقة جنوب المتوسط. ولم يُكشف عن مضمون المحادثات التي أجراها الوفد الليبي برئاسة هادي الصغير، النائب الثاني لرئيس مجلس النواب. لكن الأرجح أنها تطرقت إلى ملف سحب عناصر «فاغنر» الروس من ليبيا، بالإضافة إلى المشاريع الاستثمارية التي يمكن للمجموعات الروسية أن تُنفذها في ليبيا، وخاصة في قطاعي الإنشاءات والبنية الأساسية. وسبق أن زار وفد من المقاولات الروسية طرابلس العام الماضي، وحصد عدة صفقات تخص أساسا مشاريع معاودة الإعمار والانشاءات.
وأتت زيارة الوفد البرلماني البرلماني إلى موسكو في مناخ اتهامات خطرة وجهها محققو الأمم المتحدة إلى موظفين وقادة كبار في الأجهزة الأمنية والأجسام المسلحة، باقتراف جرائم جماعية يمكن تصنيفها في خانة جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية. وبعض هؤلاء مشاركٌ في اجتماعات 5+5 من هنا تأتي الأسئلة التي تتردد كثيرا هذه الأيام، حول مدى قدرة أمراء الحرب على أن يصبحوا صُناعُ سلام؟

ليبيا: محاذير في طريق تنفيذ خطة باثيلي







رشيد خشـــــانة – زيارة السفراء والمبعوثين الخاصين إلى الدبيبة، في مقر مجلس الوزراء، وتأكيد دعمهم القوي لخطة باثيلي، رسالة واضحة إلى الدبيبة، الذي انتقد تلك الخطة، مفادها أنه لا بديل عنها حاليا.

أخفق وفدان من مفوضية المجتمع المدني بليبيا، في الوصول إلى اتفاق لإعادة تشكيل المفوضية وتوحيد جناحيها الغربي في طرابلس، والشرقي في بنغازي. واختتم مسؤولون من الجانبين اجتماعات استمرت يومين في تونس، بإشراف الأمم المتحدة، من دون الوصول إلى نتيجة تُعيد اللحمة إلى المفوضية. وهذا مثال عن الصعوبات التي تعترض تنفيذ خريطة الطريق، التي أعدها الموفد الأممي إلى ليبيا عبد الله باثيلي، للوصول إلى الانتخابات، والتي قدمها إلى مجلس الأمن في نيويورك يوم 27 شباط/فبراير الماضي. وعلى الرغم من أن الأطراف الدولية، وفي مقدمها أمريكا، حضت على سن قانون جديد خاص بالمجتمع المدني، أمر الدبيبة الأعضاء الحاليين بالاستمرار في مناصبهم، من دون إيضاح سقف لذاك الدور المؤقت. وكانت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، شددت خلال اجتماعاتها في طرابلس وبنغازي، على ضرورة الاعتماد السريع لقانون مجتمع مدني حديث، يُستوحى من أفضل الممارسات الدولية، ليحل محل القانون 19.
والواضحُ أن الدول الكبرى المؤثرة في الملف الليبي، مُتفقة على دعم خطة باثيلي، وذلك ما أكده البيان المشترك لسفراء ومبعوثي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، والذي نُشر عبر الحسابات الرسمية للسفارات الخمس على «تويتر». وقد طلب السفراء من الزعماء الليبيين «تقديم التنازلات اللازمة لإجراء الانتخابات، حتى يتسنّى للشعب الليبي تحقيق تطلعاته في اختيار قادته». ومن شأن موقف صريح كهذا أن يشكل ضغطا معنويا على كل من الدبيبة وحفتر وعقيلة صالح، الذين يعملون على إرجاء الانتخابات إلى تاريخ غير مُسمى، من أجل البقاء في مناصبهم.
وتعتبر زيارة السفراء والمبعوثين الخاصين إلى رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، في مقر مجلس الوزراء، وتأكيد «دعمهم القوي» لخطة باثيلي، رسالة واضحة إلى الدبيبة، الذي انتقد تلك الخطة، مفادها أنه لا بديل عنها حاليا.
ونُقل عن ممثلي الدول الخمس أنهم شددوا في كافة لقاءاتهم مع القادة الليبيين، على ضرورة تقديم التنازلات اللازمة للتحرك بسرعة نحو وضع مسار الانتخابات على السكة، «كي يتسنى للشعب الليبي تحقيق تطلعاته في اختيار قادته» على ما ورد في بيانهم. من هذه الزاوية سيكون من العسير على الزعماء الليبيين الدخول في عملية لي ذراع مع المبعوث الأممي، بينما هو يتمتع بثقة كاملة ودعم قوي لخطته من مجلس الأمن. لذلك كانت الرسالة التي نقلها أخيرا السفير الموفد الأمريكي الخاص إلى ليبيا نورلاند، عندما زار الدبيبة، مفادها أيضا أنه ينبغي تكريس الجهود المحلية والدولية، لإجراء الانتخابات خلال العام الجاري. ويدرك نورلاند أن الثلاثي حفتر وعقيلة والمشري يعارضون إجراء الانتخابات، ويسعون بوسائل مختلفة لإحباط الجهود الرامية لإجرائها. ولم يختلف الأمر في اللقاء الذي جمع الدبيبة مع سفراء القوى الكبرى الخمس المؤثرة في الملف الليبي.
وفي خط مُواز تنقل وفد أمريكي إلى بنغازي للاجتماع مع زعيمي المنطقة الشرقية حفتر وصالح. وترأست الوفد مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف، والمبعوث الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند. وهذا يدل على مزيد من الضغوط على الفرقاء الليبيين للالتزام بمقتضيات الإعداد الجاد للانتخابات. وهذا ما يُستشف من بيان الناطق باسم مجلس النواب، الذي قال إن محور اللقاء دار أساسا، حول «التأكيد على ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية». وسيكون أهم اختبار لمدى صدقية الالتزام بهذا المسار انتخابُ أعضاء اللجنة المشتركة لإعداد قوانين الانتخابات، فمثل هذه الخطوة ستساهم في التسريع أو التعطيل بحسب مواقف الفرقاء.
وطبقا لتقديرات باثيلي، سيكون بالإمكان وضع خريطة واضحة للانتخابات الليبية بحلول منتصف حزيران/يونيو المقبل، وإن كان الخلاف ما زال قائما في شأن شروط الترشح للانتخابات الرئاسية، علما أن رئيسي مجلسي النواب والدولة، سبق أن أعلنا عن الوصول إلى اتفاق بشأن الإعلان الدستوري، ولم يكن هناك اتفاق في الواقع، وإنما تندرج هذه الحيل في إطار محاولة كسب الوقت والتشبث بالكراسي.
وهذا ما جعل أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيوانغلند الأمريكية الدكتور علي عبد اللطيف احميدة يعتقد أن «النخب الليبية الحالية هي أسوأ ما أنجبت ليبيا من انتهازية» على ما قال في حوار مع صحيفة «ليبيا المستقبل» واصفا هذه النخب بـ«الأنانية وانعدام الضمير». وحذر الدكتور احميده من أن تصبح ليبيا منسية إذا ما استمر الوضع الراهن عقدا آخر من الزمن، ولم تختف «القيادات الفاسدة» وهو المآل الذي وصلت إليه الصومال.
ويُعتبر الكلام الذي قاله المبعوث الأممي باثيلي غير بعيد عن هذا الموقف، إذ حمل على مجلسي النواب والدولة، لأنهما كانا يستطيعان الانتهاء من إعداد القوانين، والتصديق عليها، قبل إحالتها على مفوضية الانتخابات، حسب قوله. ولم يتردد في توجيه نقد أشد إلى المجلسين، وخاصة مجلس النواب، مُذكرا بأن ولايته منتهية، وأن على أعضائه «تقديم أنفسهم للشعب مجددا لطلب تجديد الثقة بهم». ونقل رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري عن باثيلي أن الأخير لا يمانع من منح فرصة للعسكريين للترشُح للانتخابات الرئاسية، وهذا معناه أن اللواء خليفة حفتر وأولاده، لن يُغيروا موقفهم، ولن يُفسحوا المجال لبروز زعامة جديدة، تقوم بإعادة بناء مؤسسات الدولة هناك.
وترمي مبادرة باثيلي، التي أبلغها مباشرة إلى مخاطبيه الليبيين، إلى التمكين من إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال العام الجاري. وفي هذا الإطار يعتزم تشكيل لجنة توجيه رفيعة المستوى. وستعمل هذه الآلية المقترحة، على الجمع بين مختلف الأطراف الليبية المعنية بمن فيهم ممثلو الكيانات السياسية، وأبرز الشخصيات السياسية وزعماء القبائل، ومنظمات المجتمع المدني، والأطراف الأمنية الفاعلة، وممثلين عن النساء والشباب، بحسب ما أفاد المبعوث الأممي نفسه. وبالإضافة إلى تيسير اعتماد إطار قانوني وجدول زمني ملزم لإجراء الانتخابات في 2023 فإن اللجنة المقترحة سوف تكون منصة للدفع قدما، بالتوافق حول الأمور ذات الصلة، مثل تأمين الانتخابات، واعتماد ميثاق شرف لجميع المرشحين. غير أن كثيرا من الخبراء الإقليميين غير مرتاحين إلى اعتبار الانتخابات وحدها قارب النجاة، لإنهاء الصراع في ليبيا. ولم يُعرف فحوى الحوار الذي دار في هذا الشأن بين وفد رفيع المستوى من المسؤولين والبرلمانيين الليبيين، زار واشنطن الأسبوع الماضي، لحشد الدعم لعملية الانتخابات، ومسؤولين أمريكيين من جهة ثانية. وشككت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية في جدوى الانتخابات، مؤكدة أنها «أمر مُضللٌ، لأنها لن تُصلح عدم الاستقرار السياسي والفساد». لكن، رسميا، تبنى أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر مبادرة باثيلي، القائمة على إجراء الانتخابات، ولا شيء سوى الانتخابات.

محاذير… محاذير
لا يمكن التغافل عن بعض المحاذير لدى الحديث عن تنفيذ مبادرة باثيلي، فالاتجاه صوب تشكيل لجنة توجيه رفيعة المستوى تتألف من مُكونات مختلفة، قد يؤجج الصراعات ويُعرقل تنفيذ المبادرة، مثلما حدث للمؤتمر الجامع، الذي سعى المبعوث الأممي السابق غسان سلامة، إلى عقده في مدينة غدامس 2019 وأحبطه زحف قوات اللواء حفتر على العاصمة طرابلس في الرابع من نيسان/ابريل.
لذا من الواضح أن باثيلي ذهب بعيدا في تفاؤله بقرب إيجاد حل سياسي للأزمة، بناء على الخطة التي عرضها على مجلس الأمن. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو المتعلق بالنجاعة، فهل أن إحداث لجنة، في ضوء التجارب المُرة مع اللجان، التي تموت قبل أن تُبصر النور، سيكون هو الأسلوب السحري لفرض الحل السياسي؟ فهذه اللجنة، التي تشبه سفينة نوح، ستحمل في أحشائها التناقضات والصراعات، المعلوم منها والخفي، بين زعامات سياسية ووجهاء قبائل ونخب حداثية وتيارات أصولية، والتي ستتفجر لدى طرح القضايا الحساسة، مثل توزيع الثروات الطبيعية، والاختيار بين النظام الفدرالي والوحدوي.
والأرجح أن بعض مواقف باثيلي تركت مفعولا سلبيا لدى بعض الزعامات الليبية، وخاصة عندما نفى عن مجلسي النواب والدولة حق التصرف في المسار الانتخابي، إذ قال «لا يجب ترك الانتخابات بين أيدي مجلسي النواب والدولة فقط» مُنتقدا تباطؤهما في إعداد القاعدة الدستورية. أكثر من ذلك، ذكر باثيلي بأن الفترة التي انتُخب على أساسها أعضاء المجلسين انتهت، وأن عليهم تقديم أنفسهم للشعب من جديد، مُعتبرا هذه المسألة أخلاقية وسياسية في الآن نفسه. والظاهر أن باثيلي سيجد دعما أمريكيا في طريق تنفيذ خطته، وهو ما تؤكده تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، التي مفادها أن واشنطن تعمل بنشاط لاستئناف حضورها الدبلوماسي في ليبيا، من دون تحديد ميقات لمعاودة فتح السفارة الأمريكية في طرابلس.

ليبيا: أركان النظام السابق يُعززون مواقعهم

 

رشيد خشــانة – في مقابل لعبة كسب الوقت لتأجيل الانتخابات، إلى أبعد تاريخ ممكن، يتطلع الشارع إليها بقوة، مثلما يُبرهن على ذلك إقدام 2.8 مليون مواطن على التسجيل في اللوائح الانتخابية.

ما فتئ أركان النظام السابق في ليبيا يُعززون مواقعهم ويمسكون بأطراف اللعبة السياسية، ما جعلهم طرفا لا يمكن الالتفاف عليه، في أي حل سياسي للأزمة. ومنذ تشكيل «المجلس الوطني الانتقالي» (برلمان انتقالي غير منتخب) في 2011 استأثر رجال القذافي بأبرز الحقائب، بما فيها رئاسة المجلس، التي آلت إلى وزير العدل السابق مصطفى عبد الجليل، ورئاسة المكتب التنفيذي (حكومة مؤقتة) التي عُهد بها إلى وزير التخطيط في الحكومات السابقة الراحل محمود جبريل.
ولئن غيب الموت وزراء سابقين وشخصيات نافذة مثل أبوزيد دوردة رئيس المخابرات الخارجية رئيس الوزراء سابقا وأبو بكر يونس جابر وزير الدفاع والخويلدي الحميدي قائد ميليشيات النظام وشكري غانم وزير النفط الأسبق، ما زال آخرون يشاركون في اللعبة مباشرة أو مُداورة، من أمثال البغدادي المحمودي رئيس الوزراء الذي أطاحت به انتفاضة 2011 وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب الحالي، بالرغم من أنه لم يحصد سوى 600 صوت في الانتخابات النيابية.
ويتحدث ليبيون عن صفقات سياسية، بين الدبيبة وقيادات سابقة، بدعوى تحقيق المصالحة الوطنية، مع عبد الله السنوسي صهر القذافي ومدير جهاز مخابراته والساعدي القذافي وعبد الله منصور ومنصور ضو. وكانت صدرت على هؤلاء أحكام قضائية، بعضُها بالإعدام. ولم يُخف رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي وساطته لإطلاق عبدالله منصور، أحد القيادات الأمنية والإعلامية في النظام السابق، مُتعللا بسعي المجلس للمساهمة في مشروع المصالحة الوطنية، على ما قال.
أكثر من ذلك، يُعتبر رئيس الحكومة الراهنة عبد الحميد الدبيبة (64 سنة) وقريبه علي الدبيبة، أحد أركان نظام القذافي، الذي أطلق يديهما لإدارة محافظ الاستثمارات الليبية في الخارج. ويخشى الدبيبة من منافس قوي ممثل بسيف الإسلام، الابن الثاني لمعمر القذافي، والذي يحظى بدعم واسع من رؤساء القبائل الليبية. ومع أن سيف الإسلام لا يتحدث في وسائل الإعلام ويعيش متواريا عن الأنظار، لم يتوان عن تقديم ترشُحه للرئاسة، لدى فتح باب الترشُحات العام الماضي. وتم تسجيل الترشح في مدينة سبها (جنوب) حيث لا توجد مؤسسات الدولة، لأن تقديمها في العاصمة طرابلس كان سيجعله عُرضة للاعتقال أو الاختطاف، تنفيذا لأحكام قضائية محلية ودولية كانت قد صدرت في حقه، تصل إلى الإعدام.

الرجال الثلاثة ورابعهم

كما أن القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر يشكل منافسا قويا للرجال الثلاثة (سيف الإسلام وعبد الحميد الدبيبة وعقيلة صالح) بالنظر إلى سيطرته على الحقول وبعض الموانئ النفطية، فضلا عن بسط نفوذه العسكري والأمني على الشرق والجنوب. ولا أحد يستطيع تغيير هذه الخريطة في الوقت الراهن، بل الجميع مُستفيد من استمرار الأمر الواقع، ذلك أن مجلس النواب الذي انتُخب أعضاؤه في 2014 لعام واحد، مع إمكانية التمديد لعام ثان، متشبثٌ بالكراسي، رئيسا وأعضاء. وتصف الأكاديمية الليبية فيروز النعاس الجسمين، أي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، بأنهما «مغتصبان للسلطة ويسعيان إلى تدوير المناصب».
أما المجلس الرئاسي فلا حول له ولا قوة، لأنه منزوع الصلاحيات، وهو ما فتئ يردد على مسامع زواره أن «الانتخابات هي الحل على أن تكون القاعدة عادلة للجميع». وفي مقابل لعبة كسب الوقت لتأجيل الانتخابات، إلى أبعد تاريخ ممكن، يتطلع الشارع إليها بقوة، مثلما يُبرهن على ذلك إقدام 2.8 مليون مواطن على التسجيل في اللوائح الانتخابية، وهي ظاهرة لا نلمحها في دول الجوار، حيث تتدنى نسبة المسجلين، وتتضاءل الثقة بالمترشحين.
وتُعزى نسبة العزوف اللافتة في تونس على سبيل المثال (قرابة 90 في المئة) إلى إخفاق ثماني حكومات، في ثماني سنوات، في حل بعض المعضلات الاجتماعية والاقتصادية.
وللمرة الأولى يندلع صراع علني بين البعثة الأممية وركن من أركان الدولة الليبية، مُمثلا بمجلس النواب، تعليقا على إحاطة عبد الله باثيلي رئيس البعثة الأممية أمام مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي. وتحاشى رئيس مجلس النواب عقيلة صالح الرد مباشرة على إحاطة عبد الله باثيلي، غير أن ردهُ جاء باسم «رئاسة مجلس النواب» وأتى غاضبا ومتشنجا. وعلى الرغم من أن بيان عقيلة اعتبر أن الاحاطة «تضمنت مغالطات وتناقضات في شأن فشل مجلسي النواب والدولة في إقرار القاعدة الدستورية» من دون ذكر المغالطات والتناقضات.

سفينة نوح

أما باثيلي فكشف لأعضاء مجلس الأمن خطته، التي تعتمد على ثلاثة محاور، الأول يتمثل بتشكيل لجنة توجيهية رفيعة المستوى، تجمع ممثلي الأجسام السياسية وأهم الشخصيات المستقلة والقادة القبليين ومنظمات المجتمع المدني والأجهزة الأمنية والنساء والشباب. وأشار باثيلي إلى أن هذه اللجنة هي التي «ستتولى تيسير اعتماد الإطار القانوني وخريطة الطريق المحددة وفق جدول زمني، لإجراء الانتخابات قبل نهاية العام الحالي». وستوفّر اللجنة منصة لتعزيز توافق الآراء على المسائل ذات الصلة، مثل أمن الانتخابات واعتماد مدونة سلوك يتقيد بها كافة المترشحين.

تعديل مُثير للجدل

ويتعلق المحور الثاني من خريطة باثيلي بالتعديل الدستوري الثالث عشر، إذ أقر بأن هذا التعديل «يثير الجدل في أوساط السياسيين والمواطنين، ولا يعالج بعض المسائل الأساسية مثل معايير الترشح للرئاسة. كما لا ينص على خريطة طريق واضحة وجداول زمنية لإجراء الانتخابات في 2023». أما المحور الثالث، الذي لا يقلُ أهمية عن السابقين، فيتعلق باللجنة العسكرية المشتركة، التي ستتولى إطلاق حوار مع ممثلي المجموعات المسلحة، بغية مناقشة كيفية ضمان البيئة المناسبة لإجراء الانتخابات.
ويُشبه المحور الأول من الخطة المؤتمر الجامع الذي كان يُجهز له الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة، في مدينة غدامس (شمال غرب) في نيسان/أبريل 2019 بمشاركة ألف شخصية. وقد أفشله حفتر بهجومه على طرابلس العاصمة، في الرابع من ذلك الشهر. وإذا كان باثيلي يعتزم الانطلاق من النقطة التي توقف عندها سلفُهُ، فلأنه يُدرك أن الأجواء الدولية والإقليمية الراهنة أسقطت البدائل العسكرية، وهي لا يمكن أن تعطيه ضوءا أخضر لعملية عسكرية جديدة.
وتجاسر الموفد الأممي على طرح مسألة حساسة تتعلق بإدارة موارد الدولة، التي قال عنها «إنها ما زالت مصدر قلق كبير لكل الليبيين» مؤكدا «أهمية إنشاء آلية بقيادة ليبية، تجمع أصحاب المصلحة من مختلف أرجاء ليبيا للاتفاق على أولوية الإنفاق، وضمان إدارة الإيرادات بشكل شفاف ومتساو». وهذه مسألة تفتح على ظاهرة الفساد وغياب الشفافية في الانفاق، اللذين ترعرعا في ظل ثماني حكومات، تداولت على السلطة منذ 2011، ما جعل بعض الفئات من الليبيين، تتمنى عودة النظام السابق.
وتحوم حول رئيس الحكومة المؤقتة الدبيبة وأعضاء في حكومته شبهات فساد وتضارب مصالح وتحقيق منافع شخصية وتوظيف المال العمومي لخدمة مآرب سياسية ضيقة، لا علاقة لها بالصالح العام. وتجاهل الدبيبة، المسنود من عديد التشكيلات الأمنية والعسكرية شبه الميليشياوية، التي يقودها نافذون في الجزء الغربي من البلد.

عودة إلى «لوكربي»
وكثر الحديث عن اعتماد الدبيبة على أجهزة أمنية خاصة بعد اعتقال جهاز تابع له «أبو عجيلة» محمد مسعود خير المريمي، أحد ضباط المخابرات السابقين في عهد القذافي، وتسليمه لأمريكيين نقلوه إلى واشنطن، حيث مثل أمام محكمة اتحادية، وما زال يواجه تهمتين جنائيتين تتعلقان بحادثة «لوكربي» (1988).
وفي خطوة تبدو تشويشا على خطة المبعوث الأممي، دعا عقيلة صالح إلى تشكيل لجنة مؤلفة من 45 عضوا موزعين بين 15 من مجلس النواب و15 من المجلس الأعلى للدولة و15 من المستقلين وذوي الخبرة، وهم يختارون بدورهم «سلطة تنفيذية موحدة»، أي حكومة جديدة، تحت إشراف دولي. وكأنما ليبيا بحاجة اليوم إلى حكومة ثالثة تتنازع مع حكومتي الدبيبة وباشاغا على الشرعية، ويتمتع أصحابها برواتب وامتيازات تُرهق المالية العمومية، المُصابة أصلا بالعجز. أكثر من ذلك، كشف آخر تقرير لخبراء مجلس الأمن الدولي صدر الشهر الماضي، أن مجموعات المرتزقة الدارفوريين في ليبيا كانت تتلقى دعما شهريا يصل إلى 1.2 مليون دولار. وكانت تلك المجموعات المسلحة انخرطت في أعمال هجومية، إلى جانب الجيش الذي يقوده حفتر، والمدعوم من الإمارات فكافأها على جهودها.
وتحدثت تقارير فرنسية سابقة عن إحصاء أكثر من 15 ألف مرتزق سوداني يعملون في اليمن وليبيا، مؤكدة أن كلا من الإمارات وشركة «بلاك شيلد سيكيوريتي» متهمتان بخرق حظر الأسلحة، الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا بإرسال أسلحة ومرتزقة سودانيين. هكذا يبدو السلاح مصدرا دائما لتهديد الاستقرار والإبقاء على البلد مُقسما بين منطقة شرقية في قبضة خليفة حفتر، ومنطقة غربية تُديرها حكومات متوالية تستمد شرعيتها من الأمم المتحدة.
مع ذلك، فإن كثيرين داخل ليبيا وخارجها، موقنُون أن الليبيين سيبقون موحدين، وهو ما أكدته المستشرقة الإيطالية كلاوديا غازيني، من «مجموعة الأزمات الدولية» في أعقاب جولة طويلة على أقاليم ليبيا، قائلة «إذا كانت هناك من حقيقة أكدتها لي رحلتي، فهي المفارقة المتمثلة بأن جميع الليبيين الذين التقيتهم يعتبرون أنفسهم مُنتمين إلى بلد واحد، على الرغم من الانقسامات السياسية والقبلية». ويعتقد سياسيون ليبيون أن إطلاق مسار خاص للعدالة الانتقالية، يشمل إنصاف الضحايا ورد الاعتبار للمدافعين عن حقوق الانسان، أسوة بالمسار الذي اتُبع في أفريقيا الجنوبية، سيُعزز اللحمة بين مكونات المجتمع الليبي، ويُزيل كثيرا من الأحقاد، التي كانت وقودا للصراعات التي هزت البلد، على مدى أكثر من عشر سنوات.
من هنا نفهم التقرير الاستخباراتي الإيطالي الأخير الذي اعتبر أن الأطراف المحلية الفاعلة في ليبيا فقدت القدرة التامة على اتخاذ القرارات جراء الضغوط الخارجية التي تتعرض لها. وتحدث التقرير عن فشل الأطراف الليبية في اتخاذ خطوات مهمة لإعادة تشكيل السيناريو السياسي، مع انعدام إطار دستوري ينظم مسارا انتخابيا جديدا وموثوقا به، وهو ما يعني أن الأزمة مازالت مستمرة.

الاعتقالات ردُ سعيد على تقارب المعارضات والحل في حكومة كفاءات

 

رشيد خشــانة – تبدو العلاقات بين الرئيس التونسي قيس سعيد ومكونات الجسم السياسي والنقابي والإعلامي والحقوقي، مرشحة للمزيد من التدهور والتعفن. وشكلت حملات الاعتقال الموسعة في الأسابيع الأخيرة، انعطافا حادا، هو الأخطر منذ أن استولى سعيد على كافة السلطات في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021. ومن غير المستبعد أن تثمر الوساطات تراجعا عن المحاكمات التي يتم التخطيط لها، في حق زعماء سياسيين وشخصيات عامة، أسوة بالأمين العام لحزب «آفاق تونس» فاضل عبد الكافي والقيادي في حزب «التكتل الديمقراطي» خيام التركي، والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي ورجل الأعمال كمال اللطيف ونائب رئيس حركة «النهضة» رئيس الوزراء الأسبق علي العريض والقيادي السابق في الحركة عبد الحميد الجلاصي، والمحامي نور الدين البحيري، إضافة إلى مدير إذاعة «موزاييك» الصحافي نور الدين بوطار والقياديين في «جبهة الخلاص» المعارضة شيماء عيسى وجوهر بن مبارك.

رؤية للخروج من الأزمة

وسيكون إصدار أحكام على هؤلاء وجرُهم إلى السجن مثارا لحملات تضامن واسعة، في الداخل والخارج، من علاماتها المُبكرة أن «الاتحاد العام التونسي للشغل» (اتحاد النقابات العمالية) الذي كان يتفادى الاقتراب من الأحزاب السياسية، عبر بلغة واضحة تماما، عن مؤازرته لضحايا الحملة الأمنية المستمرة، ورفضه اتهام معارضي سعيد بالتخطيط لانقلاب أو بالتخابر مع الخارج. وكان منطلق تلك الاتهامات اجتماعان علنيان عقدهما قياديون في الأحزاب الاجتماعية الخمسة، في مقر أحدهم (الحزب الجمهوري) للاتفاق على رؤية للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية السائدة. وكان الخبير خيام التركي هو من قدم مشروع رؤية للخروج من الأزمة الراهنة. ودُعيت لحضور اللقاءين 25 شخصية من تيارات مختلفة، وهو ما قد تكون السلطات اعتبرته «تآمرا على أمن الدولة الداخلي والخارجي». وتُرجح مصادر أمنية أن يتم اعتقال جميع المشاركين في الاجتماعين، إضافة لمن حضروا مأدبة غداء في بيت التركي.
والأرجح أيضا أن هذه العملية الاستباقية لا يمكن أن تستمر طويلا، لأن الملفات التي يمكن أن تُدين هؤلاء المعتقلين خاوية تماما، حسب لسان الدفاع. وخارج المشهد الحزبي تحركت منظمات المجتمع المدني لانتقاد الانعطاف القمعي للحكم، وخاصة «زيارات الفجر» التي جرت الاعتقالات في إطارها، وكذلك عمليات تفتيش البيوت وتخويف أفراد الأسر ومصادرة أجهزة الهاتف المحمولة والكمبيوترات. وفي مقدم مكونات المجتمع المدني التي قد تُصعد مواجهتها للحكم، نقابة الصحافيين التي أكد رئيسها محمد ياسين الجلاصي، أنها ماضية في الدفاع عن حرية التعبير وإدانة الرقابة الشديدة على وسائل الإعلام. والأسبوع الماضي تجمع عشرات الصحافيين أمام مقر الحكومة في العاصمة تونس وكذلك أمام مقرات المحافظات في المدن الداخلية، تلبية لدعوة من النقابة. ويُطالب الصحافيون بحماية حرية التعبير وإنقاذ مؤسسات إعلامية مهددة بالإقفال، وخاصة إذاعة «شمس أف أم» المُصادرة بعد ثورة 2011.
ويُرجح أن تُعبر المنظمات الحقوقية والمهنية الدولية، عن انتقادات شديدة لحملة الاعتقالات في تونس، ومنها الاتحاد الدولي للصحافيين الذي أعلن أنه يدرس تقديم شكوى بالسلطات التونسية إلى «مكتب العمل الدولي» بجنيف، في أعقاب إطلاق متابعات قضائية في حق نقيب الصحافيين.

على قلب رجل واحد؟

على هذه الخلفية ستكون الأحزاب المُعارضة والمنظمات النقابية والحقوقية على قلب رجل واحد، للمرة الأولى، منذ فترة حكم الرئيس الراحل حبيب بورقيبة (1957-1987). وبالمقابل ستتعمق عزلة النظام بعدما نجح في تكتيل الأطراف السياسية والاجتماعية ضده، خصوصا إثر رفضه الشديد إطلاق مشروع لحوار وطني جامع، مُعتبرا أن ما أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة هو الإطار الملائم للحوار. ولم يشارك في الإقتراع خلال تلك الانتخابات، سوى حوالي 10 في المئة فقط من المسجلين، ما جعل الأطراف الداخلية والخارجية تعتبرها غير ذات معنى رافضة نتائجها، ومؤكدة أن الحوار لن يكون برعاية رئيس الجمهورية ولا بمشاركته. بهذا المعنى قد تكون الاعتقالات الأخيرة تندرج في إطار هذا الصراع لقطع الطريق أمام بلورة خطة سياسية واقتصادية جامعة لمرحلة ما بعد قيس سعيد. ويرى أصحاب الخطة، التي لم تكتمل بسبب الاعتقالات، أن من الضروري وضع برنامج إصلاحات شامل وجامع، يقوم على استيعاب الدولة لجميع الظواهر المتمردة حاليا بسبب الاستبداد، تمهيدا للعودة إلى المسار الديمقراطي. ومن هذا المنظور فإن الأمر يتعلق بمرحلة ما بعد قيس سعيد، أي بحالة تعود فيها الحرية وتنطلق مُحركات الاقتصاد، بناء على الثقة المُستعادة، وفي ظل العودة إلى الاستقرار. ويرى المعارضون أن هذه النقلة لا تتحقق إلا بتشكيل حكومة تكنوقراط غير سياسية لمساعدة الاقتصاد على التعافي والحد من الضغوط الاجتماعية والمالية. وفي خصوص تيار الإسلام السياسي، الذي تمثله «حركة النهضة» والمنسحبون منها، فهناك اتفاق على أن تبقى خارج الحكم، وهذا في صالحها، لأنه يُتيح لها إجراء مراجعات وإدخال إصلاحات تنظيمية عميقة على هياكلها، تطالب بها قواعدها منذ سنوات.

ثلاثة أقطاب

من هنا تبلورت حاليا ثلاثة أقطاب يبدو أنها ستبقى مهيمنة على المشهد إلى فترة، ويصعب أن تتلاقى، اللهم في الميدان ضد سعيد، في مناسبات مثل الاحتفال السنوي بعيد الاستقلال الشهر المقبل. وهذه القوى الرئيسية هي «جبهة الخلاص» التي تدعمها «النهضة» والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية المعروفة بـ«الخماسي» والحزب الذي أسسه الرئيس الراحل زين العابدين بن علي بقيادة المحامية عبير موسي، وهو مرشح للضمور جراء نهجه الاستئصالي، خاصة أن هذا الخيار فشل في تسعينات القرن الماضي، في تونس والجزائر والمغرب. أما قيس سعيد فليس له حزب، ولا فرصٌ للتدارك، لكونه أقصى نفسه من أي مبادرة استيعابية وتجميعية. أكثر من ذلك، أكد أنه يخوض «حرب تحرير وطني» مُتخذا من مواطنيه صنوا لجحافل الاستعمار ومتوعدا بـ«تطهير البلد منهم».
تتضافر هذه المعركة السياسية مع أزمة اقتصادية ومالية، اعتبرها خبراء الاقتصاد من أخطر الأزمات التي عرفتها تونس في السنوات الأخيرة، إن لم تكن أخطرها. وبالرغم من تطمينات الحكومة، فإن أزمة السكر والحليب والقهوة والزبدة وغيرها من المواد الأساسية، المفقودة حاليا، ستتوافر في شهر رمضان، لكن جزئيا بسبب النضوب التدريجي للمدخرات من العملة الصعبة، اللازمة لشراء تلك المواد نقدا. وهذا أحد الأسباب التي قد تهدد الاستقرار والأمن الاجتماعيين في المستقبل. وسيمنح الوضعُ الاقتصاديُ المتعفن وتراجعُ المقدُرة الشرائية للمواطنين النقابات، مزيدا من المُبررات لشن الاضرابات، وسط تزايد مذهل لنسب الفقر بحسب إحصاءات موثوق بها.
على هذا الأساس توقعت وكالة التصنيف الأمريكية «ستاندارد أند بورز» سيناريوا متشائما إذا لم تتوصل الحكومة التونسية إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإذا لم تستطع توفير تمويلات خارجية من مصادر أخرى. وحذرت من أن يؤدي ذلك بالبلاد إلى وضعية «العاجز عن الدفع». وهذا التصنيف مُشابه لتصنيفات أخرى قامت بها وكالات تصنيف مُماثلة من بينها «فيتش ريتينغ». وكان الرئيس سعيد سخر علنا من وكالات التصنيف وتهكم على دورها، ما جعل المكتب التنفيذي للصندوق يُرجئُ دراسة منح تونس قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار إلى دورة اجتماعاته المقبلة. وبقاء مصير القرض عالقا يُربك الدورة الاقتصادية ويدفع الغاضبين من تدهور أوضاعهم الاجتماعية إلى شن حركات احتجاج في جميع المحافظات تقريبا. وحسب خبراء اقتصاديين لم يتمكن أصدقاء تونس من التأثير في قرار صندوق النقد الدولي لصالح تونس، لأنهم فوجئوا بوجود خطابين الأول عبرت عنه رئيسة الحكومة التي قالت إنها قدمت للصندوق خطة إصلاحات اقتصادية، بينما قلل سعيد، في خطابات شعبوية من دور صندوق النقد الدولي وصدقيته، ضاربا على وتر «الوطنية». ومن مظاهر الصعوبات التي تضغط على الإقتصاد أن الاستثمارات الصناعية تراجعت في السنتين الأخيرتين بنسبة 30 في المئة.

علاقات متوترة

ويمكن وضع العلاقات المتوترة مع الحليفين الرئيسيين لتونس، فرنسا وأمريكا، في إطار هذه السياسة المتمثلة في التهوين من ضرورة الاصلاح الاقتصادي. ولم تعد أمريكا تُخفي انتقاداتها للنهج السياسي الذي يسير عليه سعيد، وهي انتقادات أتت من مسؤولين رفيعي المستوى، من بينهم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن. كما خفض البنتاغون من حجم المساعدة العسكرية السنوية لتونس إلى النصف. ويسعى الأمريكيون إلى المساهمة في تحقيق الاستقرار في تونس، لأن استقرارها يُؤثر مباشرة في الأمن والاستقرار الإقليميين، ويمتد إلى ليبيا المجاورة ومنطقة الساحل والصحراء، فضلا عن غرب المتوسط.
وأثارت علاقات تونس مع بلدان مجموعة الساحل والصحراء سحابة كبيرة من الغبار، في أعقاب تصريح للرئيس قيس سعيد اتهم فيه المهاجرين غير النظاميين المقيمين في تونس، بالضلوع في خطة ترمي لتغيير التركيبة السكانية للبلد. وتلقف متطرفون تونسيون ذلك التصريح لشن حملة عنصرية واسعة على الأفارقة، علما أن تونس نفسها بلدً أفريقي. وأفادت مصادر إحصائية أن عدد هؤلاء لا يتجاوز 60 ألف مهاجر بين نظاميين وغير نظاميين، بينهم طلابً في الجامعات التونسية ومقيمون في مستشفيات خاصة. أما الغالبية فهي مؤلفة من الراغبين في الهجرة إلى أوروبا عبر البحر. وسُجلت اعتداءات عنصرية في الأيام الأخيرة، بعد تصريح سعيد، ما اضطره إلى تعديل كلامه السابق. لكن المخاوف لم تتبدد من ردات الفعل المحتملة على المهندسين ورجال الأعمال التونسيين العاملين في بلدان الساحل والصحراء.

انطلاق أعمال رصد التعددية السياسية في التلفزيون الليبي

 

أنهي فريق راصدي المركز الليبي لحرية الصحافة اليوم الأربعاء تدريبات مكثفة حول تقنيات الرصد الإعلامي للتعددية السياسية في وسائل الإعلام الليبية والتي استمرت لمدة 15 يوما بمشاركة 9 مٌتدربين بمقر المركز في طرابلس وبإشراف الخبيرة والباحثة في مجال الرصد الإعلامي فاطمة اللواتي، وسيكون باكورة العمل إصدار أول تقرير بحثي حول التعددية السياسية في الإعلام الليبي والذي يندرج في إطار برنامج الإصلاح الهيكلي والقانوني لقطاع الصحافة والإعلام في ليبيا

وقد شارك رئيس وأعضاء من مجلس الإدارة بالمركز الليبي لحرية الصحافة، وعميد كلية الإعلام بجامعة طرابلس د، خالد غلام في توزيع شهادات التدريب على الفريق والذي سيواصل أعماله حتى منتصف شهر مارس القادم، وذلك لرصد وتحليل مضامين لـ 9 وسائل إعلامية ليبية ” حكومية وخاصة ” بواقع 500 ساعة تلفزيونية

وقال أ.د محمد الأصفر رئيس مجلس الإدارة إن هذه التدريبات هي نواة لإجراء المزيد من الأبحاث الإعلامية حول تحليل المضامين وقياس ظهور الشخصيات السياسية في وسائل الإعلام الليبية ومدى تكافؤ الفرص بين كافة الأطراف الليبية، وهي الأساس لضمان تمثيل عادل للجميع عبر وسائل الإعلام الممولة من الخزانة العامة او الخاصة

يٌشار إلى أن الرصد الإعلامي يأتي ضمن مشروع التغطية الإعلامية للانتخابات في سياق الأوضاع الحساسة، وذلك ضمن الاستعدادات التي يتخذها المركز الليبي لحرية الصحافة للانتخابات الوطنية القادمة،
وإصدار أول تقرير بحثي حول التعددية السياسية في الإعلام الليبي

في الذكرى الـ13 لانتفاضة 17 فبراير: مازالت ليبيا في قبضة أمراء الحرب


رشيد خشـــانة – يتزايد الطلب على الأسلحة النارية والذخيرة، في ليبيا، مع تزايد أعداد الجماعات شبه العسكرية، ما يمنح المزيد من الفرص التجارية لمهربي الأسلحة إلى دول الساحل والصحراء، انطلاقا من ليبيا.

اختزل نائب رئيسة الوزراء وزير الخارجية والتعاون الدولي الإيطالي أنطونيو تاياني المخارج السياسية من الأزمة الليبية، بأن تجلس تركيا ومصر على مائدة واحدة، لأن لدى الأولى نفوذا على طرابلس ولدى الثانية نفوذا على برقة (الشرق) مُضيفا جملة مهمة بقوله «نحتاج أيضًا إلى إشراك قطر والإمارات». ولا ريب في أن المعارك التي خيضت في ليبيا، على مدى اثني عشر عاما، يُغذيها الصراع بين القوى الإقليمية والدولية على ثروات البلد ومناطق النفوذ.
ومن الواضح أن استمرار تدفق الغاز الليبي على جنوب إيطاليا في مقدم أولويات روما، في الحاضر والمستقبل. وهذا ما يُفسر تصريحات تاياني في طرابلس، عندما أكد أن على إيطاليا حماية مصالحها، مُستدركا «ولكن أيضا أن تلعب دورا لصالح الاستقرار والنمو». وكانت إيطاليا توصلت إلى عقود مهمة مع ليبيا لتطوير أعمال التفتيش عن الغاز، بين مجموعة «إيني» و«المؤسسة الوطنية للنفط» في 28 الشهر الماضي.
ويراوح حجم الغاز المصدر من ليبيا إلى إيطاليا سنويا، بما بين 12 و14 مليار قدم مكعب، حسب رئيس مجموعة «إيني» كلاوديو ديسكالزي. غير أن تدفقات الغاز تتسم بالتذبذب. كما أنّ حجم الصادرات تراجع جراء عدم استقرار الوضع الأمني والسياسي وارتفاع الطلب الداخلي الليبي على الغاز.
في هذا السياق تعهد الإيطاليون بالعمل على جعل الفرقاء الليبيين يتحاورون مع بعضهم البعض. وأكد رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة أن إيطاليا «تعمل على استقرار ليبيا، من خلال جهودها مع دول الجوار». ويستمد هذا الموقف أهميته من التطابق بين الموقفين الإيطالي والأمريكي من مجريات الأزمة الليبية، فقد عهدت واشنطن بالملف الليبي إلى روما، بعد انسحابها المؤقت من ليبيا، في أعقاب مقتل سفيرها في مقر القنصلية الأمريكية ببنغازي العام 2012 وقبل عودتها إليها تدريجا اعتبارا من 2017.
وغير بعيد عن هذا الموقف أتى تصريح عضو المجلس الرئاسي الليبي موسى الكوني، الذي عبر عن «سعادة» المجلس بأن تقود أمريكا المسار السياسي في ليبيا، «لأنها الدولة الوحيدة التي ينصاع لها الجميع» طبقا لما قال، مُستدلا بزيارة مدير المخابرات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز الأخيرة، إلى كل من طرابلس وبنغازي، مع تأكيد الكوني أن أمريكا لن تتدخل عسكريا في ليبيا، تحت أي ظرف. وعزا ذلك إلى كونها «تحظى بنفوذ واسع تعتمد عليه في إدارتها للأزمات».

كتائب بدل الجيش

ويُعتبر تدفق الأسلحة المتوسطة والثقيلة على ليبيا أحد العوائق الكبرى في طريق الحل السياسي، إذ أن تخلي الزعيم الراحل معمر القذافي عن الجيش الليبي، بعد حربه في تشاد، والاستعاضة عنه بكتائب يقودها أبناؤه، أفسحا المجال لتكوُن جماعات مسلحة تفرض سلطتها على جزر أمنية متنافسة في مختلف المناطق والمدن.
وحسب خبراء الأمم المتحدة، في تقرير أصدره أخيرا مكتبها المعني بمكافحة المخدرات والجريمة، يتزايد الطلب على الأسلحة النارية والذخيرة، في ليبيا، مع تزايد أعداد الجماعات شبه العسكرية، ما يمنح المزيد من الفرص التجارية لمهربي الأسلحة إلى دول الساحل والصحراء، انطلاقا من ليبيا. وتكون وجهة تلك الأسلحة، غالبا، بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد.
من هنا تأتي مُطالبة «مجموعة الأزمات الدولية» للدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي بدعم خيار إجراء الانتخابات مباشرة، أي من دون الذهاب إلى تشكيل حكومة أخرى، معتبرة أن هذا الخيار يحمل أملا أكبر لحل الأزمة. ومن ضمن التوصيات الأخرى، التي اتخذها الاتحاد الأفريقي، قبل عقد قمته، التي افتُتحت أمس في أديس أبيبا، ضرورة تجاوز الانقسام بين الدول الغربية، التي تريد إجراء الانتخابات مباشرة، وبين مصر التي تفضل تشكيل حكومة جديدة موالية لها، أكثر من الحكومة الحالية. وظهر ذلك مثلا في إصرار الخارجية المصرية على مقاطعة وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة نجلاء المنقوش.

مهمة وحيدة للدبيبة

من المهم الإشارة هنا إلى أن أمريكا من أشد المطالبين بالمرور مباشرة إلى الانتخابات، فقد خاطب موفدُها وليام بيرنز رئيس حكومة الوحدة الدبيبة بقوله «أمامك مهمة وحيدة هي إجراء الانتخابات ولا شيء غيرها» حسب ما يُتداول في طرابلس. كما طالبت «مجموعة الأزمات» بدعم المبعوث الأممي عبد الله باثيلي وتشجيعه على وضع خريطة طريق لحل الأزمة، بدلا من إطلاق مبادرة جديدة. وفي تطور لافت حققت العلاقات الليبية الإماراتية انعطافا كبيرا بعد الزيارة التي أداها رئيس حكومة الوحدة الدبيبة لأبو ظبي، الأربعاء الماضي، مرفوقا بوفد رفيع المستوى، بعدما كانت الإمارات الحلقة الأقوى في تحالف استهدف حكومة الوفاق الوطني السابقة في طرابلس، برئاسة فائز السراج. وضم الحلف كلا من مصر وروسيا والإمارات، بالإضافة لفرنسا. وما من شك بأن زيارة الدبيبة للإمارات كانت علامة على وجود مسعى إماراتي للتقريب بين الإخوة الأعداء في الصراع الليبي.
أكثر من ذلك حملت الزيارة مؤشرات إلى نقلة في العلاقات الثنائية، بعدما كانت المُمول الرئيس لقوات حفتر، التي هاجمت طرابلس في الرابع من أبريل/نيسان العام 2019. وكان واضحا من كلام الدبيبة في أبو ظبي، حرص طرابلس على فتح آفاق التعاون الاقتصادي بين البلدين، في المجالات الاقتصادية والاستثمارية المختلفة. وأكد الدبيبة بأنه اتفق مع رئيس الإمارات محمد بن زايد على تسيير رحلات جوية مباشرة بين البلدين، وفتح التأشيرات للمواطنين الليبيين وعودة السفارة الإماراتية إلى العمل من طرابلس. وشدد سفير الإمارات لدى ليبيا، محمد الشامسي، الذي قدم أوراق اعتماده أخيرا إلى رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، على تفعيل اللجنة العليا المشتركة بين البلدين، ومنح الليبيين تأشيرات الدخول لدولة الإمارات إلكترونيا، من دون الحاجة إلى السفر لدولة ثالثة للحصول عليها.

تفكك الحلف الرباعي؟

وشكل استئناف العلاقات الليبية الإماراتية واحدا من المُتغيرات الاستراتيجية البارزة في المنطقة، لأنه أمارة على تفكك الحلف الرباعي المصري الروسي الإماراتي الفرنسي، وهو أيضا تهميشٌ للواء حفتر، الذي كان يصفه الإعلام الإماراتي بـ«المشير خليفة حفتر القائد العام للقوات المسلحة الليبية». ويتزامن هذا الانعطاف مع احتفال الليبيين بالذكرى الثانية عشر لانتفاضة 2011 التي أطاحت بنظام الزعيم الراحل معمر القذافي. وقد احتضنت الإمارات عددا مهما من رجال النظام السابق وساعدتهم سياسيا وماليا. وهذا ما يُفسر دفاعها على إشراك بعض رموز النظام السابق في الحكم، بتعلة أن مؤيدي شباط/فبراير، أو من كانوا يُنعتون بـ«الثوار» ليست لديهم الخبرة الكافية لإدارة شؤون الدولة.
والأرجح أن كسر الجليد بين طرابلس وأبو ظبي تم بناء على عدد من التسويات والمقايضات بين العاصمتين، التي انطلقت منذ مدة. وظهرت بعض ملامح التسويات من خلال موافقة الدبيبة على إقالة الرئيس السابق للمؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله وتسمية فرحات بن قدارة في مكانه، وهو الاسم الذي رشحه خليفة حفتر ووافقت عليه الإمارات. كما تشمل المقايضة أيضا إجراء تعديل وزاري في حكومة الدبيبة، بالاتفاق مع خليفة حفتر، وتحت رعاية الإمارات، يُرجح أن يُمنح بموجبها معسكر حفتر إمكانية تعيين وزراء المالية والتخطيط والدفاع، وربما الخارجية، إلى جانب نائبي رئيس الوزراء عن الجنوب والشرق.

مُقايضات

نظريا ستُساهم هذه المقايضات في إنضاج الشروط اللازمة لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكن في الواقع هناك عراقيل متنوعة مازالت تُعطل المسار، من بينها أن الموقف الدولي مازال غير موحد في عدة قضايا، من بينها طبيعة الانتخابات، هل تكون نيابية فقط، لإحداث مجلس تشريعي ينتخب بدوره رئيسا للدولة، أم تكون رئاسية لاختيار رئيس يسمي رئيسا للحكومة؟ وهنا يرى عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني أن ليبيا بحاجة إلى رئيس منتخب وليس إلى برلمان أو مجلس رئاسي. ويعتقد الكوني، أن حكومة الوحدة الوطنية لديها مهمة مركزية هي تأمين الانتخابات وحمايتها، «لكن الجميع يعرقل إجراء الانتخابات» وفق قوله. ورجح الكوني احتمال عدم فوز أي من الأسماء الحاضرة في المشهد الحالي في الانتخابات.
والأرجح أن المبعوث الأممي عبد الله باثيلي يحمل في حقيبته هذه الخيارات في إطار سلسلة المشاوارت مع الأطراف المحلية والدولية، قبيل إحاطته أمام مجلس الأمن المقررة للسابع والعشرين من الشهر الجاري. وعلى سبيل المثال يتمسك الألمان بالجمع بين الانتخابات النيابية والرئاسية، طبقا لما قالته وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك لباثيلي، كما يُصر الألمان على إجراء الانتخابات قبل نهاية العام الجاري، وليس في السنة المقبلة مثلما يقترح البعض.

مدرعات جديدة

أكثر من ذلك، تستعد الحكومة الليبية لتسلم مركبات مدرعة من الإمارات، إذ قدم رئيسها الدبيبة (وهو في الوقت نفسه وزير الدفاع) خطابا إلى لجنة الجزاءات المفروضة على ليبيا، التابعة للأمم المتحدة، طالبا منها السماح باستلام 45 مركبة مدرعة من الإمارات، بالرغم من حظر الأسلحة المفروض على ليبيا. لكن الخبراء المتابعين للملف الليبي يؤكدون أن طموحات حفتر أكثر مما يمكن للدبيبة أن يقدمه. وهم يرون أن حجم الاتفاقات لا يحقق حتى الآن تسوية، إذ أن حفتر، الذي يريد الاستحواذ على كل شيء، مازال يريد المزيد، أكثر بكثير مما يمكن للدبيبة أن يعطيه، مخافة استعداء الجماعات المسلحة في غرب ليبيا، التي تدافع عنه وعن أعضاء حكومته. كما يواصل حفتر استخدام وجود حكومة باشاغا للضغط على الدبيبة، وفتح آليات تمويل موازية، من خلال إجبار البنوك، الموجودة في شرق ليبيا، على مراكمة الديون. والنتيجة الطبيعية لهذا التكتيك هي ترسيخ الانقسام المؤسسي بين شرق ليبيا وغربها.

تدفق النفط وإبعاد عناصر «فاغنر» أولويتان للقوى الغربية في ليبيا


 

رشيد خشـــانة – السيناريو الأكثر تداولا حاليا هو تشكيل حكومة جديدة، يُستبعد منها كلٌ من الدبيبة والمشري وعقيلة صالح، وتقتصر مهمتها على الإعداد لانتخابات عامة، بعد الاتفاق على مرجعيتها الدستورية.

جميع التصريحات الموحية، مباشرة أو مداورة، بوجود اتفاق على إبعاد مرتزقة «فاغنر» من الأراضي الليبية، لا يمكن الوثوق في صحتها إلا متى وُضعت على المحك، وبدأ الانسحاب فعلا. ومن الواضح أن مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، مارس ضغطا قويا على اللواء المتقاعد خليفة حفتر، أثناء اجتماعهما أخيرا في بنغازي، من أجل التخلي عن مجموعة المرتزقة الروس. وتنظر واشنطن إلى المجموعة على أنها تشكيل أساسيٌ من القوات الروسية، سواء تلك التي تغزو أوكرانيا، أم المنتشرة في الخارج. ومن غير المستبعد أن تلجأ موسكو إلى التمويه والمناورة فتنقل قسما من مرتزقتها، مؤقتا، إلى أوكرانيا، أو النيجر عبر جنوب ليبيا، في انتظار عودتهم، في الوقت المناسب.
وسيضع رحيل فاغنر من عدمه التصريحات والالتزامات المُعلنة هنا وهناك على المحك، لأن خروج الروس سيتبعه انسحاب القوات الأجنبية الأخرى، وإن شكليا، في إطار تهيئة الأجواء للانتخابات الرئاسية والنيابية. وإذا ما اجتُرحت خطوة الانسحاب بجد، فإن خطوات أخرى ستتلوها، وفي مقدمها تجميع السلاح الثقيل وإبعاده عن المدن والتجمعات السكانية. لكن الخطوة الأعقد، وربما العصية على التحقيق، هي حلُ الأجسام شبه العسكرية، التي أخذت مكان الدولة، وصارت دويلات تتقاسم السيطرة على الأحياء والكانتونات وتفرض فيها القانون، قانونها. واستطرادا فإن أمراء الحرب سيُعطلون أية تسوية تؤدي إلى تحجيم نفوذهم.
وأمراء الحرب في ليبيا اليوم ليسوا فقط قادة الميليشيات، وإنما أيضا مسؤولون سياسيون يتصرفون مثلما يتصرف أمراء الحرب، ومن بينهم أعضاء في مجلسي النواب والأعلى للدولة، بالإضافة إلى اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يقود أكبر ميليشيا في المنطقة الشرقية. والأغرب من ذلك أن حكومة عبد الحميد الدبيبة تصرف رواتب للأجسام العسكرية التي تتولى حمايتها، وتؤمن في الوقت نفسه الرواتب للمجندين في جيش حفتر، شهريا. وأبسط دليل على ذلك أن هذا الأخير رفض تقديم معلومات عن المستفيدين من التحويلات المالية الشهرية إلى المنطقة الشرقية. ولو كُشف الغطاء عن مآلات التحويلات الكبيرة لظهرت في الصورة الأسماء المخفية، بما فيها مرتزقة «فاغنر».

مطلبُ بيرنز

ويملك حفتر ورقة قوية للضغط على الحكومة في طرابلس، إذا ما تقاعست أو تأخرت في تحويل كل تلك الرواتب، إذ سرعان ما يدفع بقواته إلى الموانئ والحقول النفطية، لاحتلالها ووقف تصدير النفط والغاز، جزئيا أو كليا، ما يُضطر الحكومة في طرابلس للإذعان. من هذه الزاوية نُدرك لماذا ركز وليام بيرنز، بلهجة صارمة، أثناء اجتماعه مع حفتر في قاعدة الرجمة (شرق) وقبل ذلك مع عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، على هذه المسألة لأن استمرار تدفق النفط والغاز على حلفاء واشنطن في أوروبا الغربية أمرٌ حيويٌ وحاجة أمنية، وسط اضطراب صادرات النفط والغاز الروسية.
ومن المؤكد أن مصلحة واشنطن تكمن في ألا يؤدي انهيار العملية السياسية في ليبيا، إلى اندلاع حرب جديدة، تكون «فاغنر» طرفا فاعلا فيها، وأن يستمر تدفق النفط والغاز الليبيين كي لا تتعمق أزمة الطاقة في أوروبا، في ظل تراجع إمدادات الطاقة الروسية، خاصة بعد قرار تسقيف أسعارها.
وتعتقد مصادر أمريكية أن مجموعة «فاغنر» احتفظت بـ300 روسي و 700 سوري في شرق ليبيا، بما في ذلك حول المنشآت النفطية وقاعدة «الخادم» الجوية التابعة لحفتر. أما تركيا فأقامت قواعدها في غرب البلاد. وأكد مدير وكالة المخابرات المركزية بيرنز، في زيارة لجامعة جورج تاون بواشنطن، أن إدارة الرئيس جوزيف بايدن تعمل بجد على مواجهة «فاغنر لأنها تشكل تهديدا للأفارقة، في جميع أنحاء القارة» على ما قال. وبعد زيارة بيرنز إلى ليبيا صنفت وزارة الخزانة الأمريكية مجموعة «فاغنر» بوصفها «منظمة إجرامية عابرة للحدود».
وكان اللواء حفتر جلب المرتزقة الروس إلى ليبيا، في العام 2018 للمساعدة في الهجوم على طرابلس. وفي أعقاب هزيمته وسحب قواته إلى المنطقة الشرقية، وتشكيل حكومة موحدة في العام 2021 ابتعدت «فاغنر» وحلفاؤها السوريون عن الأضواء، لكي تعود إليها مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، والدور المتزايد الذي لعبته في ساحة المعركة. وفي هذا السياق تُعتبر زيارة بيرنز لليبيا جزءا من حملة متجددة تقودها إدارة الرئيس بايدن ضد «فاغنر» بعدما لعبت هذه الأخيرة دورا متزايدا في حرب أوكرانيا، بالتوازي مع توسيع نفوذها إلى مناطق أخرى من أفريقيا. واللافت أن مفوض الأمن والعلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بورال أكد أن عناصر «فاغنر» يتولون تأمين الحراسة الشخصية لعدة رؤساء ومسؤولين سامين في دول أفريقية لم يُسمها.
أكثر من ذلك كشفت وثيقة رسمية، تسربت على وجه الخطأ! من أحد أجهزة الأمن في مالي، أواخر العام الماضي، عن أن «الوكالة الوطنية لأمن الدولة» التي يُديرها الرئيس المالي أسيمي غويتا بنفسه، مساهمٌ في تمويل قوات «فاغنر». وأظهرت الوثيقة ارتفاعا جنونيا لاعتمادات الوكالة في الموازنة المقبلة، إذ قفزت من 3 ملايين يورو العام الماضي، إلى 180 مليون يورو مقررة لهذه السنة. لكن يجب أخذ هذه الإفادات من مالي بشيء من التحفظ، لأن فرنسا ما زالت تقف على خط الصراع مع النظام العسكري هناك، وهي تؤلب عليه جيرانه. وأفيد أن عناصر «فاغنر» باشروا، بُعيد وصولهم إلى مالي في 2021 التفتيش عن مناجم الذهب، الذي تُعتبر مالي أحد منتجيه الكبار في أفريقيا. غير أنهم لم يُبرموا، رسميا، أية عقود للاستخراج مع السلطات المالية، على عكس تعامل أفريقيا الوسطى والسودان معهم، اللذين منحاهم امتيازات للتفتيش عن الذهب واليورانيوم ومعادن ثمينة أخرى.
وتخضع المجموعة ومؤسسها يفغيني بريكوجين المُلقب بـ«طباخ بوتين» لعقوبات أمريكية منذ العام 2017. وأعلنت إدارة بايدن في كانون الأول/ديسمبر 2022 عن قيود جديدة، لتعطيل وصول التكنولوجيا إلى عناصر المجموعة. وتُؤلف عناصر «فاغنر» في ليبيا جيشا متكامل المقومات، إذ أنهم مجهزون بمركبات مدرعة وأنظمة دفاع جوي وطائرات مقاتلة ومعدات أخرى قدمتها روسيا، ودفعت الإمارات ثمنها.
ويُرجح الصحافي الفرنسي مورغان لوكام، في مقال في جريدة «لوموند» أن مجموعة «فاغنر» خاسرة في مالي، واستطرادا يتساءل عما إذا كانت تمول نشاطاتها هناك مما تحصدُه من عملياتها في ليبيا والسودان وأفريقيا الوسطى؟ لذلك فهي تحافظ على وجودها في مالي، بالرغم من الخسارة، لما يرتديه هذا البلد الشاسع من أهمية استراتيجية، لاسيما لباريس، ضمن قوس نفوذها في الساحل والصحراء. وحسب وكالة الأنباء الأمريكية «أسيوشيدت برس» تتعاون إدارة بايدن منذ شهور، مع القوى الإقليمية، وخاصة مصر والإمارات، للضغط على القادة العسكريين في السودان وليبيا لإنهاء علاقاتهم مع الجماعة. ونتيجة لهذا المُتغير المهم، أعلنت واشنطن، في إطار القمة الأمريكية الأفريقية، التي عُقدت قبل شهر من زيارة بيرنز إلى ليبيا، تخصيص 55 مليار دولار لأفريقيا، أملا بتقويض النفوذ الروسي والصيني في القارة.

مفوضية الانتخابات جاهزة

في هذه الأجواء كثرت التصريحات والتصريحات المضادة في ليبيا حول الانتخابات، لكن لا أحد من المُصرحين صادقٌ في ما يقول. والأرجح أن الانتخابات لن تتم في العام الجاري، لأن الأوضاع الداخلية والإقليمية غير جاهزة لانتخابات بمثل هذه الحساسية والخطورة. والسيناريو الأكثر تداولا حاليا هو تشكيل حكومة جديدة، يُستبعد منها كلٌ من الدبيبة والمشري وعقيلة صالح، وتقتصر مهمتها على الإعداد لانتخابات عامة، بعد الاتفاق على مرجعيتها الدستورية. ويجوز القول إن الإشراف الإداري والفني على العملية الانتخابية مضمونان بواسطة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، التي يؤكد رئيسها عماد السايح لزُواره أنها جاهزة بنسبة 98 في المئة، للقيام بدورها في الاستحقاق الانتخابي. ويذهب الخبير الألماني بالشؤون الليبية ولفرام لاخر، إلى أن غالبية المراقبين يشُكُون بإجراء الانتخابات في وقت قريب.
وعزا ذلك إلى «العقبات الهائلة التي تواجه تلك العملية، ومن بينها تمسك الأطراف الرئيسة بمواقفها، سواء أكانت من الأطراف المحلية أم من القوى الأجنبية، وعدم رغبتها بالمخاطرة في عملية غير مضمونة». إلا أن لاخر يستبعد في الوقت نفسه استئناف الحرب الأهلية بين شرق وغرب، امتثالا لقرار دولي بإنهاء الصراع المسلح في ليبيا، لتداعياته الخطرة على الأمن والاستقرار في الاقليم بأسره.
ومع ابتعاد فرص الحل السياسي تكثر الاجتماعات العقيمة والمناقشات البيزنطية، أسوة بحوارات خالد المشري وعقيلة صالح، التي لم تكن غير كسب للوقت لا أكثر. ويتهم كثيرون المشري وصالح بالعمل على إطالة بقائهما في منصبيهما، والاستفادة من الامتيازات الكبيرة التي يتمتعان بها، لأنهما لو شاركا في انتخابات جديدة، فالأرجح أنهما سيفشلان في العودة إلى مقعديهما. وأتت التصريحات الأخيرة لعضو المجلس الرئاسي موسى الكوني، لتؤكد أن النخبة الحاكمة هي التي تُعطل مسار الحل السياسي، إذ أن حكومة الدبيبة قادرة، برأيه، على إجراء الانتخابات، بوصفها الحكومة المعترف بها دوليا. غير أن الأطراف الداخلية والخارجية متوافقة على عدم إجرائها «لأن ذلك يصب في مصلحتهم جميعا» على ما قال.
وبالمقابل لوحظ بروز نخبة ليبية ناشئة، تعمل على خلق واقع جديد على الأرض، وتنبذ السياسيين وتتوعدهم بالمحاسبة. غير أن هذه النخبة الشابة ما زالت بعيدة عن سلطة القرار، وهي تحتاج إلى توحيد صفوفها لإسماع صوتها، الذي ما زال خافتا ومتقطعا، خصوصا بعد الإجراءات التي اتخذتها حكومة الدبيبة لإحكام قبضتها على وسائل الإعلام. وربما تكون الاحتفالات بالذكرى الثانية عشرة لانتفاضة 17 شباط /فبراير2011 مناسبة لبروزها، بشكل منظم، في المشهد الليبي.

انتخابات ليبيا وتمدُدُ «فاغنر» هاجسان في محادثات بلينكن-السيسي

 

رشيد خشــانة – ما فتئت أمريكا تعزز اهتمامها وتوسع نفوذها في ليبيا، بعدما ظلت غائبة عنها في السنوات التي أعقبت مقتل سفيرها الأسبق كريستوفر ستيفانز في مقر قنصليتها في بنغازي، عام 2012 على أيدي جماعة «أنصار الشريعة» المتشددة.
وعلى الرغم من أن ليبيا لم تكن على قائمة الدول التي زارها أخيرا وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وهي مصر وإسرائيل والضفة الغربية، فإن رئيس الدبلوماسية الأمريكية حمل في حقيبته ثلاثة ملفات على الأقل تتصل بالأزمة الليبية، أولها ملف قوات «فاغنر» الروسية، التي تعمل واشنطن على احتواء تمدُدها في المنطقة، وثانيها يتعلق بإنهاء الصراع بين الفرقاء الليبيين، من خلال إجراء الانتخابات المؤجلة. أما الملف الثالث فهو ضمان تدفق الغاز من ليبيا والجزائر، إلى البلدان الأوروبية، للتعويض عن الغاز الروسي.
ومن الواضح أن مشاركة عناصر من «فاغنر» في الحرب الروسية على أوكرانيا، كانت التطور الحاسم الذي دفع واشنطن إلى تصنيف المجموعة في خانة «المنظمات الإجرامية الدولية» منددة بتجاوزاتها في أوكرانيا، واستخدامها أسلحة حصلت عليها من كوريا الشمالية، وتجنيدها سجناء روس في الحرب، حسب مصادر رسمية أمريكية. وهذا ما قاله المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، جون كيربي، الذي اتهم «فاغنر» بارتكاب «فظائع وانتهاكات لحقوق الإنسان على نطاق واسع». والأرجح أن بلينكن أثار هذا الموضوع مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لأن مصر لها اليد الطولى على القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر، الذي استدعى قوات «فاغنر» إلى ليبيا، لمساعدته في الحرب التي شنها على طرابلس، اعتبارا من الرابع من نيسان/ابريل 2019. وكاد حفتر يسيطر على العاصمة، لولا التفوق الجوي للمُسيرات التركية، التي أوقفت تقدم قواته وداعميها الروس، وأجبرتهم على الانسحاب إلى مدينة سرت (شمال الوسط).
وحسب تقديرات كيربي ما زالت المجموعة «تُشغل» نحو خمسين ألف مقاتل منتشرين في أوكرانيا، هم عشرة آلاف من المرتزقة وأربعون ألف سجين، أما عددهم في ليبيا فيقارب ثلاثة آلاف عنصر حسب مصادر ليبية، قبل نقل عدد غير معروف منهم إلى أوكرانيا. وكان كيربي أعلن أن واشنطن لن تكتفي بإعلان المجموعة منظمة إجرامية، بل ستفرض عليها عقوبات أخرى من دون إعطاء مزيد من التفاصيل. أما الجانب الروسي فهون من دور المجموعة في ليبيا، وأكد على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف أن وجودها يرتدي طابعا «تجاريا» مشيرا إلى أن مقاتليها أتوا بناء على دعوة من «السلطات في طبرق» أي مجلس النواب، الذي يتخذ من تلك المدينة مقرا له. على أن مصادر إعلامية أمريكية حذرت من الدور الذي قد تكون «فاغنر» تلعبه في أفريقيا، بوصفها منطلقا لنشر المرتزقة هناك، ففي 29 نيسان/ابريل الماضي، أفاد موقع «فاينانشيال تايمز» أن روسيا استخدمت ليبيا محورا لنشر مرتزقتها في القارة الأفريقية، وخاصة في مالي وأفريقيا الوسطى. ومن هنا سارعت أمريكا إلى محاولة تقويض النفوذ الروسي والصيني في القارة السمراء، بإعلانها، خلال القمة الأمريكية الأفريقية، التي عقدت قبل شهر من زيارة بيرنز إلى ليبيا، تخصيص 55 مليار دولار لأفريقيا، من أجل الحد من تمدُد الأصابع الروسية والصينية في القارة.
وفي سياق استراتيجي متصل، يُرجح أن ملف مكافحة الإرهاب شكل أحد المحاور البارزة في الاجتماع الأخير بين بلينكن والسيسي، فمثلما قصف الطيران الحربي المصري والإماراتي أهدافا في جنوب ليبيا وشرقها، لمطاردة زعماء حركات متشددة، في مقدمها تنظيما «داعش» و«القاعدة» لا يتردد الجيش الأمريكي أيضا في قصف أو اعتقال من يصل إليهم من المسجلين على لوائح الإرهاب، خاصة في جنوب ليبيا. وكان القسم الأكبر من قوات «داعش» التي سيطرت على مدينة سرت، قد تمكن من الانسحاب نحو الجنوب، بعد هزيمته في كانون الأول/ديسمبر 2016. وهو ما زال يشكل خطرا بسبب وجود عناصره في مناطق بالجنوب الشرقي لا تسيطر عليها الدولة الليبية. ومن أبرز من اعتقلت أمريكا الليبي أحمد أبوختالة، المتهم الأول في قضية الهجوم على مقر القنصلية الأمريكية في بنغازي، والذي نُقل في حزيران/يونيو 2014 إلى الولايات المتحدة حيث حوكم أمام هيئة قضائية فدرالية في واشنطن، قضت بسجنه 22 عاما.
كما قبضت أمريكا العام الماضي على الليبي أبو عقيلة مسعود المريمي، المتهم بصنع القنبلة التي استخدمت في تفجير طائرة «بان أم» الأمريكية فوق بلدة لوكربي عام 1988 ما أسفر عن وفاة 259 شخصا. وتم الاعتقال باتفاق مع حكومة عبد الحميد الدبيبة، في أعقاب خطف جماعة مسلحة للمشتبه به من بيته في طرابلس. وما من شك بأن وزير الخارجية الأمريكي ناقش ملف مكافحة الإرهاب مع الرئيس المصري، الذي ينتهج خطا متشددا مع الجماعات الأصولية المسلحة.

سقوط أحجار الدومينو

ويقول الخبير الفرنسي لوك دوباروشي إن وزير الخارجية الأمريكية لا يمكن أن يكون قد تناسى المخاطر المتزايدة في منطقة الساحل والصحراء، بعد الانسحاب الفرنسي المتعثر من تلك المنطقة. وتتعرض باريس لطلبات من بعض الدول الأفريقية، بسحب قواتها من القارة، بدأت العام الماضي من مالي وأفريقيا الوسطى، ثم توالى سقوط أحجار الدومينو، ليشمل أيضا الانسحاب الفرنسي من بوركينا فاسو. والأرجح أن استمرار هذا التدحرج يُؤشر لالتحاق بلدان أخرى قريبا بالقطار، ما يعني إخفاقا ذريعا للحرب الفرنسية على الإرهاب في أفريقيا، بعد عشر سنوات من إطلاقها على يد الرئيس السابق فرانسوا أولاند. من هذه الزاوية فإن المخاطر التي تمثلها تلك الظاهرة، كانت على الأرجح قاسما مشتركا في الحديث بين بلينكن والسيسي.
ورأى الخبير دوباروشي أن أمريكا تسعى للعودة إلى أفريقيا بقوة، وأظهرت ذلك من خلال الوفد رفيع المستوى، الذي رافق بلينكن في جولته الأفريقية الأخيرة، الصيف الماضي، إذ كان قوام الوفد نحو خمسين مسؤولا وخبيرا. وقام بلينكن بجولته الأفريقية الثانية بعد أقل من سنة. ويُعزى ذلك الاهتمام إلى الرغبة الأمريكية في مواجهة التمدد الروسي السريع في القارة الأفريقية. ورد الروس على تلك الجولة بجولة مضادة قام بها وزير الخارجية سيرغي لافروف، وشملت مصر وأوغندا وأثيوبيا وكونغو برازافيل.
ومن غير المستبعد أن يكون السيسي قد استكمل مع بلينكن الحديث الذي بدأه مع مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز خلال زيارته الأخيرة للقاهرة، بحضور رئيس المخابرات المصرية، إذ اتفقا على تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين. وكان بيرنز وضع السيسي في صورة المجموعة الجديدة التي شكلتها الوكالة المركزية الأمريكية، والتي قال إنها تركز بشكل مطلق على الصين، واصفا التحديات التي تمثلها على الأمن القومي الأمريكي بكونها «أهم تهديد تواجهه أمريكا».
مع ذلك تبقى روسيا خصما عنيدا وقويا لأمريكا، ويتجلى هذا الصراع في الحرب الأوكرانية وكذلك في ليبيا، التي باتت تشكل منذ 2014 إحدى ساحات المواجهة بين الدولتين. وأحرزت أمريكا تقدما على حساب روسيا من خلال وجودها على الأرض، سواء عبر بعثتها الدبلوماسية في طرابلس، أم مبعوثيها الخاصين وآخرهم بيرنز.

تقارب الفرقاء الليبيين

تركز واشنطن على ليبيا ضمن رؤية أشمل في صراعها مع روسيا، خاصة في ظل الحرب الأوكرانية وتداعياتها على أمن الطاقة العالمي. ويبدو أن مصلحة واشنطن تكمن في ألا يؤدي انهيار العملية السياسية في ليبيا إلى اندلاع حرب جديدة تكون عناصر «فاغنر» طرفا فاعلا فيها، وأن يستمر تدفق النفط والغاز الليبيين حتى لا تتعمق أزمة الطاقة في أوروبا، مع تراجع إمدادات الطاقة الروسية، وخاصة بعد قرار تسقيف الأسعار.
بهذا المعنى كان الملف الليبي على مائدة البحث بين بلينكن والسيسي، انطلاقا من المحاولات المصرية لجمع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري. وأفادت مصادر مصرية مطلعة أن القاهرة بصدد القيام بترتيبات لجمع صالح والمشري مجددا في القاهرة. ويدعم الأمريكيون هذه الجهود، لكنهم يستعجلون الحل السياسي لأن استمرار عدم الاستقرار في ليبيا يُلقي بتداعياته على أمن الإقليم. ويمكن اختزال موقف واشنطن من سرعة اجتراح الحل السلمي، بضرورة إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة وشفافة. وأورد موقع السفارة الأمريكية لدى ليبيا تلخيصا لهذا الموقف، مؤكدا أن واشنطن «تدعم حلا سريعا للصراع في ليبيا من خلال وساطة بإشراف بعثة الدعم الأممية إلى ليبيا (أونسميل)». ويضيف الموقع أن أمريكا مصممة على المساهمة في إقامة ليبيا مستقرة ومزدهرة «بالخصوص من خلال انتخابات وطنية».
على هذه الأسس يُعتقد أن الملف الليبي طُرح للمناقشة على مائدة الحوار، مثلما ورد في البيان الصحافي، الذي سبق زيارة بلينكن لمصر. وقد يكون شمل دعوة القاهرة للتخفيف من دعمها للواء المتقاعد حفتر، الذي سبق أن اتهمته ستيفاني وليامز، المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة، بكونه يُعرقل الوصول إلى حل سياسي للأزمة الليبية. وبهذه الخلفية ندرك حرص وليم بيرنز على زيارة الجنرال في بنغازي لتحذيره من تعطيل المسار السياسي والانتخابي، زيادة على إبلاغه قلق الإدارة الأمريكية من تحالفه مع مجموعة «فاغنر». وربما يرتدي الحوار الأمريكي مع حفتر بعدا آخر يتعلق بإقدام قوات الجنرال على غلق الحقول النفطية والغازية في المنطقة الشرقية، كلما تأزمت العلاقات مع حكومة الوحدة في طرابلس. ويحض الأمريكيون الدول المنتجة للغاز أسوة بالجزائر وليبيا، على ضخ الغاز إلى بلدان أوروبا الغربية للتعويض عن الغاز الروسي. وتحتل ليبيا الرتبة الحادية والعشرين عالميا من حيث احتياطي الغاز، بطاقة إنتاجية تقدر بنحو 2.2 مليار قدم مكعب يوميا. وتصدر ليبيا الغاز إلى إيطاليا منذ 2007 عبر أنبوب يبلغ طوله 520 ميلا بحريا، بالإضافة لزبناء غربيين آخرين، من حلفاء الولايات المتحدة. وإجمالا ينبني الاهتمام الأمريكي بالوضع في ليبيا على تحديين كبيرين، الأول هو ملاحقة قوات «فاغنر» وإخراجها من الجنوب الليبي، وثانيهما تأمين تدفق الغاز والنفط على الدول الأوروبية، من دون إغلاقات أو تعطيلات.
لكن مع هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في تشرين الأول/اكتوبر 2020 وتعثر اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة «5+5» ستنصبُ الجهود على حماية الوضع القائم من أي انزلاق نحو عملية عسكرية جديدة.

شهادة مبروكة الشريف تورط معمر القذافي


أفاد الموقع الفرنسي المطلع “ميديا بارت” أن مبروكة الشريف المساعدة السابقة لمعمر القذافي، أكدت للقضاة الفرنسيين أن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا سركوزي  طلب من القذافي دعما ماليا لتمويل حملته الانتخابية في 2007. وأوضحت مبروكة في شهادة مكتوبة أن ساركوزي، الذي حكم فرنسا من 2007 إلى 2012، أعاد الطلب نفسه في 2010 قبل أن يخسر الانتخابات في مواجهة  غريمه فرانسوا أولاند. وتقيم مبروكة منذ انهيار النظام السابق في جنوب الجزائر، وهي آخر شاهد من الشهود على عملية تمويل حملة ساركوزي الانتخابية.

وفي سياق متصل أفادت “ميديا بارت” المتخصصة في الصحافة الاستقصائية أن القضاء الفرنسي، قرر إقفال الملف، بعد تسع سنوات من التحقيقات المعمقة. وعرض القضاة على المشتبه بهم المثول أمام  هيئة قضائية للادلاء بآخر تصريحاتهم، لكن ساركوزي ووزراءه الثلاثة كلود غيان وبريس هورتوفو وإيرك وورث “رفضوا ذلك بأدب”، بحسب الصحيفة. 

هل ينجح محور الجزائر إيطاليا في ما فشل فيه الآخرون؟

 

رشيد خشــانة – روما والجزائر لا ترغبان بربط علاقات مع الحاكم العسكري للمنطقة الشرقية الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، وتتعاطيان مع حكومة عبد الحميد الدبيبة، بوصفها الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا.

شكلت الجزائر وإيطاليا محورا دافعا باتجاه تحقيق الحل السلمي للصراع في ليبيا، بمباركة من الأمم المتحدة. وأكدت الزيارة التي بدأتها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني أمس لطرابلس، بعد زيارتها إلى الجزائر، المكانة المحورية التي تتبوأها منطقة شمال أفريقيا في الاستراتيجية الإقليمية لإيطاليا، خصوصا في الظرف الراهن. ولوحظ أن زيارتي ميلوني للجزائر وطرابلس تزامنتا تقريبا مع جولة قام بها نائب رئيس الحكومة وزير الخارجية أنطونيو تاياني إلى كل من مصر وتركيا وتونس، لبحث الأزمة الليبية وتداعياتها مع المسؤولين في البلدان الثلاثة، المتقاربة في موقفها من سُبُل تسوية الصراع الأهلي في ليبيا. ومن الواضح أن روما والجزائر لا ترغبان بربط علاقات مع الحاكم العسكري للمنطقة الشرقية الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، وتتعاطيان مع حكومة عبد الحميد الدبيبة، بوصفها الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا. ومن المؤكد أن هذا الموقف يُغضب رئيس الحكومة المُعينة من مجلس النواب فتحي باشاغا، الذي لم يتمكن من تحصيل اعترافات دول وازنة بحكومته.
وقد اختارت رئيسة الوزراء الإيطالية أن تكون زياراتها الخارجية الأولى إلى المنطقة المغاربية، انطلاقا من الجزائر. ويُعزى هذا «التبجيل» إلى مصالح اقتصادية وأخرى سياسية وأمنية لم تُخفها ميلوني، وهي تتعلق بأربعة مجالات، أولها زيادة تدفقات الغاز الجزائري والليبي على إيطاليا، وثانيها التصدي لقوارب الهجرة غير القانونية عبر المتوسط، وثالثها احتواء التمدد الروسي في دول الساحل والصحراء، أما الرابع فهو القضاء على ما تبقى من عناصر شبكة «القاعدة» وتنظيم «داعش» في الجنوب الغربي لليبيا وشمال مالي وبوركينا فاسو.
وهذه المحاور هي عناوين البرنامج الانتخابي لائتلاف اليمين وأقصى اليمين، الذي فاز بالانتخابات الأخيرة في إيطاليا. وهو يعتزم الشروع في تطبيق مرسوم الهجرة الجديد، الذي يعتمدُ قواعد صارمة في التعاطي مع قوارب المهاجرين غير النظاميين، الذين ينطلقون من السواحل الجنوبية للمتوسط، وخاصة من مصر وليبيا وتونس. وتسعى ميلوني إلى استكمال زياراتها المغاربية قبل اجتماع مجلس الاتحاد الأوروبي المقرر للأسبوع الثاني من الشهر المقبل، والذي سيُخصص لملف الهجرة بأصنافها. ويتسم المرسوم الإيطالي الجديد بالتشدد مع سفن الانقاذ، التي تُسيرها منظمات الإغاثة وجماعات المدافعين عن حقوق المهاجرين، والتي تتلقف الراكبين في القوارب الجانحة، لإنقاذهم من الموت في البحر. وربما الأهم من ذلك، من منظور الإيطاليين، هو تأمين تدفق الغاز والنفط من ليبيا، بعد معاناة إيطاليا من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. ويربط إيطاليا بالجزائر وليبيا أنبوبان لنقل الغاز عبر البحر المتوسط، ويجوز القول إن أهم مكسب حصلت عليه رئيسة الحكومة الإيطالية من زيارتها للجزائر، هو الأنبوب الجديد، الذي قال الرئيس عبد المجيد تبون إن الدراسات الفنية الخاصة بإنجازه ستنطلق في وقت قريب، مؤكدا أنه سينقل أربع مواد في وقت واحد، وهي الغاز والكهرباء والأمونياك والهيدروجين. وتزود الجزائر إيطاليا حاليا بـ40 في المئة من حاجاتها من الغاز المُسال، ورفعت في آخر الشهر الماضي الكميات إلى أكثر من 25 مليار متر مكعب. وستصل طاقة الأنبوب الجديد إلى 29 مليار متر مكعب من الغاز المُسال. وينقل الأنبوب الحالي، الذي أنشئ في ثمانينات القرن الماضي، الغاز الطبيعي إلى جزيرة صقلية، وتحصل تونس على رسوم عبور تُؤمن لها قرابة نصف استهلاكها من الغاز الطبيعي.

حقلا غاز جديدان

في هذا الإطار أكدت ميلوني لمحاوريها العرب أن استتباب الأمن والاستقرار في شمال أفريقيا هو مصلحة لإيطاليا ولدول الإقليم في الآن نفسه. وأعلن الرئيس تبون في جانبه أن إيطاليا ستغدو بفضل الأنبوب الجديد، موزعا للغاز على البلدان الأوروبية، انطلاقا من إيطاليا. وقدر رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، في تصريح لوكالة «بلومبرغ» قيمة الاتفاق الذي تم التوقيع عليه أمس في طرابلس، مع مجموعة «إيني» بـ8 مليارات دولار، ستُخصص لتطوير حقلين للغاز قبالة السواحل الليبية.
هذا المشروع سيكون في أحد أبعاده، منافسا لمشروع غازي ضخم سيربط بين طنجة في شمال المغرب ونيجيريا، التي تملك أعلى احتياط من الغاز الطبيعي في القارة الأفريقية، بطول 3000 كيلومتر، بمحاذاة السواحل الأطلسية. وكان ملك المغرب ورئيس نيجيريا وقعا في 2016 على اتفاق لإقامة هذا المشروع، الذي تزداد أهميته، مع تعثُر إمدادات الغاز من روسيا إلى أوروبا الغربية، أو ربما توقفها تماما.
وفي خط مُواز أقامت الجزائر شراكة مع ليبيا في مجال الطاقة وهي تسعى لتوسعتها في المستقبل، خصوصا بعدما يعود إليها الاستقرار. وأكد وزير النفط والغاز الليبي محمد عون أن بلاده بحاجة إلى مزيد من إنتاج الغاز لتمويل الدولة وتشغيل محطات الكهرباء. وتتعاون الجزائر وليبيا في مجال إنتاج الغاز وتسويقه، إذ استكملت «الشركة الجزائرية لإنتاج الكهرباء» (سونالغاز) منذ أكثر من سنتين بناء محطة لتوليد الكهرباء بطاقة 160 ميغاوات بطرابلس. كما تمكنت فرق الشركة الجزائرية من إعادة تشغيل محطة مدينة الخمس بطاقة 260 ميغاويت. وفي السياق حصل الوفد الإيطالي على صفقة لإنجاز مشروع ظل مُجمدا منذ العام 2013 ويتمثل في إنشاء محطة للتخلص الآمن من النفايات الطبية، طبقا للمواصفات العالمية. وستنفذ المشروع شركة «بروغراما بينتي» الإيطالية. وعن احتمال تصدير الغاز الليبي إلى إيطاليا، أكد الوزير عون أن ليبيا تصدر حوالي 300 مليون قدم مكعب من الغاز إلى إيطاليا يوميا، مشيرا إلى أن بلاده دعت بعض شركات النفط الروسية للعودة للعمل في عمليات الاستكشاف في ليبيا.

انتخابات حرة وشفافة؟

وتتفق روما مع كل من الجزائر وتركيا وتونس على أن إحلال الاستقرار في ليبيا يمرُ عبر عملية انتخابية توافقية بين جميع المكونات الليبية، حسب ما قال وزير الخارجية تاياني، في جلسة مساءلة بمجلس النواب الإيطالي قبل أيام. ورافق تاياني رئيسة الحكومة في زيارتها لليبيا أمس، ضمن وفد رفيع المستوى ضم أيضا وزير الداخلية الإيطالي. ويقول الإيطاليون إن هدفهم هو المساعدة على إجراء انتخابات حرة وشفافة في ليبيا، قبل نهاية 2023 تماشيا مع وساطة الأمم المتحدة، مؤكدين أن هذا الهدف يقع في صميم محادثاتهم مع جميع الجهات الفاعلة، التي لها تأثير في الوضع الليبي.
وبعدما نادت ميلوني، أثناء حملتها الانتخابية، إلى فرض حصار بحري على السواحل الليبية، لمنع انطلاق قوارب المهاجرين منها، عدلت أخيرا من شعاراتها القُصووية، وباتت تُسوق لخطة بديلة، هي «خطة ماتي» على اسم أنريكو ماتي مؤسس مجموعة الطاقة «إيني» الذي كسر سيطرة المجموعات الطاقية الغربية السبع الكبرى على القطاع. ويعتقد الإيطاليون أن تحقيق الاستقرار في ليبيا يشكل عنصرا حاسما في السيطرة على موجات الهجرة غير النظامية والتصدي للتهديد الإرهابي، الذي ينطلق من منطقة الساحل الأفريقي باتجاه حوض المتوسط، وصولا إلى سواحل أوروبا الجنوبية.
ولا يُخفي الإيطاليون كونهم يضغطون، مع الجزائر وتركيا، على رجال السياسة والقيادات العسكرية في ليبيا، لدفعهم إلى الاتفاق على روزنامة للحل السياسي، يتحدد من خلالها تاريخ إجراء انتخابات ذات مصداقية، من شأنها إضفاء الشرعية على القادة السياسيين. ويأمل الإيطاليون وكثير من الدول الغربية أن يؤدي إطلاق المسار السياسي، وتحقيق السلم الأهلي، إلى القضاء على ما يعتبرونه «نقطة سوداء» في إشارة إلى السواحل الليبية. وأظهرت إحصاءات عرضها رئيس القيادة العامة لسلطات الموانئ الإيطالية جيوزيبي أوليشينو، في إحاطة أمام لجنة الشؤون الدستورية والنقل في البرلمان الإيطالي، أن غالبية المهاجرين غير النظاميين في المتوسط أتوا من ليبيا وبزيادة قُدرت بـ70 في المئة السنة الماضية، أي بواقع 53 ألف مهاجر غير قانوني. وشهدت إيطاليا بحسب أوليشينو وصول 105 آلاف مهاجر غير قانوني في العام الماضي، عن طريق البحر، ما يعني زيادة بمعدل 56 في المئة قياسا على العام 2021.
ويُركز الايطاليون على أهمية دور حُراس السواحل المحليين في اعتراض مراكب المهاجرين، وخاصة على محوري التدفقات، وهما منطقة طرابلس التي يقولون إن 33 ألفا انطلقوا من سواحلها، وإقليم برقة (شمال شرق) التي كانت منطلقا لـ20 ألف رحلة غير قانونية، بينما بلغ عدد الغرقى 1373. وأثارت هذه الأرقام جدلا بين الأحزاب اليمينية واليسارية في البرلمان الإيطالي، إذ أكد نائب زعيم الحزب الديمقراطي (يسار) والنائب البرلماني جوزيبي بروفينزانو، أن النتيجة الوحيدة لتنفيذ «مرسوم ماتي» هي القضاء على نشاط سفن الإغاثة التابعة للمنظمات غير الحكومية، واصفا إياه بـ«مرسوم إغراق السفن».
على أن ميلوني وصلت إلى طرابلس والعلاقات بين صُناع القرار الليبيين في أسفل درجاتها، بعدما تنصل عقيلة صالح من الاتفاق الذي توصل له مع رئيس مجلس الدولة خالد المشري في القاهرة، في أعقاب أكثر من عشرة اجتماعات، في إطار إعداد مرجعية دستورية للانتخابات. وأعاد ذلك الموقف المسار السياسي إلى نقطة الصفر، خاصة أن مصر، التي تابعت الاجتماعات منذ البدء، وبحضور رئيس المخابرات عباس كامل، لم تُعلق على تراجع صالح. والأرجح أن أمريكا والدول الأوروبية المتداخلة في الملف الليبي، قلقة من انهيار التفاهم بين رئيسي مجلس الدولة ومجلس النواب، وهي تنتقد أيضا القاهرة لميوعة مواقفها وقلة حماستها لإجراء انتخابات عامة ذات مصداقية وخاضعة لرقابة المجتمع الدولي. والأرجح أن مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون المنظمات الدولية ميشال سيسون، التي زارت الجزائر واستقبلها تبون، قد تكون بحثت الملف الليبي مع الرئيس الجزائري. وقد تكون سيسون طلبت من تبون دعم الجزائر لتسمية الدبلوماسي الأمريكي كينيث غلوك، في المرتبة الثانية، مساعدا لرئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا السنيغالي عبد الله باثيلي. ويدل هذا المسعى، إذا صح، على رغبة أمريكا بمتابعة تفاعلات الأزمة الليبية عن كثب، وهو الدور الذي كانت تقوم به ستيفاني وليامز المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة.