libyan-affairs-test-2

 

تداولت على ليبيا عشر حكومات منذ سقوط النظام السابق، لم يزد عمر بعضها عن بضعة أيام، وقد عصفت بها الخلافات السياسية والمناطقية، بما فيها الحكومة الأخيرة المنبثقة من توافق استدعى أشهرا طويلة من الاجتماعات والتنازلات المتبادلة. ومع مرور سنة على التوصل إلى ذاك الاتفاق، المعروف بـ”اتفاق الصخيرات”، يبدو المشهد مُحبطا ومُربكا ليس فقط للسياسيين الذين كانوا منخرطين في ذلك المسار، وإنما يُقرأ الاحباط والغضب أيضا في عيون المواطنين الليبيين شرقا وغربا وجنوبا، الذين باتوا كارهين للسياسة والسياسيين.

على الأرض تقف قوتان متواجهتان هما “البنيان المرصوص”، الذي خرج مُنهكا من معركة سرت، بعد الخسائر البشرية الباهظة التي تكبدها، و”الجيش الوطني” المستقوي بسيطرته على منطقة الهلال النفطي. ومع تعدُد التوقعات المتشائمة في شأن احتمال اندلاع احتكاكات بين الجانبين، أصبح منعُ ذلك السيناريو الأسوأ أولوية لدى جميع الليبيين العقلاء.

لكن حتى إن توفقت ليبيا في تفادي السيناريو المطبق في سوريا، فالمشكل الأصلي يظل قائما، بل وحارقا كل يوم أكثر فأكثر، في ظل دولة مفككة إن لم نقل منهارة، واقتصاد مشلول وسيولة مفقودة وسيطرة شبه مطلقة للميليشيات وأمرائها المرتبطين بأجندات خارجية. وما لم يتم توحيد الجيش في الشرق والغرب في مؤسسة واحدة ذات عقيدة وطنية جمهورية، ستبقى أية حكومة وفاقية بلا أظافر ولا هيبة، وهذا يعني بقاء البلد في قبضة الجماعات المسلحة، بما في ذلك العاصمة.

ويعلم الليبيون علم اليقين أن الأطراف الدولية التي تُعلن في بيانات إعلامية مُنمقة أنها تقف مع إرادة الشعب ومع وحدة ليبيا، إنما هي تدعم على الأرض هذا الفريق أو ذاك وتُغذي الحرب الأهلية بشتى أنواع الأسلحة، بالرغم من استمرار الحظر الدولي، بل بحضورها العسكري المباشر على الأراضي الليبية. بهذا المعنى انتقلت الأزمة الليبية من صراع داخلي حول المشروع الأمثل للبلد في أعقاب إسقاط النظام السابق، إلى ساحة للصراع الدولي والاقليمي بأدوات محلية. ولبُ هذا الصراع يكمن في التنافس على ثروات البلد وعلى موقعه المفتاحي بين جنوب أوروبا والقارة الأفريقية، وكذلك بين المشرق والمغرب العربيين.

لذا فلا خلاص لليبيا طالما ظل ولاءُ بعض سياسييها وبعض رؤساء قبائلها إلى القوى الخارجية، لا سيما أن رهطا من هؤلاء يرفضون الجلوس إلى مائدة واحدة مع أبناء وطنهم، ولا يرون غضاضة في التعامل مع الأجنبي. والخلاص يبدأ من إدخال بعض التعديلات على اتفاق الصخيرات في ضوء الثغرات التي برزت خلال السنة التي مضت على إمضائه، وتعديل تشكيلة المجلس الرئاسي والحكومة وفقا للمنهج نفسه، من أجل الانتقال إلى بناء مؤسسات الدولة العتيدة، ولاسيما إقامة مؤسسة عسكرية وأخرى أمنية تتواءمان مع معايير نظام جمهوري ديمقراطي. وأساسُ ذلك هو البحث عن المربع المشترك الذي يُنقذ الوطن من التقسيم.

لم يعُد الوضع اليوم يحتمل تأجيل هذا المسار، فانهيار الصادرات من المحروقات، وهي مصدر الدخل الرئيسي للبلاد، والعجز الفادح للموازنة والتضخم وارتفاع نسبة الفقر وتدهور البنية التحتية كلها عناصر تفجير قد تقود إلى هبة اجتماعية لا تُبقي ولاتذر وفي توقيت غير مُتوقع. لقد انتهى زمن الحلول الجزئية والمؤقتة ودقت ساعة الحساب، خاصة أن التنظيمات الارهابية التي تنتعش في مناخ آسن كهذا، لم تقل كلمتها الأخيرة، وهي تُخطط بلا ريب للثأر من هزيمتها في سرت، بفتح جبهات جديدة حيث لا نتوقع. فيا أيها الليبيون لا تتركوا بلدكم يتدحرج نحو الجحيم السوري.

رشيد خشانة

*افتتاحية العدد الثالث من مجلة “شؤون ليبية”

تعليقات