حددت لجنة المصالحة بين مدينتي مصراتة وتاورغاء يوم الخميس المقبل للإعلان رسميا من داخل تاورغاء عن عودة المُهجَرين إليها، في حضور جهات رسمية وغير رسمية عدة تحت شعار “من دخل تاورغاء فهو آمنٌ”. ويشكل الاتفاق بداية لعودة 330 ألف مُهجر ليبي اضطروا لمغادرة بيوتهم ومدنهم بسبب الحرب الأهلية.

أطلق إخلاء سبيل سيف الاسلام القذافي تكهنات شتى بكون الإفراج عنه مقدمة لعودته إلى المسرح السياسي، وفي بعض التحاليل الوردية، هي تحضيرٌ لدور قيادي في المصالحة بين الليبيين في الفترة المقبلة. لم تُطلق “كتيبة أبو بكر الصديق”، وهي إحدى ميليشيات الزنتان (غرب) سيف الاسلام إلا بعدما تراجع نفوذها وارتخت قبضتها، وهي التي كانت تسيطر على مطار طرابلس الدولي. ولا يمكن في هذا الوضع أن تُفرط في أهم ورقة بين يديها إلا إذا كان هناك مقابلٌ مُجز. ويبدو أن أنصار النظام السابق دفعوا هذا المقابل. غير أن الخروج من “السجن” لا يعني أن سيف الاسلام سيغادر الزنتان إلى منطقة أخرى، فالخيارات المتاحة أمامه محدودة، وتنحصر بثلاثة: أولها اللجوء إلى مدينة البيضاء (شرق) لدى أخواله من قبيلة البراعصة، أو مدينة بني وليد (وسط) حيث الحاضنة القبلية التي وقفت في صف النظام السابق أيام انتفاضة 17 فبراير/شباط 2011، والخيار الثالث هو الاقامة في مصر أسوة بكثير من رموز العهد السابق، ومن ضمنهم حليفه وقريبه أحمد قذاف الدم. غير أن هذه الاحتمالات تفترض في الأساس أن يُسمح له بمغادرة الزنتان، وهو أمرٌ غير مضمون بالمرة.

لذا فهذه الخيارات ليست سهلة، إذ أن كل خيار دونه عقبات موضوعية وموانع ذاتية، تبدأ من الزنتان نفسها، حيث يعارض وزير الدفاع السابق ورئيس المجلس العسكري بالزنتان حاليا أسامة الجويلي كتيبة “أبو بكر الصديق”. وكان المجلس الرئاسي في طرابلس سمى أخيرا الجويلي قائدا للمنطقة العسكرية الغربية. أما في الشرق فالمشير خليفة حفتر صاحب النفوذ الفعلي، لا يُطيق سماع اسم القذافي ولا أحد أبنائه. بالمقابل ينظر أنصار القذافي إلى حفتر باعتباره خائنا، على الرغم من الجهود التي بذلتها المخابرات المصرية لمحاولة التقريب بين قذاف الدم وحفتر.

أكثر من ذلك، يتطلب ترشيح أية شخصية سياسية للعب دور قيادي في المرحلة الانتقالية ألا تجرَ تلك الشخصية خلفها ما يجرُه نجل القذافي من أوزار ومواقف، لم يستطع محوها حتى اليوم، خصوصا خلال الانتفاضة، وبالأخص خطاب التهديد والوعيد للشعب الليبي الذي ألقاه من فوق ظهر دبابة في 20 فبراير/شباط، لما كانت المظاهرات مُقتصرة على بنغازي. من هنا لا يمكن توقع دينامية مصالحة محورها سيف الاسلام، على الرغم من الفراغ القيادي الراهن وتراجع حدة العداء للنظام السابق، وسط الفوضى السائدة منذ ثلاث سنوات.

في خط مواز لهذه الدينامية المُعطلة تتبلور منذ فترة دينامية أخرى يمكن وضعها تحت عنوان “المصالحة الاجتماعية”، وهي أتت استجابة لمعاناة قبائل ومناطق عدة أثناء انتفاضة 2011 وما بعدها. ويمكن اعتبار تهجير سكان مدينة تاورغاء من بيوتهم أكبر تجلياتها، وهي ليست الوحيدة في هذا المصير. وتاورغاء هي مدينة الأربعين ألف ساكن، التي اتهمتها جارتها مصراتة بالوقوف إلى جانب قوات القذافي أثناء انتفاضة 2011، مما جعلها تتعرض لعمليات انتقام جماعية وطرد وحرق للبيوت، أجبرت أهاليها على الهجرة. وتشكلت اعتبارا من مطلع يوليو/تموز 2015 لجنة لمتابعة ملف “المصالحة مصراتة-تاورغاء”، وكلف رسميا يوسف زرزاح (الذي قُتل شقيقه الوحيد في عمليات الانتقام) برئاسة اللجنة. وفي أول لقاء بعد سقوط النظام السابق، اجتمع وفدان واحدٌ عن مصراتة والثاني عن تاورغاء، في أحد المنازل بحي سوق الجمعة في طرابلس، واتفقوا على تنازلات متبادلة. مضى زرزاح في جولات مكوكية بين مدينته مصراتة وممثلي تاورغاء اللاجئين في تونس، واستطاع في ضوء الاعتراضات والملاحظات أن يُحقق الهدف، وهو التوقيع على مبادرة المصالحة، الذي تم في تونس، في أعقاب خمس سنوات من القطيعة بين سكان مدينتين جارتين.

عمليا حدد الاتفاق مبلغ ستة آلاف دينار (6000 دولار في ذلك الوقت) لكل أسرة متضررة بعنوان تعويض حتى تتمكن من إعادة إعمار بيتها المُهدم، كما مُنحت بيوت متنقلة مؤقتة لأصحاب البيوت التي أصيبت بأضرار كبيرة، ريثما يُعاد بناؤها. وفي الإطار نفسه تقرر إعادة إعمار جميع القرى والضواحي في محيط مصراتة وتعويض المتضررين، مع ترك المجال مفتوحا أمام من بالتقاضي أمام المحاكم. وبحكم موافقة العقلاء في الجانبين على روحية المصالحة صمد الاتفاق على الرغم من وجود أصوات مُعترضة. ووصف زرزاح هؤلاء المعترضين في تصريحات إعلامية بأنهم “من غير المتضررين من الحرب ضد القذافي”، وأنهم “يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي للتشكيك في صدقية المبادرة ويكيلون المعلومات المغلوطة عن فحوى الاتفاق”.

كان لافتا أن اللجنة حددت في الأخير يوم الخميس المقبل للإعلان رسميا من داخل المدينة عن عودة المُهجَرين إليها، في حضور جهات رسمية وغير رسمية عدة تحت شعار “من دخل تاورغاء فهو آمنٌ”. ودعت اللجنة المهجرين في الشتات إلى الاستعداد للعودة الطوعية، مع توجيه الدعوة أيضا إلى السلطات المحلية بتاورغاء ومجلسي الحكماء والشورى ومبادرة “من دخل تاورغاء فهو آمن” للمشاركة في إنجاح خطوات المصالحة.

وحظيت هذه الجهود بمؤازرة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا المعروفة باسم UNSMIL والمنظمات الدولية، ما يعني أن هذه الدينامية ستكون أحد عناوين المرحلة المقبلة في ليبيا. وقدم اليابانيون على سبيل المثال مساعدات بـ 679 ألف دولار للأسر الليبية التي هجرت بيوتها بسبب الصراعات المسلحة، بالاضافة لتخصيص 2.8 مليار دولار للفترة 2016-2018 وهو مبلغ يكفي لإعالة 1200 أسرة من المهجرين في الداخل لمدة سنة كاملة. ويُقدر عدد هؤلاء المُهجرين داخل بلدهم بأكثر من 313 ألف مهجر، يعيش معظمهم في أماكن غير صحية في محيط مدينتي طرابلس وبنغازي.

لا يقتصر النزوع إلى المصالحة على مصراتة وتاورغاء، إذ قطعت قبيلتا التبو والطوارق في جنوب ليبيا شوطا مهما في تكريس المصالحة بينهما بعد قتال مُدمر بين مسلحي الطرفين. ويقيم غالبية التبو في الكفرة، فيما يقيم الطوارق في أوباري (جنوب غرب ليبيا). وتوصل ممثلون للقبيلتين إلى اتفاق مصالحة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وسلموا مواقع متنازع عليها في أوباري إلى قوات الجيش النظامي وأخلوها من الأسلحة الثقيلة.

تحتاج هذه الدينامية المجتمعية والسياسية إلى دعم من دول الجوار المؤثرة في المشهد الليبي، ليس بالقصف الجوي والتزويد بالأسلحة، وإنما بإزالة العقبات النفسية وتهيئة المناخات لحوار ليبي ليبي أشمل، أسوة بما تحقق في ملفي تاورغاء-مصراتة والتبو-الطوارق. ويمكن للجزائريين والتونسيين أن يكونوا أكثر حضورا وحيوية في دفع الجهود الذاتية الليبية إلى الأمام، خصوصا أن أي تدهور للأوضاع هناك ينعكس سلبا في الوضع الأمني الدقيق للبلدين.

ومثلما بُنيت المصالحة في تاورغاء وأوباري على تنازلات متبادلة، كانت قاسية قطعا لمن فقد قريبا أو عزيزا أو جارا، فإن المصالحة الوطنية الأشمل تنبني أيضا على القبول بتنازلات متبادلة، درءا لانزلاق البلد نحو وضع الدولة الفاشلة، وهي فعلا على قاب قوسين منه.

تعليقات