اختلفت جولات الحوار الليبي الليبي في تونس عن الجولات المماثلة السابقة في مدينة الصخيرات المغربية (خريف 2015)، من ناحية المشاركين ومحاور الخلاف والسياقات المحلية والاقليمية. غير أن المتغير الأبرز تمثل بكثافة الضغط الدولي على الفرقاء من أجل الوصول إلى حل سياسي. ربما لا يطفو هذا الاهتمام الدولي على السطح في الحركة الحثيثة بين مقر بعثة الأمم المتحدة للمساندة في ضاحية البحيرة، حيث تُعقد جلسات الحوار ومقر إقامة الوفود في فنادق ضاحية قمرت المُطلة على البحر. لكن الثابت أن هناك دفعا قويا للتعجيل بحسم القضايا الخلافية في غضون أسبوعين، وهو دفعٌ اصطدم بتعنُت اعضاء الوفدين لدى الانتقال لمناقشة القضايا الجوهرية.

كانت الجولة الأولى في أواخر الشهر الماضي يسيرة ومنسابة، وفوجئ المراقبون بقبول الفريقين الجلوس وجها لوجه، حول مائدة واحدة، في حضور الموفد الدولي غسان سلامة، زيادة على انفتاحهما على كل الملفات المعروضة للنقاش. وحصل توافق على ان تُطاول التعديلات المنويُ إدخالها على اتفاق الصخيرات معاودة تشكيل مجلس الدولة للاقتصار على ثلاثة اعضاء (رئيس ونائبين) بدل تسعة أعضاء، وتسمية رئيس جديد على رأسه مع نائبيه، والفصل بين الحكومة والمجلس الرئاسي (يجمع السراج حاليا بين الرئاستين). لكن سرعان ما اتضح أن ذلك الاستعداد الإيجابي تراجع مع الغوص في القضايا الخلافية، وخاصة تعديل البند الثامن من اتفاق الصخيرات الخاص بمرجعية القيادة العليا للجيش. ومن القضايا التي كانت محور خلاف أيضا توسعة المجلس الأعلى للدولة كي يشمل جميع الأعضاء المنتخبين في المؤتمر الوطني العام سنة 2012.

ورافقت مناقشة البند الثامن، الذي يمكن اعتباره عُقدة الحوار الليبي الليبي، تهديدات من قائد الجيش المُعين من البرلمان المشير خليفة حفتر، باللجوء إلى حل عسكري “في حال أخفق المتحاورون في إيجاد حل سياسي”، مُحذرا من أن “الباب سيكون مفتوحاً على مصراعيه للشعب لتحديد مصيره، وستكون القوات المسلحة رهن إشارة الشعب” في تهديد غير مبطن للفريقين بتجاوزهما عند الاقتضاء. ويُركز خطاب حفتر على الدعوة لقتال الارهابيين كي تكون ذريعة لتصفية خصومه، وإقامة حكم عسكري على غرار نظام معمر القذافي. في المقابل أصرت الأطراف الأخرى على الابقاء على تبعية الجيش للمجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني، وأدى تباعد المواقف في هذه المسألة إلى تعثر الحوار في تونس أكثر من مرة، والاضطرار لتعليقه، على نحو أثبت أن الأمر لا يقتصر على قيادة المؤسسة العسكرية، وإنما يتعلق بقيادة البلد كله، إذ أن سيطرة الميليشيات على غالبية التراب الليبي تجعل من الجيش الذي يقوده حفتر القوة الضاربة الأولى في البلد، واستطرادا التي تملك وسائل السيطرة على المليشيات. وتقضي خطة الأمم المتحدة التي عرضها المبعوث الدولي غسان سلامة بإطلاق “حوار مع الجماعات المسلحة بُغية دمج أفرادها في العملية السياسية وإعادتهم إلى الحياة المدنية”، زيادة على تعزيز الترتيبات الأمنية وهيكلة الأمن القومي وتنسيق المشاركة الدولية في حل الأزمة الليبية، ومن ضمنها الجهود التي تبذلها دول الجوار كي تكون مساهمة في تسوية الصراع المستمر منذ 2014، بين جماعة “فجر ليبيا” وعملية الكرامة التي قادها المشير حفتر.

في أجواء هذه الخلافات ظل المفاوضون من أعضاء لجنة صياغة التعديلات على الاتفاق السياسي الليبي يجتمعون وينسحبون، ثم يعودون إلى الاجتماع ويتراجعون بعد ذلك مجددا، ما ألقى على الجولة الثانية من الحوارات التي كان سلامة حكما فيها، أجواء من الشحن والتوتر لم يكن من اليسير السيطرة عليها. لكن في الأخير حصل التقدم المأمول وأعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم أن لجنة تعديل الاتفاقلا السياسي توصلت إلى اتفاق على تحديد أعضاء المجلس الرئاسي يثلاثة فقط، وكذلك على آليات صنع القرار في المجلس ومعايير الترشح لعضويته. وفي سياق هذه التوافقات تم التفاهم أيضا على فصل السلطة التنفيذية بين مجلس رئاسي ومجلس للوزراء، مع تسجيل تقارب في المواقف على صعيد تحديد صلاحيات المجلسين. وتعتبر الصياغات الحالية أولية في انتظار المزيد من التنقيح والضبط لتفادي احتمالات الالتباس والضبابية، وهذا جزء من شغل بعثة الدعم الأممية في الفترة المقبلة.

ويُفترض أن هذه التفاهمات قربت الليبيين من الأهداف الكبرى التي وُضعت لهذه الجولة الجديدة من الحوارات، والمتمثلة بعقد “مؤتمر وطني شامل” خلال سنة، علما أن سلامة حدد مهلة اسبوعين سقفا لهذه الجولة الحوارية الجديدة. غير أن التباعد في شأن تعديل البند الثامن، وكذلك في شأن الوسيلة المثلى لاختيار رئيس دولة، شكل عنصرا جوهريا في تعثر الحوارات، إذ طرح أعضاء لجنة الحوار المُمثلين لمجلس النواب (مقره المؤقت في طبرق) رئيس المجلس عقيلة صالح لتولي رئاسة الدولة، فيما تمسك أعضاء لجنة الحوار الممثلين لمجلس الدولة بفايز السراج مرشحا لهذا المنصب. ولما طُرح موضوع تشكيل مجلس الدولة (الذي سيقتصر على ثلاثة أعضاء) اقترح سلامة على أعضاء كل وفد أن يقدموا ثلاثة أسماء لكي يجري الخيار من بين ستة أسماء، مع الأخذ في الحسبان تمثيل المناطق الجغرافية الثلاثة أي برقة شرقا وفزان جنوبا وطرابلس غربا. وكان اتفاق الصخيرات نص في بنده الثاني عشر على تشكيل لجنة صياغة موحدة تضم ممثلين عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لتعديل الاتفاق. إلا أن تضخم عدد أعضاء الوفدين شكل عنصر تعقيد وإثقال للحوار، وهو ما لم يفت سلامة لفت النظر إليه.

وفي حركة اعتبرت تشويشا على حوارات تونس اندلعت اشتباكات في محلة سوق الجمعة بالعاصمة طرابلس بين أهالي حي الغرارات و”قوة الردع الخاصة” التابعة لحكومة الوفاق الوطني، ما أدى إلى شل حركة الطيران في مطار معيتيقة القريب من وسط طرابلس، واللافت أن تلك الاشتباكات تزامنت مع قرار وفد مجلس النواب تعليق مشاركته في جولة المحادثاتمع وفد المجلس الرئاسي. وما عزز الارتياب من توقيت هذه العملية، التي كانت تستهدف السيطرة على مداخل مدينة طرابلس، بالتواطؤ مع بعض المليشيات داخل المدينة، أن مرتزقة سودانيين كانوا من ضمن المهاجمين، غير أن قوات حكومة الوفاق تعاملت مع التشكيل المهاجم وأفشلت مخططه.

في المحصلة مازالت هناك فسحة للتفاؤل باحتمال الوصول إلى اتفاق يُبنى علياستقبلا ه مسار انتقالي، ويتم التصديق عليه في مؤتمر وطني يُعقد داخل ليبيا بمباركة دولية، على أن يكون المؤتمر مفتوحا لجميع المدن الليبية. ويشكل إغواء المحاصصة بين الأطراف المستفيدة من الحرب الأهلية أكبر خطر يتربص بمسار العودة إلى الاستقرار والسلام فيليبيا، إذ أن النخب السياسية التي تعاقبت على الحكم منذ أكثر من ست سنوات لم تُظهر حرصا على مصالح البلد بقدر ما كانت تتقاتل على تحصيل المنافع والامتيازات. ويضع كثير من الليبيين آمالهم في قطاعات مازالت سليمة من المجتمع المدني، التي دللت على تشبثها بالعمل التطوعي بعيدا عن الأطماع. وكان لافتا في الأيام الأخيرة أن عمدة مدينة طرابلس عبد الرحمن العبار وأعضاء المجلس البلدي استضافوا وفدا من المنظمات الأهلية من العاصمة طرابلس وضواحيها، ووضعوا الزيارة تحت عنوان “إصلاح ما أفسده السياسيون”.

وفي خط مواز بدأ العمل على إصلاح ما دمرته الحرب الأهلية على صعيد البنية الأساسية وإحياء مشاريع توقف تنفيذها بعد اندلاع انتفاضة 17 فبراير (شباط) 2011، ولوحظ أن الشركة العامة للكهرباء تدرس حاليا مع وفد من مجموعة “هيونداي الكورية استكمال تنفيذ محطة لتوليد الكهرباء في منطقة جنزور غرب العاصمة طرابلس، بالاضافة لمحطتين أخريين في سرت (غرب) والزويتينة (شرق)، وهي مشاريع توقف تنفيذها بعد اندلاع الانتفاضة. ويعاني الليبيون من ظروف قاسية بسبب الانقطاعات المتكررة والمدينة للكهرباء، وخاصة في فصل السيف. وبحسب تصريحات للمدير التنفيذي للشركة العامة للكهرباء علي ساسي تتردد الشركات الكورية في العودة إلى ليبيا بسبب خوفها على حياة فنييها من الأوضاع الأمنية غير المستقرة، مؤكدا في الوقت نفسه أنها وافقت على استئناف المشاريع العالقة، وهي إشارة إيجابية ربما تدفع مجموعات أوروبية وآسيوية أخرى للعودة مجددا والمساهمة في معاودة إعمار البلد.

برواز

البلديات مدرسة الديموقراطية الأولى في ليبيا

تعتبر المجالس البلدية المنتخبة تجربة جديدة على الليبيين الذين عانوا طيلة قرابة نصف قرن من اللجان الشعبية والمجالس البلدية المُعينة من الحكام، بلا معيار سوى الولاء لـ”القائد” معمر القذافي وحاشيته، ما جعلها مليشيات تخدم الطغاة وتتسلط على المواطنين. وجاء قانون المجالس البلدية للتخفيف من حدة الحكم المركزي. وتضم مجالس البلديات سبعة أعضاء من بينهم ممثل من الثوار السابقين الذين فقدوا أحد أطرافهم، إضافة إلى مقعد للمرأة.

ولمس الليبيون هذه الممارسة الجديدة في مستويين أولهما الانتخابات التعددية والشفافة التي لا عهد لهم بها من قبل، وثانيا الطريقة الديموقراطية في إدارة شؤون البلدية. تم انتخاب المجالس البلدية في سنة 2014، لكن هناك الآن مجالس بلدية وأخرى محلية. فبعد انتفاضة 2011 برز جسم تمت تسميته بالمجالس المحلية في كل المناطق وتم انتخاب اعضائه في انتخابات كانت الاولى بعد انتخابات المؤتمر الوطني العام (البرلمان الانتقالي). وبهذا المعنى فالمجالس المحلية تشكل مرحلة سابقة على المجالس البلدية. لكن لم تتم عملية انتخابية في بعض المدن للانتقال لمرحلة المجالس البلدية لأسباب امنية وايديولوجية واخرى سياسية. ولهذا لاتزال المجالس المحلية في بعض المدن قائمة الى اليوم. وأشرفت اللجنة المركزية للانتخابات على عمليات انتخاب عمداء (رؤساء) البلديات في 91 بلدية (من أصل 102) بالرغم من الوضع الأمني المتدهور في غالبية مناطق البلاد.

تعليقات