تقف البلدان المغاربية مُترددة ومُرتبكة في مفترق المشاريع الاقليمية المطروحة عليها، من جانب الاتحاد الأوروبي وأميركا والصين. ولم تستطع على مدى ربع قرن صوغ رؤية مشتركة تتعاطى من خلالها مع الشركاء الاستراتيجيين المؤثرين في واقع المنطقة ومستقبلها.

تتبوأ البلدان المغاربية موقعا مركزيا بين ثلاثة مجالات جغرافية هامة هي جنوب أوروبا وأفريقيا (منطقة الساحل) والشرق الأوسط، وهو ما يُفسر سعي القوى العظمى إلى إقامة علاقات اقتصادية متينة مع بلدان المنطقة، بوصفها جسرا بين المجالات الثلاثة، لكن أيضا بما هي سوق كبيرة قوامها أكثر من مئة مليون مستهلك.

“مسار برشلونة”

تاريخيا، انطلقت الشراكة الأولى مع الاتحاد الأوروبي في إطار ما سُمي “مسار برشلونة” في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، والذي أعقب التوقيع على اتفاقات التسوية بين كل من منظمة التحرير والأردن من جهة والدولة العبرية من جهة ثانية. ومع ضم تركيا واسرائيل إلى هذا المسار بات يجمع بلدان الاتحاد الثمانية والعشرين، إلى جانب ثمانية بلدان عربية هي المغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن وسورية ولبنان والسلطة الفلسطينية، فيما استبعد الأوروبيون ليبيا القذافي وأيدهم في ذلك بعض العرب. ورمى مشروع برشلونة، بحسب الخطاب الأوروبي، إلى إقامة منطقة سلام واستقرار وتعاون اقتصادي، وصولا إلى إنشاء منطقة تبادل حر أوروبية متوسطية في أفق 2010.

وتكريسا لهذا المشروع أطلق الأوروبيون مفاوضات مع بلدان الجنوب من أجل التوصل إلى اتفاقات شراكة تشمل المجال السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي (الهجرة). وكانت تونس أول بلد عربي وقع على مثل هذا الاتفاق. غير أن نسيجها الصناعي تأثر سلبا بفتح السوق المحلية، وإن على مراحل، في وجه المنتوجات الأوروبية، فانهار قطاع المنسوجات والملبوسات، وخاصة بعد غزو المنتوجات الصينية للأسواق المغاربية عبر شبكات التجارة الموازية. وسعى المغاربة إلى الاعتبار بأخطاء التوانسة لدى بدء المفاوضات مع الاتحاد، لكن الأضرار التي لحقت اقتصادهم لم تكن أهون.

بعد استكمال التفاوض والتوقيع على اتفاقات الشراكة، أطلق الاتحاد “سياسة الجوار الأوروبية” في 2002، وهي لا تخص الجيران المتوسطيين فقط وإنما كافة الجوار الأوروبي من الشرق (روسيا البيضاء وجورجيا وأوكرانيا ومولدافيا وأرمينيا وأذربيجان)، إلى البلدان العربية في جنوب المتوسط. واعتبارا من سنة 2003 وضع الاتحاد على ذمة تلك البلدان خطط عمل اقتصادية واجتماعية، إلى جانب إنشاء ذراع مالية لتمويل تلك الخطط هي “الجهاز الأوروبي للجوار”. وشملت خطط التعاون قطاعات جديدة مثل الشباب والطاقة والتجارة، فيما صار الأوروبيون مشغولين أكثر فأكثر بظاهرة الهجرة غير الشرعية والآليات التي يُمكن أن تحُد من حجمها.

عطلت الخلافات السياسية بين البلدان المغاربية فرص تكتيل الصفوف لمجابهة الأوروبيين بموقف موحد، فكانت الاجتماعات السنوية لما يُطلق عليه “مجلس الشراكة” تتم في صيغة 28+1 مع كل بلد على حدة، لا بل وتفاقمت الانقسامات إلى حد سيطرة ذهنية المنافسة والتنابذ بين البلدان العربية. إجمالا كان حصاد مسار برشلونة هزيلا، وهو ما يُفسر غياب الرؤساء العرب (عدا الرئيس الفلسطيني محمود عباس) عن القمة التي دعا لها الاتحاد الأوروبي في برشلونة لمناسبة الذكرى العاشرة لإطلاق المسار الذي يحمل اسم تلك المدينة.

مبادرة أميركية

مع تصاعد الخلافات بين أميركا والنظام الليبي السابق، وتوغل الجزائر في حرب أهلية طاحنة، راجعت واشنطن سياستها في المنطقة المغاربية، على أمل ألا يبقى الاتحاد الأوروبي الشريك الوحيد المُستأثر ببلدان جنوب المتوسط. وهناك من المحللين الأميركيين من يعتبر أن واشنطن لم تكن لها سياسة مغاربية أصلا إلى حدود 1998. وظهرت ملامح هذا التغيير من خلال مشروع شراكة اقليمية حملها مساعد وزير الخزانة الأميركي ستيوارت أيزنستات إلى كل من الرباط والجزائر وتونس، في حزيران /يونيو 1997، عارضا إلغاء الحدود الجمركية بين البلدان الثلاثة وإقامة منطقة تبادل حر أميركية مغاربية. وقال الأميركيون يومها إن المشروع يُشجع الشركات الأميركية الكبرى على الاستثمار في سوق قوامها 100 مليون مستهلك. واعتُبرت المبادرة التي باتت تُعرف باسم صاحبها أيزنستات، نقلة في السياسة المغاربية للولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن صاحب المبادرة وعد رجال الأعمال المحليين بالوصول ليس إلى السوق الأميركية وحسب، وإنما أيضا إلى أسواق مجموعة “ألينا” التي تضمُ، إلى أميركا، كندا والمكسيك، خشي المغاربيون من أن تسحقهم الشركات الأميركية العملاقة، فدُفنت المبادرة.

الزحف الصيني

منذ ستينات القرن الماضي دخل الصينيون إلى بلدان شمال أفريقيا عبر مساعدات تمثلت بإقامة سدود أو تعبيد طرقات ريفية أو إنشاء دور للثقافة، أو إرسال طواقم طبية لسد النقص في المستشفيات المحلية. وخلال السنوات الأخيرة تحولت الصين إلى مُقرض للحكومات ومستثمر في مشاريع تنموية مختلفة، ولا سيما في قطاع البناء والانشاءات. هكذا صارت الصين الشريك التجاري الأول للجزائر في السنوات الأخيرة، مُتقدمة على فرنسا طيلة السنوات الخمس الأخيرة. وبلغ حجم الصادرات الصينية إلى الجزائر في 2015 أكثر من 8 بلايين دولار. وتُنفذ شركات صينية مشاريع سكنية كبرى في الجزائر، وهي تعتمد على عمال صينيين، ما رفع عددهم في البلد إلى أكثر من خمسين ألفا. كما أن السلع الصينية الرخيصة تُغذي أسواق التهريب يوميا في كل من تونس وليبيا والجزائر، من دون أن تستطيع الحكومات المعنية ضربها أو حتى إضعافها.

وعلى عكس الأوروبيين والأميركيين لا يهتم الصينيون بالقضايا السياسية ولا بأوضاع حقوق الانسان ومدى التقدم في بناء الشفافية والحوكمة الرشيدة، لا بل هم يتضايقون منها. واليوم هم في سبيلهم إلى تبوُء المركز الأول بين الشركاء التجاريين للمغرب العربي، لاسيما أن المصانع الأوروبية نفسها انتقلت إلى الصين، أو صارت منتوجاتها أغلى من مثيلاتها الصينية. وأظهرت تجربة الصينيين في جيبوتي، حيث أقاموا أخيرا قاعدة عسكرية هي الأولى خارج الصين، أنهم يعتزمون تعزيزحضورهم العسكري في القارة الافريقية الغنية بالمواد الأولية. وهذا ما جعل رئيس البرلمان الأوروبي أنتونيو تاجاني يقول في تصريح أدلى به أخيرا إلى صحيفة “دي فليت” الألمانية إ”ن القارة الأفريقية، بوصفها أبرز شركاء بيجين الأورويين، قد تتحول اليوم إلى مستعمرة صينية”. وتنشط المؤسسات الصينية اساسا في أفريقيا، وقُدرت قيمة المبادلات بينها وبين البلدان الأفريقية بـ180 بليون دولار سنة 2015، وهي تزداد حجما من سنة إلى أخرى.

إجمالا لم تحصد الاقتصادات المغاربية من الشراكات الثلاث مكاسب تساعدها على الاندماج الاقليمي وتطوير بنيتها الزراعية والصناعية، وظلت تردُ الفعل على المشاريع المعروضة عليها، من دون تقديم رؤية للمستقبل خاصة بها. ويُعزى ذلك إلى عمق الخلافات التي تجعل بعض المسؤولين المغاربيين يعتبرون الشركاء الأجانب أقرب إليهم من جيرانهم.

 

 

تعليقات