ليبيا اليوم.. صورة تختزل المآل الدرامي لحكم متقلب أضعف مؤسسات الدولة ووأد المجتمع المدني
ليبيا اليوم.. صورة تختزل المآل الدرامي لحكم متقلب أضعف مؤسسات الدولة ووأد المجتمع المدني

استحضر الليبيون يوم 20 أكتوبر 2015، الذكرى الرابعة لمقتل العقيد معمر القذافي على يد مجموعة من الميليشيات، مدعومة عسكريا من حلف شمال الأطلسي. لكن وخلافا للسنوات الثلاث السابقة بدت الخيبة الأمل مسيطرة على أغلب الليبيين نتيجة انهيار الوضع الأمني والسياسي في البلاد، واستمرار الاقتتال بما انعكس سلبا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ودمر البنية التحتية المتردية للبلاد، وحول ليبيا إلى مركز رئيسي للتنظيمات الجهادية.

العرب  [نُشر في 21/10/2015، العدد: 10073، ص(7)]

 الجداريات التي تسخر من معمر القذافي في شوارع المدن الليبية ليست كل ما تبقى من ذكرى “العقيد”؛ فإرث النظام السابق، الذي سقط قبل أربع سنوات في انتفاضة شعبية، لا يزال يخيم على ليبيا التي فشلت حتى الآن في استبدال نظام حكم الفرد والعائلة بدولة مؤسسات فعالة.

ويرجع مايكل نايبي أوسكوي، الخبير في شؤون الشرق الأوسط في مؤسسة ستراتفور الاستشارية الأمنية الأميركية، فشل الدولة الليبية في استئناف مسارها بشكل طبيعي، بعد انهيار النظام، ودخول البلاد في متاهة الفوضى وعدم الاستقرار والحرب الأهلية، إلى البنية التحتية لنظام الحكم التي رسّخها القذافي على مدى سنين حكمه الطويلة.

اختار القذافي، وفق أوسكوي، أن يبني دولة تتمحور حول شخصه، ثم استخدم العامل العسكري معتمدا على عائدات النفط لقمع أي معارضة، عوض أن يبني دولة مؤسسات يمكن أن تستمر في غيابه؛ وبالتالي لم تكن هناك دولة مؤسسات في ليبيا، الأمر الذي دفع نحو السقوط في الفوضى عقب الإطاحة بنظام.

ويتوقّع الباحث الأميركي أن تتواصل تبعات سياسات الدولة المفككة التي أوجدها القذافي لعقود؛ فليبيا اليوم تعج بالميليشيات والإرهابيين ويعصف بها القتال والفلتان الأمني الذي ضاعف منه تنازع حكومتين وبرلمانين على إدارتها.

ولقي العقيد الليبي حتفه في 20 أكتوبر 2011، على يد مجموعة مسلحة في مدينة سرت، مسقط رأسه، بعدما حكم البلاد منذ كان في السابعة والعشرين من عمره، إثر انقلاب عسكري. ودام حكمه لأكثر من أربعة عقود. ومنذ مقتله، تشهد ليبيا فوضى أمنية وسياسية واقتصادية، إذ لم تستطع الحكومات المتعاقبة منذ الإعلان عن “التحرير الكامل” من نظام القذافي في 23 أكتوبر 2011، ترسيخ حكم ديمقراطي بمؤسسات فعالة، وهي عناوين نادت بها ثورة 17 فبراير 2011.

ومنذ أكثر من سنة، تتقاسم الحكم في البلد المطل على البحر المتوسط والغني بالنفط والغاز، سلطتان، واحدة يعترف بها المجتمع الدولي مستقرة في طبرق، شرق البلاد، وأخرى لا تحظى بالاعتراف وتسيطر على معظم مدن غرب ليبيا، وبينها العاصمة طرابلس، بمساندة ميليشيات فجر ليبيا. ولم تؤت الجهود التي تقوم بها الأمم المتحدة لتشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع الطرفين ثمارها حتى الآن.

نظريا، كان نظام القذافي في “الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى” يقوم على “حكم الشعب”، أي ممارسة السلطة من خلال مؤتمرات شعبية تضم ممثلين عن كل المناطق؛ إلا أنه في الواقع، كان يختصر في الزعيم الليبي الذي أطلق على نفسه لقب “ملك ملوك أفريقيا” وحكم بمزاجيته أكثر منه وفق قوانين “الكتاب الأخضر” الذي وضعه بنفسه.

ورغم ذلك، فرض القذافي على أرض الواقع استقرارا أمنيا لم تنعم به ليبيا منذ نهاية 2011، بعدما فشلت السلطات الجديدة في نزع أسلحة الجماعات التي قاتلت النظام السابق والتي باتت تتقاتل في ما بينها اليوم. كما لم تنجح في وضع دستور جديد للبلاد التي لا تزال تستند إلى إعلان دستوري مؤقت صدر في العام 2011.

هذا الوضع يعني، وفق نايبي أوسكوي أنه “سيمر وقت طويل قبل أن تترسخ في ليبيا هوية وطنية موحدة ويعود إليها الاستقرار الأمني الذي كانت تتمتع به خلال فترة حكم القذافي”؛ وهو ما يؤكّده مسؤول حكومي في طرابلس، رفض الكشف عن اسمه، حين قال “نعمل منذ نهاية 2011 على التخلص من التركة الثقيلة التي خلفها الدكتاتور. لقد أفسد كل شيء، من السياسة إلى الاقتصاد إلى المجتمع، وحتى الرياضة”. ويتابع المسؤول الحكومي “سيظل حاضرا بيننا حتى نقضي على تبعات أربعين سنة من الفوضى. أتمنى ألا نحتاج إلى أربعين سنة أخرى لتخطي هذه التبعات”.

وتدهورت جودة الحياة في ليبيا بشكل حاد نظرا لتهاوي الاقتصاد الحر. والسبب الأساسي لذلك هو تراجع إنتاج البلاد من النفط، الذي يعتبر شريان الحياة بالنسبة لها، حيث جعل القذافي من النفط المحرك الأوحد للاقتصاد ولعائدات الدولة. واليوم، يدفع استمرار النزاع الاقتصاد نحو “الانهيار التام”، بحسب ما يحذر مسؤولون ليبيون، بعدما انخفضت صادرات النفط، المصدر الوحيد للإيرادات في فترة ما بعد القذافي أيضا، إلى نحو 400 ألف برميل يوما، أي أكثر من النصف.

ويقول نايبي أوسكوي إن اسم القذافي سيبقى عنوانا رئيسيا، خصوصا مع محاكمة رموز نظامه وأفراد عائلته، وعودة حوادث معينة إلى الواجهة، مثل تفجير لوكربي الذي أعيد الأسبوع الماضي تسليط الضوء عليه بعدما أعلنت النيابة العامة في اسكتلندا تحديد هوية ليبيين جديدين يشتبه بتورطهما في التفجير.

ويعتقد أن أحد المشتبه بهما، في قضية تفجير طائرة بان أميركان فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية في العام 1988 الذي راح ضحيته 270 شخصا، هو عبدالله السنوسي، رئيس المخابرات الليبية في عهد القذافي والذي حكم عليه بالإعدام في نهاية يوليو الماضي إلى جانب شخصيات أخرى من رموز النظام السابق، بينها نجل القذافي، سيف الإسلام، بتهمة المشاركة في قتل متظاهرين.

بعد رحيله وسقوط نظامه، لا يزال اسم القذافي يرتبط بكثير من القضايا، حيث يتهم نظامه بأنه شرع الأبواب أمام الهجرة غير الشرعية إلى السواحل الأوروبية التي لا تبعد سوى بضع مئات من الكيلومترات عن الساحل الليبي.

وتتطلع الدول الغربية والاتحاد الأوروبي خصوصا إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية في ليبيا ترسخ لقيام دولة مؤسسات قادرة على مكافحة الهجرة غير الشرعية ومحاربة الجماعات المتطرفة التي وجدت في الفوضى الليبية موطئ قدم لها، ومن بينها تنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر منذ أشهر على سرت (450 كلم غرب طرابلس).

ورغم أن القذافي دعم جماعات مصنفة على قائمة الإرهاب في العقود الماضية، إلا أن الزعيم الليبي تحالف مع الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب العالمي حتى قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد فعل ذلك لأنه واجه تهديدا محليا من الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة المرتبطة بالقاعدة.وتفاقمت مشكلة الإرهاب بعد تسرب الأسلحة من ترسانة القذافي إلى الإسلاميين المتطرفين عبر شمال أفريقيا والشرق الأوسط. حيث حصلت جماعة بوكو حرام على بعضها، وتم العثور على العشرات من الأسلحة الأخرى في الجزائر ومصر. ووصلت بعض الصواريخ الليبية إلى قطاع غزة عبر مصر.

رغم قسوة حكم القذافي والمرارة من عدم تطور البلاد في عهده رغم إمكاناتها الهائلة، فإن كثيرا من الليبيين الآن يتوق إلى الأمن والسكينة التي رافقت هذه الحقبة، ويخشون من تحول بلدهم إلى السيناريو الصومالي أو العراقي أو الأفغاني. فبعد مرور أربع سنوات على سقوط القذافي ونظامه، لا تزال ليبيا تدور في حلقة مفرغة من الفوضى والاقتتال والتناحر السياسي والتنافس المحموم على السلطة والثروة، فيما تحذّر تقارير المنظمات الإنسانية من تفاقم الأزمات المعيشية لليبيين بسبب الاضطرابات الأمنية التي بددت الآمال الكبيرة في الحرية والاستقرار والرفاهية في حضور للفوضى والصراعات المسلحة العنيفة متعددة الأطراف والأجندات والولاءات. ليتأكد بعد أربع سنوات من انهيار النظام أن ليبيا لم تفشل فقط في التحول إلى بلد ديمقراطي، بل أصبحت تجسد فشل الدولة.

تعليقات