أبعد من صفقات تجارية وعقود لبيع الغاز، يُشكل مضمون المحادثات الجارية بين الجزائر وبلدان جنوب أوروبا، لتجديد عقود تصدير الغاز التي تنتهي صلاحيتها هذا العام، لحظة مؤثرة في مستقبل جيوبوليتيك الطاقة في الحوض الغربي للمتوسط. وتتحكم الجزائر حاليا في نسبة كبيرة من إمدادات الغاز الطبيعي لكل من اسبانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال، ما يُخفف من اعتماد تلك البلدان على الغاز الروسي، ويضع روسيا حكما في موقع الغريم والمنافس للجزائر. ويسعى الجزائريون لإقناع الأوروبيين بالتوقيع على عقود جديدة طويلة الأمد، إلا أن الجانب الأوروبي مازال مترددا ومتوجسا من تبعات الشراكة المُميزة مع الجزائر، وهو يحرص على المحافظة على مرونته باعتماد عقود قصيرة المدى تستند على قواعد السوق.

إجمالا، إذا ما ألقينا نظرة على خطوط نقل النفط والغاز الطبيعي في شمال أفريقيا، نلحظ شبكة قوية من الارتباطات التي جعلت إيطاليا واسبانيا وفرنسا تعتمد على مصادر الطاقة الآتية من الضفة الجنوبية، وإن كانت ليست مصدرها الوحيد للطاقة. كما يلحظ المتابع للعلاقات بين بلدان الضفتين، وبخاصة علاقات إيطاليا مع كل من الجزائر وليبيا، تأثيرا قويا للاعتبارات المتصلة بتأمين إمداد جنوب أوروبا بالطاقة في العلاقات بين البلدان الثلاثة. وتتبوأ الجزائر الرتبة الثانية بين مُزودي أوروبا بالغاز الطبيعي بعد روسيا، وهي تسعى لتعزيز مركزها باستثمار 73 مليار دولار في القطاع خلال الفترة بين 2016 و2020.

واستطاعت أن تؤمن 55 في المئة من حاجة اسبانيا إلى الغاز الطبيعي و16 في المئة من حاجات إيطاليا و15 في المئة من حاجات البرتغال في العام قبل الماضي. والأرجح أن هذه النسب مازالت سارية، ما يجعل البلدان الأوروبية الثلاثة مُعتمدة على الجزائر في سد حاجاتها من مصادر الطاقة. ويمكن القول إن أنابيب الغاز الثلاثة، التي توصل الغاز الجزائري إلى أوروبا، منذ عقود، ساهمت في تشكيل جيوبوليتيك شمال أفريقيا، وجعلت الجزائر تحتل موقعا محوريا في العلاقات بين بلدان ضفتي الحوض الغربي للمتوسط. والأرجح أن موقع الجزائر سيتعزز بعد دخول خط أنابيب غورد النوس – حاسي الرمل حيز التشغيل في مايو المقبل، وسيُتيح تصدير 4 مليارات متر مكعب إضافية من الغاز سنويا.

موقف مُلتبس

انبنت على تشابك العلاقات الاقتصادية شراكة سياسية من نوع خاص، جعلت الجزائريين يُخاطبون الأوروبيين بغير ما يُخاطبهم به جيران الجزائر، ويُعاملونهم معاملة خاصة سواء لدى التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، أم لدى مناقشة القضايا الاقليمية والدولية. بهذا المعنى نفهم محاولات الأوروبيين التخلص من هذه “العلاقة الخانقة”، وهو ما كشف عنه أخيرا مدير عام مجموعة “سوناتراك” عبد المؤمن ولد قدور عندما انتقد من واشنطن “الموقف الأوروبي المُلتبس” من تجديد عقود شراء الغاز الجزائري، التي تنتهي فاعليتها في العام الجاري، قائلا “إنهم (الأوروبيون) يُقبلون على شراء الغاز منا عندما يُواجهون صعوبات مع روسيا، ويُعرضون عنا عندما تتحسن علاقاتهم مع الروس”. وطبعا يُفضل الجزائريون التوصُل إلى عقود طويلة الأمد، لأن هذا الخيار يجعلهم مطمئنين على إيرادات مضمونة في المستقبل، فيما يُفضل الأوروبيون علاقات قائمة على قواعد السوق، كي لا يضعوا كل بيضهم في سلة الجزائر. وتُقدر صادرات الغاز الجزائري إلى إيطاليا بنحو 69 مليون متر مكعب في اليوم.

بالمقابل، نسج الجزائريون علاقات متينة مع الولايات المتحدة لموازنة العلاقة مع أوروبا، وهي علاقات تشمل التفتيش عن المحروقات واستخراجها، والتعاون الأمني في مكافحة الارهاب، والتنسيق في القضايا العربية والدولية، علما أن الجزائر نوعت شراكاتها مع قوى دولية متعددة بدءا من الصين وروسيا إلى البلدان الأفريقية، إضافة إلى العلاقات التقليدية مع أوروبا.

دوافع سياسية

على الجانب الآخر من المغرب العربي يتنافس الإيطاليون والفرنسيون والاسبان على استثمار حقول النفط والغاز الليبية، ومن أهمها الحقلين البريين الواقعين في صحراء مُرزق جنوب طرابلس، الأول هو حقل الفيل، الذي تستثمره مجموعة “إيني” الايطالية، والثاني هو حقل الشرارة، الذي تستثمره مجموعة “ربسول” الاسبانية، فيما تستثمر مجموعة “توتال” الفرنسية حقل الجرف البحري قبالة الساحل الليبي. ويقدر حجم الانتاج في كل حقل من حقلي الفيل والشرارة بـ 390 ألف برميل يوميا، علما أن منتوج الشرارة تراجع في الشهر الجاري من 460 إلى 390 ألف برميل يوميا لأسباب سياسية، تتعلق بإقفال مسلحين من قبيلة الزنتان الحقل، احتجاجا على القرار الذي اتخذه المؤتمر الوطني العام بالتجديد لنفسه.

وفرض وجود بعض الحقول النفطية والغازية في مواقع مُحاذية للحدود بين الجزائر وليبيا، التوصل إلى تفاهمات قد تُكرس استثمارا مشتركا للثروة النفطية في تلك المناطق، وتحديد صيغ تقاسم الانتاج بينهما. وتوصلت مجموعة “سونتراك” الجزائرية و”المؤسسة الوطنية للنفط” الليبية الشهر الماضي، إلى اتفاق مبدئي يُكرس الادارة المشتركة لحقلي الوفاء الليبي والغار الجزائري على الحدود المشتركة بين البلدين. ويُمون حقل الوفاء مدن الجبل والساحل الليبيين بالغاز الطبيعي الضروري لتشغيل محطات توليد الكهرباء. لكن الاتفاق النهائي مُتوقف على نتائج دراسة فنية تكفل بإجرائها مكتب استشارات خاص، من أجل تأكيد وجود اتصال بين الحقلين، ومن ثم وضع خطة للاستثمار المشترك الأمثل للحقلين.

روسيا على الخط

ودخلت روسيا على الخط لتكون طرفا في ملف الطاقة الليبي بدافعين رئيسين أولهما أن زيادة اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الليبي سيُخفف من تبعيتها للغاز الروسي، ما يُفقد موسكو ورقة ضغط مهمة، ظهرت فعاليتها أثناء الأزمة الأوكرانية، وثانيهما أن تنامى الدور الروسي في ليبيا يمكن أن يُمهد لمقايضة تقوم على شراء المحروقات من الليبيين في مقابل تصدير الأسلحة والعتاد، وهو خيار ألمح إليه غير مرة ليف دينغوف رئيس “مجموعة الاتصال الروسية للتسوية الليبية”. وبعدما كان الدور الروسي في ليبيا يتسم بالتكتم والبُعد عن الأضواء، باتت موسكو تُعلن في السنتين الأخيرتين عن العلاقات المتينة التي تقيمها مع المشير خليفة حفتر، ولكن أيضا مع حكومة الوفاق الوطني، لا بل وتتباهى بأن الفريقين المتنازعين يخطبان ودها ويسعيان إلى تكثيف التعاون معها في مجالي التسليح والتدريب العسكري. وأتت زيارة رئيس “الحرس الرئاسي” (نواة الجيش التي تدافع عن حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج) إلى موسكو أخيرا لتؤكد سعي الروس لإظهار كونهم باتوا على مسافة واحدة من طرفي النزاع، على الرغم من أنهم يُناصرون حفتر.

الجزائر وليبيا

أثرت خارطة الطاقة في طبيعة العلاقات الثنائية بين البلدان المغاربية صعودا وهبوطا، وحددت جغرافية الطاقة بشكل خاص، نوع العلاقات الجزائرية مع الأطراف المتصارعة في ليبيا، فبحكم تداخل المصالح مع حكومة الوفاق الوطني في غرب ليبيا، ظلت الجزائر متحفظة على إقامة علاقات متينة مع المشير حفتر، بالرغم من أنها دعته لزيارة الجزائر، بعكس الموقف الرسمي المصري على سبيل المثال المُنحاز للمشير المتقاعد. ويدلُ توقيع مجموعة “سوناتراك” الجزائرية على اتفاق إطار مع “المؤسسة الوطنية للنفط” الليبية، لتعزيز التعاون بين الجانبين في استثمار الحقلين الحدوديين، على أن جغرافية الطاقة شكلت عنصرا حاسما في تجاوز خلاف يعود إلى سنة .2004

تونس والمغرب

ويُلقي ملف الغاز بظلاله على العلاقات التونسية الجزائرية أيضا، في إطار جيوبوليتيك العلاقات الاقليمية، إذ يعبر أنبوب الغاز الجزائري الإيطالي المعروف بـ”خط الأنابيب عبر المتوسط” أو “ترانسميد” الأراضي التونسية، على مدى 400 كيلومتر، لنقل الغاز الجزائري إلى صقلية، ومن ثم إلى الشمال الايطالي، منذ أكثر من ثلاثة عقود. ويتوقع التونسيون تحصيل رسوم بقيمة 200 مليون دولار بعنوان رسوم عبور خلال السنة الجارية، في مقابل رسوم بقيمة 183 مليون دولار العام الماضي. وباشرت الحكومة التونسية أخيرا مفاوضات جديدة مع مجموعة “إيني” لتجديد عقود نقل الغاز، الذي يتقاضى التونسيون لقاءه رسوما تُراوح بين 5 و7.5 في المئة من كميات الغاز المنقولة عبر الأنبوب.

على الطرف الآخر من شمال أفريقيا تبدو العلاقات المغربية الجزائرية شديدة التأثر السلبي بخارطة الطاقة، إذ أن عقود أنبوب الغاز العابر للمغرب نحو مدينة اشبيلية الاسبانية، عبر مضيق جبل طارق، غير مرشحة للتمديد بعد نهاية مفعولها في 2021. وباشر المغاربة أخيرا محادثات ترمي لمد أنبوب لنقل الغاز من نيجيريا في إطار البحث عن بدائل. كما يعتزمون إطلاق دراسة فنية لتحديد أفضل الوسائل لاستخدام تجهيزات نقل الغاز التي سيتم الاستغناء عنها. ويدُلُ التخلي المُحتمل عن الأنبوب، بما هو مشروع إدماجي كبير، على التداعيات السلبية للخلاف على الصحراء الغربية، الذي سمم العلاقات المغربية الجزائرية، وقاد إلى قطيعة سياسية وصلت إلى حد غلق الحدود المشتركة منذ العام 1994 وإدخال الاتحاد المغاربي إلى غرفة الانعاش.

ومن الصعب التوقي من التداعيات السلبية لهذه القطيعة طالما بقي مشكل الصحراء بلا حل، والنفط والغاز عمادي العلاقات بين الجيران، لاسيما أن الخبراء النفطيين يتوقعون أن يحافظ النفط والغاز التقليديان على مكانتهما في سلة المحروقات خلال السنوات المقبلة، بالرغم من اكتشاف الغاز الصخري وانطلاق استثماره في بعض البلدان. ويُشيرون في السياق إلى أن التغيير المناخي والخوف من مزيد تلويث البيئة، سيشكلان مصدر ضغط على الشركات النفطية لكي تهتم بإدارة مصادر المياه على امتداد خطوط الحقول التي تستثمرها. ويستدلون على ذلك بأن بعض عقود الاستخراج والاستثمار باتت تتضمن تعهدات تخص هذا الجانب، إما لإعادة استخدام المياه في الحقل، أو لمنح السكان المحليين فرصة استعمالها لتغطية حاجاتهم. والأرجح أن جيوبولتيك الطاقة ستتحول في المستقبل إلى جيوبولتيك المياه.

 

 

 

 

تعليقات