«توجد شرعية سياسية في أيدي السراج، وتوجد شرعية عسكرية تتمثل في القائد العسكري حفتر. لقد قررا أن يعملاً معًا. هذا عمل قوي». تلك هي الجملة المفتاح في خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل تلاوة البيان المشترك الذي يُقال إن الرجلين، السراج وحفتر، وافقا عليه. يبدو كلام ماكرون توصيفا للواقع الراهن وتأسيسا لمُبررات مبادرته، إلا أنه بحركته تلك، عاود صياغة المشهد الليبي بالكامل، على نحو كرَس وجود سلطتين شرعيتين، وثبَت المُشير حفتر، الذي كان يُنعت بكونه «اللواء المُتمرد» أو في أفضل الأحوال «الضابط المُتقاعد»، في موقع المستأثر بنصف الشرعية أو أكثر. من هذه الزاوية نفهم تصريحه الذي قال فيه إنه أضاف إلى الشرعية التي منحها إياه «شعبُنا»، أي البرلمان، شرعية دولية.

إلى جانب هذا المستوى الأول من القراءة، ثمة في المستوى الثاني كسبٌ كبير غنمته باريس، ويتعلق بتبديد السحب التي تكثفت حول دورها المؤيد لحفتر في الفترة الماضية، ولاسيما بعد إسقاط مروحية كان على متنها ثلاثة ضباط فرنسيين. وشكلت الحادثة مُنطلقا لمعلومات بثتها الصحف الفرنسية عن حجم التدخل العسكري الفرنسي في الصراع الليبي من جانب دولة عضو في مجلس الأمن، كان الأجدر بها أن تلتزم موقف المجتمع الدولي المؤيد لحكومة الوفاق الوطني. ولإدراك المكاسب التي درَها على باريس لقاءُ الرجلين، يمكن مقارنة الحرج الشديد الذي وُضعت فيه حكومة فرنسوا أولاند، لدى إماطة اللثام عن حجم التدخل الفرنسي في المنطقة الشرقية (بنغازي)، ومشاعر النصر التي كانت بادية على وجه خلفه ماكرون وهو يستقبل في باريس صاحب «الشرعية العسكرية» في ليبيا.

الرابح الأكبر والخاسر الأكبر

إذا ما نظرنا إلى الكفة الثانية من الميزان نلمحُ سرَاج فقد نصف شرعيته، لأن النصف الآخر مُنح لغريمه. وعلاوة على ذلك تم إقصاء حلفائه الطليان من العملية الاستعراضية، فشعر بالوحدة لأول مرة في باريس التي زارها مرات من قبل رئيسا للمجلس الرئاسي. بهذا المعنى كان ماكرون الرابح الأكبر وحفتر الرابح الكبير، فيما كان السراج الخاسر الأكبر وكانت إيطاليا الخاسر الكبير.
لكن يُخطئ من يعتقد أن السراج وحفتر هما اللاعبان الوحيدان في ليبيا، فعلاوة على الزعامات التي تُعدُ نفسها للمرحلة المقبلة في الشرق كما في الغرب، ما زال الجنوب متروكا لنفوذ زعامات قبلية وشبكات تهريب وجماعات مسلحة، ما سيُعطل أي جهود لبناء السلام، لأن الاستقرار يُؤدي إلى ضرب نفوذ هؤلاء اللاعبين خارج الدولة، الساعين لتفكيك مؤسساتها. وإذا كان السراج يُمثل، رمزيا، الغرب وحفتر الشرق، فالجنوب شبه غائب من المعادلة الفرنسية. مع ذلك تولي باريس أهمية كبيرة للجنوب (فزَان) لكونه حلقة الوصل بين افريقيا الصحراوية والبحر المتوسط، وهو أيضا بمثابة رأس جسر يربطها بمستعمراتها في غرب افريقيا ووسطها.
وكانت فرنسا احتلت منطقة فزان في 1943 أي قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، وإعلان الاستقلال والجلاء النهائي عن ليبيا في 1956. وظلت المنطقة منذ ذلك التاريخ مسرحا لصراع دولي على تلك الشرفة الكبيرة المُطلة على منطقة الصحراء الكبرى والدول الافريقية المحيطة بها، والغنية بالمعادن والثروات الطبيعية الأخرى. أكثر من ذلك، كانت باريس تحلم بطريق امبراطورية تمتد من تونس إلى تشاد، بما يجعل من فزان حلقة بين افريقيا الصحراوية والبحر المتوسط، كما كانت تُؤمل أن تشكل تلك المنطقة العازلة حزاما واقيا من «التسريبات» والاختراقات الآتية من البلدان العربية التي تساند الثورة الجزائرية (1954-1962).

تنابذ فرنسي إيطالي

من هنا يرتدي التنابذ الفرنسي الايطالي بُعدا استراتيجيا كون روما تعتقد أيضا أن ليبيا حصَتها التي انتُزعت منها بالقوة، وهي أقامت علاقات وثيقة مع طرابلس ومصراتة منذ 2014 ودعمت قوات «البنيان المرصوص» المصراتية عسكريا ودبلوماسيا في معركتها لتحرير مدينة سرت من عناصر «داعش». لكنها لم تتوقع أن تتعرض لمقلب أعده الرئيس الفرنسي ليضع جميع اللاعبين الدوليين في منطقة التسلل، من موسكو الداعمة الرسمية لحفتر إلى الأطراف الأوروبية والعربية.
ويمكن القول إن روما انتقمت لكبريائها بإرسال ست بوارج لملاحقة سفن المهاجرين غير الشرعيين في المياه الإقليمية الليبية، بطلب من رئيس حكومة الوفاق السراج. وكان السراج حرص على النزول في روما في طريق العودة من باريس لتهدئة غضب الطليان. كما كان لافتا فوز شركات ايطالية بصفقة معاودة بناء مبنيي الرحلات الدولية والداخلية في مطار طرابلس الدولي، وربما ستكرُ السبحة من خلال صفقات إعادة الاعمار. أما الولايات المتحدة فلا يبدو أنها تكترث لهذا التراشق الفرنسي الايطالي لكونها فوضت التعاطي مع الملف الليبي إلى حلفائها الأوروبيين منذ خروجها من ليبيا في 2012 بعد مقتل سفيرها في المُجمَع القنصلي في بنغازي. واقتصر دورها على توجيه ضربات جوية إلى قيادات «داعش» و»أنصار الشريعة» في ليبيا في إطار الحرب على الإرهاب.
تعدُد المتدخلين في الملف الليبي وتنابذهم يُشكلان واحدة من العقبات الرئيسية أمام التقدم في اجتراح حل سياسي للأزمة الليبية، فإذا كانت فرنسا أكدت دعمها للبيان المشترك بين السراج وحفتر، لا يُعرف الموقف الحقيقي للروس والطليان والبريطانيين والأمريكيين والمصريين والإماراتيين والقطريين والجزائريين والتوانسة، من المبادرة الفرنسية، التي رُبما اعتبرها بعضهم مقلبا.

الخلافُ مستمرٌ

تضمن البيان المشترك إقرارا بمرجعية الاتفاق السياسي المُوقع في الصخيرات في17 كانون الثاني (ديسمبر) 2015 والذي تنصل منه حفتر في أول مقابلة صحافية أجراها بعد اللقاء مع قناة «فرنسا 24» فيما ظل الخلاف على خضوع السلطة العسكرية (حفتر) للسلطة السياسية (مجلس الدولة) قائما برُمته. ولا أمل في تسويته لكون حفتر يرى نفسه سلطة لا سلطة فوقها، وهو لم يستبعد ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية، مع البدء بمغازلة رجال النظام السابق، من خلال التصريحات الإيجابية التي أطلقها في حق سيف الاسلام القذافي، علما أن كثيرا من القيادات العسكرية والأمنية السابقة انضمت إليه (حفتر). وتأتي تلك التصريحات أيضا تمهيدا للاجتماع الذي يعقده ضباط ليبيون في القاهرة الأسبوع المقبل، والذي سيسعى حفتر من خلاله إلى استقطاب مزيد من كوادر الجيش النظامي السابق.
من هنا لم تعد لديه حاجة للتلويح بالزحف على طرابلس، لأن جماعات في المنطقة الغربية باتت ترى فيه مفتاح الحل، خصوصا أن السراج منحه شهادة قابلة للتصريف في الغرب الليبي حين عبَر عن «سعادته» بتحرير بنغازي وأمله ببدء معركة بنائها قريبا، مع أن المدينة الثانية لا تبدو قد تخلصت تماما من الجماعات الأصولية المسلحة.

توحيد المؤسسات وإجراء انتخابات

عمليا أهم نقطتين اتفق عليهما السراج وحفتر هما توحيد المؤسسات المركزية وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في الربيع المقبل. وإذا ما تحقق فعلا توحيد المؤسسات، التي تُعاني من الانشطار منذ تقاسم البلد بين «فجر ليبيا» (الغرب) من جهة و»عملية الكرامة» بقيادة حفتر (الشرق) من جهة ثانية في 2014، ستتغير حياة الليبيين، بعد معاناة طويلة مع تدهور قيمة الدينار وغلاء الأسعار وشح السيولة وندرة السلع وانقطاع الانترنت، بالإضافة للانقطاعات المديدة للكهرباء، التي حولت صيفهم إلى جحيم. لذا عندما تسأل مواطنا عن تعليقه على اتفاق السراج – حفتر، تشعر أنه لم يعد مُهتما بمن سيحكم البلد، بقدر ما يهمُهُ أن يشعر بالأمان والاستقرار وأن تتحسن أوضاعه الاجتماعية. بهذا المعنى يرتدي توحيد المؤسسة الوطنية للنفط ومصرف ليبيا المركزي والصندوق السيادي الليبي (تُقدر أصوله بأكثر من 66 مليار دولار)، أهمية قصوى، خصوصا في ظل تجاوز المنتوج النفطي مليون وخمسة آلاف برميل يوميًا. فإذا ما تحققت هذه الانفراجة في غضون ثلاثة أشهر، أي قبل اللقاء المقبل بين السراج وحفتر وماكرون، تغدو فرص تنظيم انتخابات عامة أقرب إلى الواقعية.
غير أن ذلك لا يكفي، فدون الانتخابات عقبات كأداء، ليس أقلها انتشار الميليشيات في المدن وفوضى السلاح، خفيفة وثقيلة، مما يعني أن أي حملة انتخابية قد تتحول إلى كارثة، فضلا عن أن أمراء الميليشيات سيتحكمون بمراكز الاقتراع. وعليه فإن أحد الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة وشفافة هو إجلاء تلك الكيانات المسلحة إلى خارج المدن، ونقل الأسلحة إلى أماكن بعيدة عن التجمعات السكنية، فهل يمكن ضمان ذلك في الظرف الراهن؟ من غير الممكن للمجلس الرئاسي، في وضعه الراهن، أن يفرض هيبته على الجماعات المسلحة، وهو الذي لا يسيطر سوى على جزء ضئيل من العاصمة. كما أن فلول «داعش» وتنظيم «أنصار الشريعة» وجماعات متطرفة أخرى تتحكم ببعض المدن، خاصة في الجنوب، حيث الدولة غائبة، على الرغم من إخراجها من مدينة سرت في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وهي جماعات تعتبر الانتخابات كفرا وستعمل حتما على إحباطها. هذا عدا عن الإعداد الفني للانتخابات الذي يستغرق في الأقل سنة كاملة في بلد يمرُ في أوضاع عادية، فما بالك بليبيا.
وفي حال باتت الأوضاع مُهيأة غدا لإجراء انتخابات في المدن الساحلية، فإن العمق الجنوبي سيبقى خارج سيطرة الدولة، لا بل ومصدرا لأخطار قد تُحبط المسار الانتخابي نفسه، إذ أن الحدود الليبية مع كل من الجزائر وتونس، والتي يُقدر طولها بـ1500 كيلومتر غير مضمونة، بالإضافة لحدود أطول مع كل من النيجر وتشاد والسودان. وفيما أعادت خلايا «داعش» تنظيم صفوفها بعد سرت بالاتجاه جنوبا وشرقا، فإنها ستبقى في الأراضي الليبية لأن الذي يسيطر على شمال النيجر هو تنظيم «المرابطون» بزعامة مختار بلمختار الموالي لـ»القاعدة». ويحتاج عناصر «داعش» للبقاء على مقربة من حقول النفط التي يسيطر عليها حفتر لأن مصدر تمويلهم الرئيسي هو بيع النفط المُهرَب وكافة أنواع التجارة الموازية، بما فيها الإتجار في البشر.
قُصارى القول إن تعدُد اللاعبين الخارجيين وشدة الصراع بين الفرقاء الليبيين، يجعلان مربع التوافق أصغر من أن يتحمل كل هؤلاء الشركاء-الغرماء. غير أن مهمة الموفد الجديد للأمم المتحدة غسان سلامة هي البحث عن القواسم المشتركة بين هؤلاء وأولئك، من أجل تكريس الحد الأدنى من التناغم في المواقف، واستطرادا جمع الإخوة الأعداء الليبيين حول خريطة طريق متفق عليها من الغالبية، إن لم يكن من الجميع.

كابشن

مُبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استبقت المبادرة الأمريكية، ووضعت حلفاءه الأوروبيين أمام أمر واقع غير مسبوق، وقزَمت مبادرة دول الجوار، وأضفت على المشير حفتر شرعية دولية طالما انتظرها.

الرجلين، السراج وحفتر، وافقا عليه. يبدو كلام ماكرون توصيفا للواقع الراهن وتأسيسا لمُبررات مبادرته، إلا أنه بحركته تلك، عاود صياغة المشهد الليبي بالكامل، على نحو كرَس وجود سلطتين شرعيتين، وثبَت المُشير حفتر، الذي كان يُنعت بكونه «اللواء المُتمرد» أو في أفضل الأحوال «الضابط المُتقاعد»، في موقع المستأثر بنصف الشرعية أو أكثر. من هذه الزاوية نفهم تصريحه الذي قال فيه إنه أضاف إلى الشرعية التي منحها إياه «شعبُنا»، أي البرلمان، شرعية دولية.

إلى جانب هذا المستوى الأول من القراءة، ثمة في المستوى الثاني كسبٌ كبير غنمته باريس، ويتعلق بتبديد السحب التي تكثفت حول دورها المؤيد لحفتر في الفترة الماضية، ولاسيما بعد إسقاط مروحية كان على متنها ثلاثة ضباط فرنسيين. وشكلت الحادثة مُنطلقا لمعلومات بثتها الصحف الفرنسية عن حجم التدخل العسكري الفرنسي في الصراع الليبي من جانب دولة عضو في مجلس الأمن، كان الأجدر بها أن تلتزم موقف المجتمع الدولي المؤيد لحكومة الوفاق الوطني. ولإدراك المكاسب التي درَها على باريس لقاءُ الرجلين، يمكن مقارنة الحرج الشديد الذي وُضعت فيه حكومة فرنسوا أولاند، لدى إماطة اللثام عن حجم التدخل الفرنسي في المنطقة الشرقية (بنغازي)، ومشاعر النصر التي كانت بادية على وجه خلفه ماكرون وهو يستقبل في باريس صاحب «الشرعية العسكرية» في ليبيا.

الرابح الأكبر والخاسر الأكبر

إذا ما نظرنا إلى الكفة الثانية من الميزان نلمحُ سرَاج فقد نصف شرعيته، لأن النصف الآخر مُنح لغريمه. وعلاوة على ذلك تم إقصاء حلفائه الطليان من العملية الاستعراضية، فشعر بالوحدة لأول مرة في باريس التي زارها مرات من قبل رئيسا للمجلس الرئاسي. بهذا المعنى كان ماكرون الرابح الأكبر وحفتر الرابح الكبير، فيما كان السراج الخاسر الأكبر وكانت إيطاليا الخاسر الكبير.
لكن يُخطئ من يعتقد أن السراج وحفتر هما اللاعبان الوحيدان في ليبيا، فعلاوة على الزعامات التي تُعدُ نفسها للمرحلة المقبلة في الشرق كما في الغرب، ما زال الجنوب متروكا لنفوذ زعامات قبلية وشبكات تهريب وجماعات مسلحة، ما سيُعطل أي جهود لبناء السلام، لأن الاستقرار يُؤدي إلى ضرب نفوذ هؤلاء اللاعبين خارج الدولة، الساعين لتفكيك مؤسساتها. وإذا كان السراج يُمثل، رمزيا، الغرب وحفتر الشرق، فالجنوب شبه غائب من المعادلة الفرنسية. مع ذلك تولي باريس أهمية كبيرة للجنوب (فزَان) لكونه حلقة الوصل بين افريقيا الصحراوية والبحر المتوسط، وهو أيضا بمثابة رأس جسر يربطها بمستعمراتها في غرب افريقيا ووسطها.
وكانت فرنسا احتلت منطقة فزان في 1943 أي قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، وإعلان الاستقلال والجلاء النهائي عن ليبيا في 1956. وظلت المنطقة منذ ذلك التاريخ مسرحا لصراع دولي على تلك الشرفة الكبيرة المُطلة على منطقة الصحراء الكبرى والدول الافريقية المحيطة بها، والغنية بالمعادن والثروات الطبيعية الأخرى. أكثر من ذلك، كانت باريس تحلم بطريق امبراطورية تمتد من تونس إلى تشاد، بما يجعل من فزان حلقة بين افريقيا الصحراوية والبحر المتوسط، كما كانت تُؤمل أن تشكل تلك المنطقة العازلة حزاما واقيا من «التسريبات» والاختراقات الآتية من البلدان العربية التي تساند الثورة الجزائرية (1954-1962).

تنابذ فرنسي إيطالي

من هنا يرتدي التنابذ الفرنسي الايطالي بُعدا استراتيجيا كون روما تعتقد أيضا أن ليبيا حصَتها التي انتُزعت منها بالقوة، وهي أقامت علاقات وثيقة مع طرابلس ومصراتة منذ 2014 ودعمت قوات «البنيان المرصوص» المصراتية عسكريا ودبلوماسيا في معركتها لتحرير مدينة سرت من عناصر «داعش». لكنها لم تتوقع أن تتعرض لمقلب أعده الرئيس الفرنسي ليضع جميع اللاعبين الدوليين في منطقة التسلل، من موسكو الداعمة الرسمية لحفتر إلى الأطراف الأوروبية والعربية.
ويمكن القول إن روما انتقمت لكبريائها بإرسال ست بوارج لملاحقة سفن المهاجرين غير الشرعيين في المياه الإقليمية الليبية، بطلب من رئيس حكومة الوفاق السراج. وكان السراج حرص على النزول في روما في طريق العودة من باريس لتهدئة غضب الطليان. كما كان لافتا فوز شركات ايطالية بصفقة معاودة بناء مبنيي الرحلات الدولية والداخلية في مطار طرابلس الدولي، وربما ستكرُ السبحة من خلال صفقات إعادة الاعمار. أما الولايات المتحدة فلا يبدو أنها تكترث لهذا التراشق الفرنسي الايطالي لكونها فوضت التعاطي مع الملف الليبي إلى حلفائها الأوروبيين منذ خروجها من ليبيا في 2012 بعد مقتل سفيرها في المُجمَع القنصلي في بنغازي. واقتصر دورها على توجيه ضربات جوية إلى قيادات «داعش» و»أنصار الشريعة» في ليبيا في إطار الحرب على الإرهاب.
تعدُد المتدخلين في الملف الليبي وتنابذهم يُشكلان واحدة من العقبات الرئيسية أمام التقدم في اجتراح حل سياسي للأزمة الليبية، فإذا كانت فرنسا أكدت دعمها للبيان المشترك بين السراج وحفتر، لا يُعرف الموقف الحقيقي للروس والطليان والبريطانيين والأمريكيين والمصريين والإماراتيين والقطريين والجزائريين والتوانسة، من المبادرة الفرنسية، التي رُبما اعتبرها بعضهم مقلبا.

الخلافُ مستمرٌ

تضمن البيان المشترك إقرارا بمرجعية الاتفاق السياسي المُوقع في الصخيرات في17 كانون الثاني (ديسمبر) 2015 والذي تنصل منه حفتر في أول مقابلة صحافية أجراها بعد اللقاء مع قناة «فرنسا 24» فيما ظل الخلاف على خضوع السلطة العسكرية (حفتر) للسلطة السياسية (مجلس الدولة) قائما برُمته. ولا أمل في تسويته لكون حفتر يرى نفسه سلطة لا سلطة فوقها، وهو لم يستبعد ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية، مع البدء بمغازلة رجال النظام السابق، من خلال التصريحات الإيجابية التي أطلقها في حق سيف الاسلام القذافي، علما أن كثيرا من القيادات العسكرية والأمنية السابقة انضمت إليه (حفتر). وتأتي تلك التصريحات أيضا تمهيدا للاجتماع الذي يعقده ضباط ليبيون في القاهرة الأسبوع المقبل، والذي سيسعى حفتر من خلاله إلى استقطاب مزيد من كوادر الجيش النظامي السابق.
من هنا لم تعد لديه حاجة للتلويح بالزحف على طرابلس، لأن جماعات في المنطقة الغربية باتت ترى فيه مفتاح الحل، خصوصا أن السراج منحه شهادة قابلة للتصريف في الغرب الليبي حين عبَر عن «سعادته» بتحرير بنغازي وأمله ببدء معركة بنائها قريبا، مع أن المدينة الثانية لا تبدو قد تخلصت تماما من الجماعات الأصولية المسلحة.

توحيد المؤسسات وإجراء انتخابات

عمليا أهم نقطتين اتفق عليهما السراج وحفتر هما توحيد المؤسسات المركزية وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في الربيع المقبل. وإذا ما تحقق فعلا توحيد المؤسسات، التي تُعاني من الانشطار منذ تقاسم البلد بين «فجر ليبيا» (الغرب) من جهة و»عملية الكرامة» بقيادة حفتر (الشرق) من جهة ثانية في 2014، ستتغير حياة الليبيين، بعد معاناة طويلة مع تدهور قيمة الدينار وغلاء الأسعار وشح السيولة وندرة السلع وانقطاع الانترنت، بالإضافة للانقطاعات المديدة للكهرباء، التي حولت صيفهم إلى جحيم. لذا عندما تسأل مواطنا عن تعليقه على اتفاق السراج – حفتر، تشعر أنه لم يعد مُهتما بمن سيحكم البلد، بقدر ما يهمُهُ أن يشعر بالأمان والاستقرار وأن تتحسن أوضاعه الاجتماعية. بهذا المعنى يرتدي توحيد المؤسسة الوطنية للنفط ومصرف ليبيا المركزي والصندوق السيادي الليبي (تُقدر أصوله بأكثر من 66 مليار دولار)، أهمية قصوى، خصوصا في ظل تجاوز المنتوج النفطي مليون وخمسة آلاف برميل يوميًا. فإذا ما تحققت هذه الانفراجة في غضون ثلاثة أشهر، أي قبل اللقاء المقبل بين السراج وحفتر وماكرون، تغدو فرص تنظيم انتخابات عامة أقرب إلى الواقعية.
غير أن ذلك لا يكفي، فدون الانتخابات عقبات كأداء، ليس أقلها انتشار الميليشيات في المدن وفوضى السلاح، خفيفة وثقيلة، مما يعني أن أي حملة انتخابية قد تتحول إلى كارثة، فضلا عن أن أمراء الميليشيات سيتحكمون بمراكز الاقتراع. وعليه فإن أحد الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة وشفافة هو إجلاء تلك الكيانات المسلحة إلى خارج المدن، ونقل الأسلحة إلى أماكن بعيدة عن التجمعات السكنية، فهل يمكن ضمان ذلك في الظرف الراهن؟ من غير الممكن للمجلس الرئاسي، في وضعه الراهن، أن يفرض هيبته على الجماعات المسلحة، وهو الذي لا يسيطر سوى على جزء ضئيل من العاصمة. كما أن فلول «داعش» وتنظيم «أنصار الشريعة» وجماعات متطرفة أخرى تتحكم ببعض المدن، خاصة في الجنوب، حيث الدولة غائبة، على الرغم من إخراجها من مدينة سرت في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وهي جماعات تعتبر الانتخابات كفرا وستعمل حتما على إحباطها. هذا عدا عن الإعداد الفني للانتخابات الذي يستغرق في الأقل سنة كاملة في بلد يمرُ في أوضاع عادية، فما بالك بليبيا.
وفي حال باتت الأوضاع مُهيأة غدا لإجراء انتخابات في المدن الساحلية، فإن العمق الجنوبي سيبقى خارج سيطرة الدولة، لا بل ومصدرا لأخطار قد تُحبط المسار الانتخابي نفسه، إذ أن الحدود الليبية مع كل من الجزائر وتونس، والتي يُقدر طولها بـ1500 كيلومتر غير مضمونة، بالإضافة لحدود أطول مع كل من النيجر وتشاد والسودان. وفيما أعادت خلايا «داعش» تنظيم صفوفها بعد سرت بالاتجاه جنوبا وشرقا، فإنها ستبقى في الأراضي الليبية لأن الذي يسيطر على شمال النيجر هو تنظيم «المرابطون» بزعامة مختار بلمختار الموالي لـ»القاعدة». ويحتاج عناصر «داعش» للبقاء على مقربة من حقول النفط التي يسيطر عليها حفتر لأن مصدر تمويلهم الرئيسي هو بيع النفط المُهرَب وكافة أنواع التجارة الموازية، بما فيها الإتجار في البشر.
قُصارى القول إن تعدُد اللاعبين الخارجيين وشدة الصراع بين الفرقاء الليبيين، يجعلان مربع التوافق أصغر من أن يتحمل كل هؤلاء الشركاء-الغرماء. غير أن مهمة الموفد الجديد للأمم المتحدة غسان سلامة هي البحث عن القواسم المشتركة بين هؤلاء وأولئك، من أجل تكريس الحد الأدنى من التناغم في المواقف، واستطرادا جمع الإخوة الأعداء الليبيين حول خريطة طريق متفق عليها من الغالبية، إن لم يكن من الجميع.

كابشن

مُبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استبقت المبادرة الأمريكية، ووضعت حلفاءه الأوروبيين أمام أمر واقع غير مسبوق، وقزَمت مبادرة دول الجوار، وأضفت على المشير حفتر شرعية دولية طالما انتظرها.

تعليقات