تُؤكد مؤشرات عدة أن الأزمة الخليجية ستكون لها تداعيات سلبية على ليبيا، وأن بعض أطراف الأزمة سيصبُ الزيت على النار المشتعلة، أملا بإضعاف الخصم. والأرجح أن رفض الدوحة الخضوع لإملاءات المُحاصرين ستدفع هؤلاء إلى التصعيد على واجهات أخرى من بينها الساحة الليبية، لكن لا توجد حاليا دلائل على احتمال انزلاق ذلك التصعيد إلى درجة نشوب حرب بالوكالة في ليبيا.
من خلال ردود الأفعال على الأزمة المستفحلة بين قطر والدول الخليجية التي تُحاصرها، برزت أمارات على انحياز الغرماء الليبيين إلى هذا الطرف أو ذاك، إذ أيد قائد الجيش المعين من البرلمان المشير خليفة حفتر ورئيس البرلمان عقيلة صالح (مقره في طبرق) محور مصر والامارات والسعودية، فيما دعمت حكومة الوفاق الوطني من طرابلس برئاسة فايز السراج، ومعها جماعات إسلامية في الغرب الليبي، الموقف القطري إن مجاهرة أو مُداورة. ولهذه الثنائية امتداداتها الدولية، إذ تقف فرنسا وروسيا إلى جانب حفتر، بينما تقف إيطاليا وتركيا وبريطانيا في صف التيارات الاسلامية وحكومة الوفاق.
أيا كانت التداعيات العسكرية المُتوقعة في ليبيا، فالواضح أن الأزمة الخليجية قوضت ما تمت مراكمته من أحجار لبناء جدار المصالحة، الذي كان اجتماع القاهرة بين حفتر والسراج في فبراير الماضي لبنته الأولى. فقد وصل الاجتماع ما انفصل بين المعسكرين الكبيرين منذ أكثر من عام. والأهم من هذا البُعد الرمزي أنه وضع علامات على طريق إنهاء الحرب الأهلية تتمثل بالخطوات التالية:
* تشكيل لجنة مشتركة مختارة من أعضاء مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة بحد أقصى خمسة عشر عضواً عن كل مجلس، للنظر في القضايا التي سبق التوافق على تعديلها في الاتفاق السياسي.

* قيام مجلس النواب بإجراء التعديلات الدستورية اللازمة لتضمين الاتفاق السياسي في الإعلان الدستوري، مع معالجة كافة القضايا العالقة بصيغة توافقية شاملة. وهذا يعني ضمنا القبول باتفاق الصخيرات بوصفه مرجعية المصالحة، مع إقرار الطرف الثاني بضرورة إدخال بعض التعديلات عليه.
* العمل على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في موعد أقصاه فبراير/ شباط 2018، اتساقاً مع ما نص عليه الاتفاق السياسي الليبي.
* استمرار جميع شاغلي المناصب الرئيسية في ليبيا، والتي سيتم الاتفاق عليها وفقاً للإجراءات المشار إليها، في وظائفهم إلى حين انتهاء الفترة الانتقالية وتولي الرئيس والبرلمان الجديدين مهام عملهما في 2018.
هذه الخطة رُباعية الأضلاع كان يمكن أن تشكل منصة لإطلاق مبادرة مصالحة شاملة، تُتوج بانتخابات عامة، حتى لو أرجئ ميقاتها بضعة شهور، غير أن الإنعطاف الذي أبصرته الأزمة الخليجية ألقى ظلالا قاتمة على مستقبل العلاقات بين الفرقاء الليبيين، لارتباطهم جميعا بإمدادات السلاح والعتاد الآتية من الخليج، إما عبر الحدود المشتركة مع مصر شرقا، أو عبر السواحل الغربية، وخاصة ميناء مصراتة غربا. وبالنظر للتجييش المستمر في وسائل إعلام إماراتية ومصرية وسعودية ضد الفريق الليبي المختلف مع العواصم الثلاث، والذي وصل حدَ التحريض العلني للمشير حفتر على اقتحام طرابلس، لا يُستبعد أن يتجاوب الأخير معها.

ثمة مؤشرات تحملُ على ترجيح هذا الخيار بناء على معلومات أوردها فريق الخبراء الأممي المعني بليبيا في رسالة موجهة إلى رئيس مجلس الأمن في الأول من يونيو/ حزيران الجاري. وبحسب التقرير اشترت الإمارات مروحيات هجومية من طراز P Mi-24من بيلاروس في 2014 وحولتها إلى الجيش الوطني الليبي في 2015 من دون إذن بإعادة التصدير. كما أشار التقرير إلى إرسال أكثر من 195 شاحنة صغيرة من طراز “تويوتا لاند كروزر” من السعودية لتعزيز قوات حفتر، مع تثبيت رشاشات من عياري 12.7 و14.5 مليمتر على متنها. تُضاف إليها، طبقا للتقرير نفسه، 93 من ناقلات الجنود المدرعة و549 من المركبات المدرعة وغير المدرعة التي تم شحنها من ميناء جبل علي في الإمارات إلى طبرق، أي إلى جيش المشير حفتر. ومن المتوقع أن تلجأ جماعات الاسلام السياسي المناوئة لحفتر في كل من طرابلس ومصراتة إلى طلب المزيد من الأسلحة من تركيا وقطر لمحاولة إحداث التوازن مع الفريق المقابل.

اللافتُ أن عمليات التسلُح المكثفة في المنطقة الشرقية تجري وسط عسكرة للمدن والمناطق الواقعة تحت نفوذ حفتر، إذ عيَن مجلس النواب حاكما عسكريا على المنطقة الممتدة من درنة إلى بن جواد، ما أدى إلى حلول عسكريين محل رؤساء البلديات المدنيين، وهو إجراء غير دستوري، فضلا عن كونه يُعيد سكان المنطقة الشرقية إلى قبضة العسكر، بعدما تخلصوا منها إبان انتفاضة 17 فبراير/شباط 2011. كما أن جهاز “الأمن الداخلي” التابع لحفتر ذهب بعيدا في التضييق على المجتمع المدني وملاحقة النشطاء الحقوقيين والإعلاميين والسياسيين والزج بهم في المعتقلات. وفي سياق إحكام تلك القبضة اتخذ اللواء عبد الرزاق الناظوري رئيس أركان حفتر إجراءات للحد من الحريات العامة، من بينها منع المظاهرات في بنغازي من دون إذن منه، وتخويف عديد النشطاء وأعضاء مجلس النواب والعاملين في قطاعي القضاء والأمن في المنطقة الممتدة من طبرق إلى بن جواد من أجل تكميم أفواه المعارضة السياسية وكذلك منع النساء دون 60 سنة من السفر من دون مُحرم…

لابد من الإشارة في هذا السياق إلى الدور السعودي في دعم حفتر عبر “التيار المدخلي” (نسبة إلى الداعية السعودي ربيع المدخلي)، الذي بات لشيوخه تأثير واسع في شرق ليبيا، في المجتمع ومؤسسات الدولة على السواء، من خلال الفتاوى وتدريس المذهب الذي يُبررُ الوقوف إلى جانب الحاكم حتى لو كان جائرا، بدعوى درء الفتنة. وارتدى نشاط المدخليين بُعدا جديدا في الفترة الأخيرة بعدما بدأوا يحصلون على الأسلحة، ويُطورون قدراتهم على استخدامها، فيما كان نشاطهم “سلميا” في البدء. وتشتغل الشبكة المدخلية بآليات تُذكِر بدور اللجان الثورية على أيام معمر القذافي، إذ أنها تُصادر الكتب وتمنع الفعاليات السياسية والثقافية التي لا تتناسب مع رؤيتها المتشددة، وهي فرع من الفكر السلفي. وظل المدخليون طيلة الانتفاضة الليبية (2011) القوة الوحيدة المؤيدة لنظام القذافي. وهذا يدلُ على ضرورة عدم الاستهانة بدور التيار في تلغيم المجتمع الليبي وتعطيل نزوعه إلى إقامة نظام سياسي مدني ديموقراطي.

أخطر من كل ذلك هي المهلة التي حددها حفتر “لمن يتصدرون المشهد السياسي” بحسب عبارته، لحلحلة الأوضاع الأمنية والاقتصادية في غضون ستة ِشهور، وإلا فإن الجيش سيتدخل. وهذا تكريسٌ لرؤية حفتر القائمة على إخضاع المؤسسات السياسية لسُلطة العسكر وليس العكس. والأرجح أن هذا الإنذار مرتبط بالخطة التي أفصح عنها مساعدو حفتر للزحف نحو طرابلس، بعدما استقرت لهم الأوضاع نسبيا في محيط سبها (الجنوب). والفرضية الأكثر تداولا هي أن الغبار المتصاعد من الأزمة الخليجية قد يشكل غطاء مناسبا للمشير حفتر للزحف نحو طرابلس، وهو الهدف الذي طالما خطط له وسعى إليه، مؤكدا في تصريحات إعلامية مختلفة أن إعادة الأمن والاستقرار إلى ليبيا لا تتم إلا على أيدي حاكم عسكري قوي.

مع ذلك، لا توجد حاليا دلائل على احتمال انزلاق التصعيد بين المعسكرين المُتنابذين في ليبيا إلى صدام عسكري، يؤدي بدوره إلى نشوب حرب بالوكالة بين أطراف الأزمة الخليجية على أراضي ليبيا في المدى المنظور، وإن كان هذا السيناريو ليس مستبعدا تماما.

تعليقات