في خطوة تُعيد ليبيا إلى عصر الجاهلية حيث يسود قانون “العين بالعين والسن بالسن”، رد ما يُسمى بـ”مجلس شورى درنة” على جريمة إعدام عشرة شبان في بنغازي بخطف ثلاثة شباب من بيوتهم في درنة وإعدامهم بدم بارد. والعشرة الذين أعدمهم محمود الورفلي، أحد الضباط المؤيدين للمشير خليفة حفتر، وهو مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، مُشتبه بانتمائهم لتنظيم “داعش”، بينما الشبان الثلاثة الذين اغتيلوا في درنة يعتبرون من المناصرين لحفتر. شكل هذا المنحى الاجرامي انزلاقا خطرا يزرع الضغائن ويُرسي لغة العنف، ويضع مزيدا من العقبات في طريق التسوية السياسية للصراع في ليبيا. وإذا كان عجز الدولة، لا بل غيابها، هو الذي أتاح للكيانات المسلحة أن تستفرد بالنفوذ الحقيقي في كثير من المناطق والمدن وترتكب مزيدا من الجرائم في حق المدنيين، فإن الجهود السياسية الرامية لإعادة بناء مؤسسات الدولة مازالت متعثرة.

معركة قانونية سياسية

ومازالت مخرجات اجتماع تونس الذي رمى لتنفيذ خارطة الطريق عالقة، على الرغم من الجهود التي يبذلها موفد الأمين العام للأمم المتحدة غسان سلامة مع وفدي الحوار، وفد المجلس الرئاسي ومجلس النواب، من أجل تجاوز العقبات. غير أن الاهتمام بات مُنصبا بعد تفجيري بنغازي وتداعياتهما على ملاحقة الورفلي محليا ودوليا، بعدما تكرس إجماع ليبي – دولي على استنكار الجريمة والمطالبة بالقصاص من مرتكبها. والأرجح أن حفتر سيُضطر لإعطاء الأمر باعتقال الورفلي، حتى لو لم يُوقع شخصيا على هذا الأمر، وستنطلق معركة قانونية سياسية في شأن تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية أم مقاضاته أمام المحاكم المحلية، بتهمة “مخالفة الأوامر والتعليمات العسكرية”. والظاهر أن الضغط الذي تمارسه كل من الولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، على حفتر من خلال سفرائها سيُحرجه ويحشره في الزاوية. وفي خضم هذه التداعيات تراجع الاهتمام برفع العراقيل من طريق الحل السياسي، إذ ساد الجمود في الفترة الأخيرة بعدما تحركت الدبلوماسية الأممية، ممثلة في موفد الأمين العام للأمم المتحدة غسان سلامة، الذي توفق في جمع الغريمين المجلس الرئاسي والبرلمان، حول مائدة الحوار في العاصمة التونسية.

القوة الثالثة

وساهمت أجواء التعثر والجمود في التهوين من مبادرة جديدة قام بها عمداء البلديات الليبية، الذين كثيرا ما اتخذوا مبادرات قوية أحرجت السياسيين، وتمثلت المبادرة في اجتماع عقدوه في مدينة شحات على مدى يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، بعثوا من خلاله رسالة واضحة إلى أطراف عدة، وخاصة الطرفين المتصارعين، تضمنت أولا أمارة على أن الليبيين يمكن أن يجتمعوا ويتفقوا، وثانيا المطالبة بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. أكثر من ذلك لوح عمداء البلديات بالعصيان المدني في حال عدم الاستجابة لمسعاهم. واللافت أن ملتقى العمداء في شحات بحث مشكلات البلديات وموازناتها والأزمات اليومية التي يعانيها المواطنون، جراء تردي الوضع الاقتصادي.

ومثلما أبدى العمداء قلقهم من مضاعفات الجمود الذي يُهدد بالمزيد من تسميم الأوضاع السياسية والأمنية، برزت دعوات أخرى لتشكيل حكومة وحدة وطنية تتألف من ممثلين عن مجلس النواب (مقره في طبرق – شرق) والمجلس الرئاسي (مقره في طرابلس – غرب) وتشارك فيها جميع التيارات السياسية الرئيسة في البلد. واعتبر عضو مجلس النواب صالح فحيمة، الذي أطلق هذه الفكرة أخيرا، أن حكومة الوحدة هي من سيُوحد المؤسسات الأمنية لفرض الأمن، بما يُمكن سائر المؤسسات الأخرى من القيام بدورها. ولم يبن فحيمة تلك الدعوة على فراغ، وإنما لديه على الأرجح معلومات تخص معاودة فتح باب الحوار رسميا بين مجلسي النواب والدولة قريبا، انطلاقا من قناعة لدى الطرفين المتصارعين بضرورة إنهاء الانقسامات، وإحلال الثقة مجددا بينهما.

استثمار الفرص

الدول الأوروبية المعنية بالملف الليبي، وفي مقدمها إيطاليا وفرنسا، استثمرت أجواء الركود لكي تقطع خطوة إلى الأمام نحو تعزيز حضورها الاستراتيجي، ليس فقط في جنوب ليبيا وإنما أيضا في منطقة الساحل والصحراء، التي تشكل جسرا بين شمال أفريقيا ودول جنوب الصحراء. واستفاد الايطاليون من الجمود السياسي لإرسال قوات جديدة على مقربة من حدود ليبيا الجنوبية بدعوى قطع طرق الهجرة غير الشرعية. وأكد مقال لصحيفة “ذا غاردن” أخيرا أن المسؤولين الإيطاليين، الذين سيخوضون استحقاقا انتخابيا مهما في مارس (آذار) المقبل، سيواجهون ملف الهجرة غير النظامية بأكثر حدة من الماضي، بالنظر لتزايد أعداد المهاجرين الآتين من السواحل الليبية، منذ مطلع العام الجاري، بالرغم من الاجراءات المُتخذة للحد منها، بما فيها منح “تعويضات” لأمراء شبكات التهريب كي يتخلوا عن تسفير طالبي الهجرة. وتُبدي مصادر إيطالية مخاوف صريحة من احتمال أن يكون أمراء الشبكات يلعبون على حبال عدة، ما يعني أن موجات الهجرة غير النظامية لن تتراجع مثلما كانت تأمل إيطاليا، بالرغم من قبولها التعامل مع جماعات مارقة. وكان تدفق المهاجرين تراجع في العام الماضي في أعقاب اتفاقات غير رسمية بين الحكومة الايطالية والميليشيات المسيطرة على مدن بحرية يستخدمها المهربون لإرسال المراكب إلى سواحل إيطاليا.

واستخدم البرلمان الايطالي حجة السعي لوقف تدفق المهاجرين من دول الساحل والصحراء ليأذن بنشر قوات على مقربة من حدود ليبيا الجنوبية، ما أثار حفيظة الحكومتين الليبيتين المتنافستين في طرابلس والبيضاء. وعكست تلك الخطوة التزاحم الشديد بين فرنسا، التي سبق أن نشرت قوات في تلك المنطقة، وإيطاليا التي تدعم الجماعات الاسلامية المعتدلة في غرب ليبيا، وخاصة في مصراتة وطرابلس. ولن يُكتب لهذه المنافسة أن تخمد ما لم يتبلور حل سياسي يتوافق عليه الليبيون ويؤدي إلى الحد من التداخلات الخارجية في شؤونهم. وفي هذا السياق أعطى الاجتماع الأخير بين ممثلين لوفدي الحوار في الشرق والغرب بصيصا من الأمل باستئناف العملية السياسية. واجتمع الخميس عضو لجنة الحوار التابعة لمجلس الدولة موسى فرج (الغرب) مع رئيس لجنة الحوار بمجلس النواب (الشرق) عبدالسلام نصية برعاية الموفد الأممي غسان سلامة، وأجريا حوارا وصفاه بالصريح والجاد. وتتعلق نقطة الخلاف الراهنة بآلية تشكيل سلطة تنفيذية مؤلفة من طابقين: مجلس رئاسي وحكومة توافقية.

ويُعتقد أن الضغوط الدولية معطوفة على دور القوى الداخلية، الدافعة في اتجاه إنهاء الجمود وتحريك المسار السياسي، وبخاصة دور عمداء البلديات والمجتمع المدني، ربما تساهم في إحراز تقدم نسبي في الفترة المقبلة، وإن كان التأخير الحاصل مُضرٌ بسير العملية السياسية في مجملها، ما سيُؤخر تنفيذ الخطوات المتفق عليها في خارطة الطريق.

 

 

تعليقات