فضيحة استخدام الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي المال الفاسد، الآتي من ليبيا، على زمن القذافي، لتمويل حملته الانتخابية، ليست من المفاخر التي تُحسن فرص عودة سيف الإسلام، نجل الزعيم المغدور، إلى المسرح السياسي في المرحلة المقبلة. مع ذلك أعلن ناطق باسمه أنه يعتزم الترشيح للانتخابات الرئاسية التي تستعدُ الأمم المتحدة لإجرائها في ليبيا أواخر العام الجاري. وهذه ليست المرة الأولى التي يُعلن فيها سيف الإسلام نيتهُ خوض المعركة الانتخابية، فهو مُصرٌ على ذلك، مُعتمدا إما على ضمانات أو على حسابات، فما من شك في أن الحافز على هذا الموقف هو الدعم الذي يلقاهُ من بعض القبائل، التي كانت مقربة من النظام السابق، والتي ما زالت تحمل رايته الخضراء إلى اليوم، وتتعاطى مع انتفاضة 17 شباط/فبراير على أنها «مؤامرة أطلسية على ليبيا». وتأتي في مقدمة تلك القبائل قبيلة القذاذفة وأولاد سليمان في اقليم فزان (جنوب)، واللتين تُشكلان، مع مُكونات أخرى، القاعدة الاجتماعية لتيار القذافيين. كما أن لأنصار القذافي ثقلا سكانيا في بعض المناطق أسوة بورشفانة (شمال غرب) وبني وليد (وسط).
لكن فرص لعب سيف الإسلام القذافي أدوارا مستقبلية تتوقف أولا على مدى استعداد الأمم المتحدة لإدماج التيار الذي يُمثله في الحوار السياسي الرامي لوضع أجندة متفقا عليها للخروج من الأزمة الراهنة. وسبق للموفد الأممي غسان سلامة أن أجاب على هذا السؤال حين قال في شكل واضح «أريد كسر الاحتكار المفروض من قبل بعض المجموعات وفســح المجال لا فقط أمام أنصار النظام السابق بل وحتّى أمام أنصار المَلكيّة، وسترون ذلك في المؤتمر الوطني. لا يهمنّي ماضي الليبيين بقدر ما يهمّني مستقبل بلدهم».
إلى هذا الحد تبدو الأمم المتحدة مُشجعة على السماح لأنصار النظام السابق بلعب أدوار سياسية، لكن مع ذلك ما زالت الطريق غير مُمهدة لعودة سيف الإسلام إلى المسرح السياسي، فالمعوقات والموانع كثيرة، ويتعلق بعضها بموانع قانونية، والبعض الآخر بالانقسامات في صفوف القذافيين، والتي تُضعفهم وتنتقص من قدرتهم على تجميع الأنصار. ويمكن القول إن الحاجز الأول أمام نجل القذافي هو الحكم بالاعدام الصادر بحقه من محكمة طرابلس، إضافة إلى كونه مطلوبا من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لمحاسبته على مشاركته في قتل المعارضين على أيام الحرب الأهلية في ليبيا. وأحد هذين المانعين كاف لوحده للحؤول دون سيف الإسلام والترشيح لأي انتخابات رئاسية أو برلمانية مقبلة.
أما على الصعيد السياسي فإن حزب أنصار القذافي مُنقسم بين زعامتين إحداهما يُمثلها سيف الإسلام، الذي يُعتبر استمرارا لوالده، وثانيتهما يتكلم باسمها أحمد قذاف الدم أبن عم معمر القذافي، الذي كان يُدير ملف العلاقات الليبية المصرية قبل 2011، بعدما كان مسؤولا عن المخابرات. ويتحدث قذاف الدم باسم تنظيم يُطلق عليه اسم «جبهة النضال الوطني». والأرجح أن التيار سيكون ممثلا في المحطات المقبلة، لكن ليس برأسيه الحاليين سيف الإسلام وقذاف الدم. ماذا يُمثل هذا التيار من ثقل في الموازين السياسية؟ هناك من يُغالون في تقدير وزن التيار، وهناك أيضا من يُهونون من حجمه. وكان استبيان قام به «المركز المغاربي للأبحاث حول ليبيا» قبل بضعة أشهر في مدن المنطقة الغربية، بما فيها العاصمة طرابلس، أظهر أن نسبة الذين يعتزمون منح أصواتهم لأنصار النظام السابق تدور حول 10 في المئة من أصوات المُقترعين. وهذا أمر غير بعيد عن الواقع، على الأرجح، فوزن الأحزاب التي تُدير أنظمة استبدادية ينهار كلما انتقل المجتمع إلى مرحلة الديمقراطية، لتجد نفسها تحصد 20 في المئة من الأصوات أو أقل من ذلك، لدى مشاركتها في استحقاقات انتخابية حرة وشفافة، وهو ما حصل للأحزاب الشيوعية في أوروبا الوسطى والشرقية بعد انهيار جدار برلين، وكذلك في الجزائر بعد خروج حزب «جبهة التحرير الوطني» (الحزب الواحد السابق) من الحكم في أعقاب انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 1988.
أكثر من ذلك، من الصعب أن يكسب سيف الإسلام قدرا من الشعبية في المستقبل، وهو الذي أحرق أوراقه مرتين، الأولى عندما أخفق مشروعه الإصلاحي في وضع دستور وإقرار إصلاحات سياسية، من خلال المؤسسة التي منحها إياه والده في 2007، وكانت تُسمى «مؤسسة الغد». أما الثانية فهي تهديده ووعيده للثوار أثناء الانتفاضة بالتنكيل بهم واستخدام أقسى أدوات القمع لمعاقبتهم على خروجهم عن الطاعة. بهذا المعنى يكون التفكير في الترشيح للانتخابات المقبلة ضربا من الاندفاع غير المحسوب والقفز في الفراغ، إلا إذا كان الترشيح صوريا ويرمي فقط إلى تطبيع وضع نجل الزعيم السابق، وإدماجه في عملية تدوير الأوراق والأدوار.
وإذا ما تعمقنا في فهم من يمكن اعتباره ضمن جوق النظام السابق، سنجد فوارق كبيرة بين من تبوأ مسؤوليات أمنية وعسكرية في ظل النظام، والموظفين التكنوقراط الذين تعايشوا معه، ولم يكونوا قادرين على مجابهته. وهنا يكمن الخطأ الكبير الذي قادت إليه المزايدات التي أعقبت انتصار الثورة، والتي حكمت على جميع الموظفين، الذين عملوا في الإدارة ومؤسسات الدولة، بالإقصاء من دون أن تُميز بين من ارتكب جرائم أو سرق المال العام من جهة، والموظفين الصغار الذين لا سلطة لهم على المال ولا على القرار من جهة ثانية. وشكل قانون العزل أحد مصادر الصراع القائم في ليبيا إلى اليوم، إذ ساهم في تعميق الشرخ في جدار المجتمع ونُخبه السياسية، وكرس منطق الإقصاء والنفي المتبادل. بهذا المعنى يكون من الأنسب والأجدى إدماج الموظفين والتكنوقراط في العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، واعتبارهم تيارا من ضمن التيارات المعنية بالمصالحة، واستطرادا بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة. وهنا سيجد أنصار القذافي قاعدة اجتماعية جزئية يستقطبون منها المؤيدين، ومفتاحا نحو فرص للحراك والتأثير في غالبية المناطق والمدن الليبية. لكنهم لم يعودوا اللاعبين الوحيدين على الساحة اليوم، فتركة معمر القذافي الثقيلة ستقضم من احتياطي الأصوات التي يمكن أن يحصدها ورثته السياسيون.
على الضفة المقابلة من المتوسط، ألقت الأزمة الليبية ببعض من شررها على الساحة الفرنسية وأحرقت المستقبل السياسي للرئيس الأسبق ساركوزي، بالرغم من محاولاته الدفاع عن نفسه، مُعتبرا أنه «ضحية مؤامرة قضائية وإعلامية» من خصومه السياسيين. في الواقع، انكشفت أوراق جديدة في الملف بعد تحقيقات متأنية انطلقت منذ 2012، على إثر التهم التي وجهها معمر القذافي نفسه قبل اغتياله، إلى ساركوزي بتلقي أموال من ليبيا، لضخها في حملته الرئاسية في 2007. وتعززت الشبهات بالمعلومات التي رفع عنها النقاب الوسيط الفرنسي من أصل لبناني زياد تقي الدين، الذي اعترف أنه نقل ثلاث حقائب مُحملة بالأوراق النقدية من ليبيا إلى فرنسا على مدى ثلاث رحلات، وسلمها إلى اثنين من مساعدي ساركوزي، وهما كلود غيان مدير مكتبه وبريس هورتفو وزير داخليته. وقد يكون ذلك الدعم هو الذي مكنه من الفوز على غريمته الاشتراكية سيغولان روايال، بفارق ضئيل في انتخابات 2007. واللافت أن تحقيقا أجراه الصحافيان الفرنسيان فابريس أرفي وكارل لاسكو توصل، بعد ست سنوات من التقصي والتحري، إلى نتائج متطابقة مع تلك التي انتهت إليها التحقيقات القضائية، والتي جعلت القضاة يُقررون الأربعاء الماضي، رسميا، توجيه التهمة إلى ساركوزي. واستطاع الصحافيان أن يجمعا، في كتابهما بعنوان «ساركوزي ـ القذافي: العلاقات السرية»، براهين وقرائن لا تترك مكانا لظلال من الشك في تحويل الأموال من ليبيا إلى فرنسا. وأتت الشهادات التي أدلى بها مدير مخابرات القذافي سابقا عبد الله السنوسي ومدير مكتبه بشير صالح وآخرون لتعزز تلك القرائن.
هل سيقتصر شرار هذا الحريق على ساركوزي ومساعديه فقط؟ ألن تتردد أصداؤه في أرجاء البيت الليبي أيضا؟ إذا كان سيف الإسلام القذافي يسعى بجميع الوسائل لإغراق ساركوزي ومعاقبته على اللؤم والجحود، فإن الليبيين سيطالبون نجل معمر القذافي بجردة حساب، كونه ووالده أنفقا أموال الليبيين على معارك لا لا تُسمنهم من جوع ولا تأمنهم من خوف، خصوصا من الجوع والخوف الحاليين، وهما الأشد إيلاما لشعب اعتاد على الوفرة. لا يعنيهم هل يدخل ساركوزي السجن أم لا، وهل تهز فرنسا فضيحة غير مسبوقة من هذا الحجم، أم يتم احتواؤها وامتصاص تداعياتها. ما يهمهم هو إرجاع الأموال إلى أصحابها، الذين هم حقيقون بها.
من انتخابات 2007 في فرنسا إلى انتخابات 2018 في ليبيا خطٌ مسترسلٌ يتعلق بصورة السياسيين هنا وهناك، وعلاقاتهم المتقلبة، التي لا مُحرك لها سوى «البزنس السياسي»، مع النتائج المُترتبة عليه، حتى إن أتت متأخرة

تعليقات