ImageProxy (5)

لأن تسوية الأزمة الليبية باتت مطلبـــاً عاجلاً للقوى الإقليمية والدولية المعنية بالحرب على الإرهـــاب، سيكون اجتماع روما اليـــوم الاحد حاسماً في تنفيذ خريطة طريق تعتمد على مُسوَدة الصخيرات. وكان واضحاً من تصريحات الموفد الأممي الخاص إلى ليبيا كوبلر أن الأطراف الدولية والإقليمية، التي ستحضر اجتماع اليوم في أعلى مستوى، عازمة على فرض حل توافقــــي على الأطراف الليبية مخافة انتقـــال البلد إلى بؤرة صراع جديدة أســوة بسورية والعراق. والأرجح أن الحكومة التوافقية، التي ستُشكل بناء على قاعدة وحيدة هي «وثيقة الصخيــرات»، ستحظى بدعم قوي من الدول الكبرى التي تسعى إلى القضاء على «داعش» في الضفة الجـــنوبية للمتوسط، لكنها تتهيب من مُضاعفات تدخل عسكري مباشر في ليبيا غير مضمون الخواتم. وتزايدت المخاوف الغربية من التدخل في ليبيا منذ مقتل السفير الأميركي الأسبق كريستوفر ستيفنس في بنغازي في أيلول (سبتمبر) 2012.

ويمكـــن القول إن جــــولات الحــوار الليبي الليبي، التي استمرت علـــــى مدى سنـــــة في غدامس والرباط وجنيـــف وبرلين والجزائر، هـــي التي أنضــجت الظروف للوصول إلى  حل توافقـــي بين الجسمين الرئيسين: البرلمان المُعترف به دولياً (مقره في طُبرق) والمؤتمر الوطني العام المُنتهية ولايتُه (طرابلس)، وإن ظل المتشددون في الجانبين يدقون طبول الحرب إلى اليوم.

لماذا الحل السياسي الآن؟ ثلاثةُ عناصر جديدة شكلت المُتغيرات التي هيأت المناخ لاجتراح خريطة الصخيرات، وإن مع بعض التعديلات، أولها الحرب الدولية الشاملة على «داعش»، بخاصة بعد هجمات باريس، وبالأخص بعد محاولات التنظيم التمدد من مدينة سرت، معقله الأساسي في ليبيا، إلى أجدابيا المُطلة على الحوض النفطي الرئيس في شرق البلد. وفي معلومات دوائر غربية أن التنظيم يسعى إلى الاستيلاء على بعض الحقول لتصدير النفط عبر المناطق الساحلية التي يُسيطر عليها، بعد تقلص موارده في سورية. أكثر من ذلك، يتخوف الغربيون من احتمال انتقال قيادات التنظيم من «عاصمة الخلافة» في الرقة إلى سرت في حال تضييق الخناق عليها، وهو احتمال غير مؤكد.

والمُتغير الثاني هو تفكك الدولة الليبية وضجر الناس من تحكم الميليشيات بالمدن والأحياء، مع نفاد صبرهم من الحوارات البيزنطية بين وفدي «البرلمان» و»المؤتمر»، بينما البلد سائرٌ بخطى حثيثة نحو الصوملة. أما المُتغير الثالث فهو العجز غير المسبوق في الموازنة بسبب تراجع إيرادات النفط (95 في المئة من دخل البلد) وانهيار قيمة العملة (الدينار)، ما أدى إلى تأخير صرف رواتب الموظفين، علماَ أن 80 في المئة من الليبيين يعملون لدى الدولة.

ثلاثة تحديات

شكلت سيطرة «داعش» على مدينة سرت (مسقط رأس معمر القذافي) بعد تحالفه مع بقايا النظام السابق ومُنشقين عن تنظيم «أنصار الشريعة» المُوالي لـ «القاعدة»، نقلة نوعية في المسار الليبي بعد انتفاضة 17 شباط ( فبراير) 2011. وحاول التنظيم السيطرة على درنة وأحياء من بنغازي إلا أنه أخفق. وقدّر وزير الخارجية الليبي محمد الدايري عدد عناصر التنظيم في ليبيا بما بين أربعة وخمسة آلاف عنصر مُسلح نصفهم في سرت. وتتكون غالبية العناصر الداعشية من تونسيين وسودانيين ويمنيين، علماً أن قيادة التنظيم باتت تحض المُنتسبين الجدد على التوجه إلى ليبيا بدل سورية، وفق الدايري، منذ انطلاق الضربات الجوية الروسية. وهذا ما يُثير مخاوف واسعة لدى الغربيين ما حملهم على وضع خطط لضرب معاقل التنظيم في سرت. غير أنهم يُدركون أنه من دون قوة ليبية على الأرض لا يمكن كسب المعركة ضده.

بهذا المعنى سيكون التحدي الأول أمام الحكومة الليبية التوافقية بناء جيش وطني، بمساعدة الدول العربية والغربية، لإخضاع الميليشيات تدريجاً لسلطة الدولة ومصادرة الأسلحة المنتشرة في كل المناطق. هذا الاستحقاق ليس سهلاً لأن أمراء الحرب وقادة شبكات التهريب، من ذوي المصالح المتداخلة، سيعملون على كسر هيبة الدولة الوليدة وضرب رجالها للحفاظ على مصالحهم وسط «الفوضى الخلاّقة». وما يُعزز هذه المخاوف أن كلّ المحاولات التي بذلتها الحكومات السابقة لتدريب مُجنّدين جُدد في دول عربية وأوروبية، باءت بالفشل، لأن أولئك المُتدرّبين يختفون في غابة الميليشيات أو يعودون إلى قبائلهم ومدنهم الأصلية بعد نهاية فترة التأهيل في الخارج.

والتحدي السياسي الذي ستُواجهُه حكومة التوافق يتمثل في حصولها على دعم مزدوج جغرافي وسياسي، أي من المناطق الثلاث: الغرب (طرابلس) وبرقة (بنغازي) وفزان (سبها)، وكذلك من غالبية أعضاء البرلمان (المُؤيد لعملية «الكرامة») والمؤتمر (المُساند لجماعة «فجر ليبيا»). غير أن هذا التأييد ليس مضموناً، خصوصاً أن مصير الجنرال المُثير للجدل خليفة حفتر لم يُبت في جولات الحوار في الصخيرات. ويُعتبر حفتر صاعقاً من الصواعق التي تُهدد بتفجير أي اتفاق سياسي بين الفرقاء، كونه ليس قائداً عسكرياً يحظى بالقبول بحُكم مسيرته المتقلبة وانحيازه المُفرط إلى أحد المُعسكرين. كما أن التشكيلة القيادية ستثير جدلاً في شأن عدد نواب رئيس الحكومة، مع ما يطرحُه ذلك من تجاذبات مناطقية وحزبية وشخصية. ويجدر التذكير هنا بأن رافضي الحلول التوافقية سيكونون عُرضة لعقوبات دولية طبقاً لتحذيرات صادرة من الأمم المتحدة تشمل حظر السفر وتجميد الحسابات المصرفية، إلى جانب إجراءات أخرى. كذلك سيتعين على الطاقم الجديد إيجاد صيغة لبتّ الخلاف بين أعضاء اللجنة التأسيسية التي عملت منذ نحو سنتين على وضع مشروع دستور جديد لليبيا، والتي لم تتوصل إلى وثيقة مُوحدة، إلى جانب تشكيل اللجنة الانتخابية التي ستسهر على تنظيم انتخابات برلمانية في غضون سنة أو سنتين.

توقع موجة تضخمية

أما التحدي الثالث الذي ستُواجهُه حكومة التوافق فاقتصاديٌّ، إذ تراجع منتوج البلد من النفط     من 1.6 مليون برميل في اليوم قبل الثورة إلى 350 ألف برميل حالياً، كما خسرت ليبيا ثلث عائداتها في عام واحد (2013-2014). ويُرجحُ الخبراء أن يرتفع العجز في موازنة الدولة خلال العام المقبل إلى 20 بليون دينار (15.3 بليون دولار) وأن يصل عجز ميزان المدفوعات في أواخر 2015 إلى نحو 25 بليون دولار. وسيُؤدي هذا العجز إلى موجة تضخمية لأسعار السلع والخدمات وتدهور في مستوى معيشة المواطنين. كما أن تسديد العجز سيُرهق في المستقبل كاهل مصرف ليبيا المركزي ويُضعضع احتياطه من النقد الأجنبي.

الأخطر من ذلك أن الحوض النفطي في شرق ليبيا مازال في قبضة قائد حُراس الحقول النفطية ابراهيم الجضران، وهو لا يعترف بسلطة البرلمان ولا بسلطة المؤتمر الوطني العام. وفي ظل هبوط أسعار النفط باتت حكومتا طرابلس وطبرق تعانيان من اختناق شديد، ما حمل «المؤسسة الوطنية للنفط»، التي بقيت على الحياد بين الطرفين المتناحرين، على    التعاقد مع شركة «فيتول» لتزويد ليبيا بالوقود، لأن مصافي النفط مُعطلة. من هنا ستكون المهمة المُلحة للحكومة المقبلة هي معاودة فتح ميناءي السّدرة وراس لانوف (شرق)، المُقفلين منذ كانون الأول 2014، وهما أكبر موانئ النفط في البلد، علماً أن ليبيا تملك عاشر احتياط مؤكد من النفط في العالم بينما حكومتاها مُفلستان.

والأرجح في ضوء تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، الذي أكد أن «ليبيا ستكون بلا ريب الملف الأكبر للأشهر المقبلة»، أن الغرب سيولي اهتماماً خاصاً لهذا الملف، وسيضع ثقله في الميزان لدفع الأطراف المتناحرة إلى إعادة الاستقرار للبلد، في إطار الحملة الدولية على الإرهاب من ناحية، ومعالجة ملف الهجرة غير النظامية عبر المتوسط من ناحية ثانية. وما يُعزز هذه الفرضية أن دول الجوار أيضاً متأذية من غياب الدولة في ليبيا، ما حملها على إقفال الحدود معها وإرسال قوات عسكرية كبيرة إلى المناطق الحدودية المشتركة.

وتُقدر تقارير تحظى بالصدقية أن ثلاثة ملايين شخص تأثروا سلباً نتيجة استمرار النزاع وعدم الاستقرار في ليبيا. لكن هل سيترك أمراء الميليشيات قطار الحل ينطلق، وهو الذي يُمهد لتقويض نفوذهم ومصالحهم، أم يُفجروا الأوضاع عسكرياً مثلما فعلوا في المرات السابقة؟ الأرجح أن البوارج والفرقاطات المُنتشرة في المياه الدولية قبالة سواحل ليبيا ستتدخل هذه المرة مثلما صرح بذلك وزير الخارجية الإيطالي باولو جنتيلوني منذ نيسان (أبريل) الماضي، ودعمت تصريحاته زميلته وزيرة الدفاع، فضلاً عن العقوبات التي لوّحت بها الأمم المتحدة في وجوه أمراء الحرب الذين سيُعرقلون الحل السياسي للأزمة الليبية.

* مدير المركز المغاربي للأبحاث حول ليبيا  

www.newlibya.net

 

تعليقات