رشيد خشانة

 بعد ثلاث سنوات من المفاوضات بين تونس والاتحاد الأوروبي، في شأن التوقيع على اتفاق شراكة جديد بين الجانبين، أعلن رئيس الحكومة يوسف الشاهد من بروكسيل، أن الاتفاق سيتم التوقيع عليه في السنة المقبلة. يُطلقُ على اتفاق الشراكة المنوي التوصل إليه اسم «اتفاق التبادل الحر الشامل والمُعمق» الذي يُعرف اختصارا «ALECA» وهو يشمل قطاع الزراعة والخدمات والاستثمار، في توسيع لاتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي، الذي يعود إلى السنة 1995. ويُرجح أن مسار المفاوضات الذي مرَ فيه التونسيون، سيُطرح أيضا على باقي البلدان العربية المتوسطية، في إطار تجسيد رؤية الاتحاد الأوروبي لمستقبل علاقاته مع دول الجوار. وأتت صيغة «أليكا» لتجاوز إخفاق السياسات الأوروبية السابقة في إقامة منطقة للتنمية والاستقرار مع الجيران في جنوب المتوسط وشرق أوروبا.
وأطلق الأوروبيون في الفترة من 2011 إلى 2015 محاولة لتقويم سياساتهم إزاء دول الجوار، في أعقاب اندلاع ثورات الربيع العربي. وأفضى التقويم إلى تأكيد أن باب الانضمام إلى عضوية الاتحاد مُقفل في وجه بلدان الجوار، مع السعي في الوقت نفسه إلى إقناع تلك البلدان باعتماد المعايير السارية في الاتحاد الأوروبي (من هنا أتت عبارة المُعمق)، وإلغاء السياسات الحمائية التي تعتمدها دول الجوار تدريجا (من هنا أتت عبارة الشامل)، في مقابل فتح الأسواق الأوروبية أمام منتوجات بلدان الجوار. ولاحظت الخبيرة الاقتصادية جيهان شندول، أن سياسة الجوار الأوروبية لا تترك مجالا لالتحاق البلدان الواقعة في الجوار بعضوية الاتحاد، ولا حتى بتيسير حصول مواطنيها على تأشيرات دخول إلى الاتحاد. من هنا تلقت البلدان العربية المعنية، وخاصة تونس والمغرب، بكثير من التحفظ هذه السياسة الأوروبية «الجديدة»، لأنها تلامسُ قطاعي الزراعة والخدمات الاستراتيجيين، اللذين لا يُؤهلهُما مستواهما الراهن لمنافسة المنتوجات الأوروبية إذا ما فتحت السوق المحلية في وجه الأخيرة.
وكان المغرب اتبع مسارا قريبا من مسار الشراكة التونسي الأوروبي، إذ توصل إلى اتفاق شراكة بعد عام واحد (1996) دخل دائرة التنفيذ في العام ألفين. وقبل أن يمنح الاتحاد تونس مرتبة «الشريك المُميز» في 2012، منحها للمغرب منذ العام 2008. ورمى هذان الاتفاقان الجديدان إلى تعميق العلاقات السياسية وتقريب الفجوة بين قوانين السوق في المغرب وتونس من جهة وأوروبا من جهة ثانية، بالإضافة لتطوير التعاون القطاعي. وعندما يُسألُ الأوروبيون عن المضمون العملي لمرتبة «الشريك المُميز» يُجيبون بكونها تمنح الفائزين بها جميع الحقوق التي يتمتع بها أعضاء الاتحاد، عدا العضوية. وتبدو هذه الصيغ البلاغية أقرب إلى الكلام المُنمق منها إلى تحصيل مكاسب ملموسة، ففي الواقع ثارت أزمة حادة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، الذي علق جميع الاتصالات مع الاتحاد، بعدما ألغى القضاء الأوروبي اتفاقا مغربيا أوروبيا لتصدير المنتوجات الزراعية، بذريعة أن الاتفاق ينطبق على الصحراء الغربية المتنازع عليها. واعتبر المغاربة أن القرار القضائي قرارٌ سياسي بامتياز ومناف للقانون الدولي.
واختار الأوروبيون حلا وسطا لترضية المغاربة، فتوصل الطرفان في 2013 إلى وضع خريطة طريق في أعقاب تلك الأزمة غطت الفترة من 2013 إلى 2017. ويُعتبر المغرب المستفيد الأول من سياسة الجوار الأوروبية، إذ أنه يحصل على مساعدات مالية تُقدرُ بمئتي مليون يورو في السنة. وكانت تونس أول بلد عربي متوسطي يُوقع على اتفاق شراكة مع الاتحاد في 1995، مثلما أسلفنا، رمى لإقامة منطقة للتبادل الحر في غضون عشرة أعوام، قبل تمديدها لاحقا إلى اثني عشر عاما. وأدى تنفيذ بنود الاتفاق، الذي اندرج في إطار مسار برشلونة الأورومتوسطي، إلى تفكيك قسم من البنية الصناعية التونسية، التي لاقت صعوبات كبيرة في مجابهة تدفق المنتوجات الأوروبية. وفي النتيجة أقفلت مصانع كثيرة أبوابها، وخاصة في قطاعي المنسوجات والملبوسات.
في المقابل تعهد الأوروبيون، بموجب اتفاق الشراكة، منح تونس مساعدات مالية للتعويض عن الخسائر التي تكبدتها. وقدر رئيس البرلمان الأوروبي أنتونيو تاجاني، القيمة الاجمالية للمساعدات التي منحها كلٌ من الاتحاد والمصرف الأوروبي للاستثمار بـ3.5 مليار يورو في الفترة من 2011 (تاريخ انطلاق التجربة الديمقراطية في تونس) إلى2016. غير أن خبراء اقتصاديين قدَروا أن خسائر البلد كانت أكبر من ذلك. وعرض الأوروبيون في جولات المفاوضات التي تمت حتى الآن، وكانت آخرتها الاثنين والثلاثاء الماضيين في تونس، إفساح المجال أمام الاستثمارات الأوروبية في مجال الطاقة والبنية التحتية والسياحة والاقتصاد الأخضر والتكنولوجيا الجديدة وسواها.
ويمكن أن نعزو «سخاء» الاتحاد الاوروبي في منح مساعدات مالية لتونس إلى الحرص على الحيلولة دون انهيار تجربة الانتقال الديمقراطي اليافعة، وهي الوحيدة التي نجت من الانتكاس في جنوب المتوسط. وقال مفوض سياسة الجوار ومفاوضات التوسعة في الاتحاد الأوروبي جوهانس هان، خلال زيارة سابقة لتونس، إن الاتحاد «يعتبر تونس شريكا مُميَزا في الجوار الأوروبي لأنها تحقق تجربة ديمقراطية لافتة، وإن كانت تُجابه تحديات اقتصادية واجتماعية وأمنية لا عهد لها بها في الماضي». مع ذلك، لن يستمرَ الأوروبيون في دعم التجربة التونسية من دون حدود، خاصة أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تُجابهها ما انفكت تتفاقم، وبالتالي فلن يتعاطوا معها بالحرص الذي تعاطوا من خلاله مع اليونان على سبيل المثال، التي ضخَ لها الاتحاد الأوروبي، إبان إفلاسها، ما يعادل تسعة أضعاف موازنتها السنوية.
يقتضي المنطق أن تُكلف الحكومة التونسية خبراءها بوضع دراسة استشرافية تُحددُ التأثيرات المحتملة للاتفاق المعروض على الاقتصاد المحلي. ولا يمكن التعاطي مع ملف بهذه الأهمية وتداعياته البعيدة بمعزل عن المجتمع المدني، الذي أثبت من خلال تجربة «الحوار الوطني» في 2013 دوره المحوري في التخطيط للمستقبل، واستحق نيل جائزة نوبل لقاء دوره ذاك. وفي المبادرة الوحيدة التي قدم خلالها رجال أعمال ومندوبون من المجتمع المدني قراءاتهم لتداعيات الاتفاق الجديد، طغى الحذر والتوجس من تداعياته السلبية على أداء القطاعين المستهدفين وهما الخدمات والزراعة. وكان وراء تلك المبادرة الوحيدة المعهد العربي لرؤساء المؤسسات (غير حكومي) في إطار «منتدى تونس» الذي أطلقه المعهد. وأظهرت دراسة أعدها المعهد حول «اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق» أنه لكي يستطيع القطاع الزراعي المحلي امتصاص تداعيات تحرير التبادل مع أوروبا، ينبغي أن تُحقق الصادرات الزراعية نموا سنويا بنسبة 8 في المئة، وهو أمر مستحيل. أما في قطاع الخدمات فينبغي أن تنمو الصادرات بنسبة 15 في المئة سنويا من خلال زيادة في الإنتاجية تُقدر بـ7 في المئة سنويا. فهل هذا ممكن؟ نظريا يقول الأوروبيون إن»اتفاق التبادل الحر الشامل والمُعمق» يفسح المجال أمام المنتوجات الزراعية وشركات الخدمات التونسية لدخول الأسواق الأوروبية، غير أن ضعف الإمكانات الواقعية لا يسمح لها باقتناص فرص تبقى افتراضية. في هذا الأفق وافقت المفوضية الأوروبية على منح البلدان الواقعة في جنوب المتوسط تمويلات بقيمة 4 مليارات يورو، إلا أن الخبراء يُقدرون حاجات تلك البلدان بأربعين مليار يورو، وهو الحد الأدنى الكافي لتعبئة 400 مليار يورو.
واعتمدت الدراسة الاستشرافية التي وضعها خبراء المعهد العربي لرؤساء المؤسسات منهج المحاكاة لتقدير الانعكاسات المحتملة لتحرير المبادلات في المجالين الزراعي والخدمي. وركزت الدراسة على إظهار مدى الفجوة التي تفصل بين واقع السوقين الأوروبية والتونسية، ووسائل ردمها وإن جزئيا. وحددت الدراسة تسعين مسارا في هذين القطاعين وزعتهما على ثلاث لوائح، تخص الأولى المسارات الجاهزة للمنافسة في الوقت الراهن، وتتعلق الثانية بالمسارات التي يمكن إطلاق مفاوضات بشأنها، أما اللائحة الثالثة فتخص المسارات التي ينبغي إرجاء التفاوض في شأنها لأنها غير جاهزة لتحمُل المنافسة الخارجية. الثابت أن تونس تقف اليوم في مفترق شراكات عديدة تمنحُها فرصا مختلفة ومتفاوتة، على رغم إكراهات التاريخ والجغرافيا. لكنها تتعاطى مع هذا الموضوع المصيري في مناخ سياسي مُختلف عن السياق الذي اكتنف التوصل إلى اتفاق 1995، إذ تم آنذاك تغييب المجتمع المدني والنخب السياسية والاجتماعية من المفاوضات، ما أضعف جانب المفاوض التونسي، ولم يترك له مساحة كبيرة للمناورة والضغط.
من المهم التوقف عند مسار المفاوضات بين تونس والاتحاد الأوروبي لأن الأخيرة نموذج للبلدان العربية المتوسطية الأخرى (مصر والجزائر والمغرب والأردن وفلسطين وليبيا ولبنان)، التي ستصل إلى هذا الاستحقاق إن عاجلا أم آجلا. وليس هناك بدٌ من أن يستند بتُ الخيار المصيري الذي سيتجه إليه التونسيون على رؤية دقيقة لموقع بلدهم الاستراتيجي، والشراكات التي يمكن أن يُقيموها مع الدول والتجمعات التي يرون أن مصلحتهم تكمن في التعاطي معها. وهذا يتطلب تقويما شاملا لأداء اتفاق الشراكة الذي مضى على توقيعه أكثر من عشرين سنة، وكذلك قراءة لاتفاقات الشراكة المُماثلة التي أتت بعدهُ. ويضرب خبراء اقتصاديون مُتحفظون على اتفاق الشراكة الشامل والمُعمق المثل بشركة الخطوط التونسية، التي تُجابه حاليا صعوبات جمة، وإذا ما فُتحت الأجواء أمام الناقلات الأوروبية سيتكبد الناقل المحلي خسائر لا قبل له بتحمُلها.
رُبما تكون تونس راهنت على كونها أول بلد متوسطي وقع على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي عام 1995، فحصدت بعض الميزات والحوافز. غير أن الأكيد أن البلدان التي أتت بعدها استفادت أكثر من نقاط قوتها وضعفها لتقود المفاوضات بما يُتيح لها تحصيل فوائد أكبر. لذا ينبغي الانطلاق من قراءة المُتغيرات في المشهد الدولي ومنزلة تونس فيه، لاستجلاء الميزات والفرص التي تُتيحُها لها الثورة الرقمية، فنحن في حقبة تختلف عن تسعينات القرن الماضي. والشركاء المُحتملون اليوم كُثرٌ، منهم البلدان الافريقية وهي التي يُحقق بعضها حاليا نسب نمو عالية. كما تشكل البلدان الآسيوية، وخاصة منها الإسلامية (إندونيسيا، ماليزيا، باكستان…) فضاء يحمل في أعماقه فرصا كبيرة للاستثمار والتبادل التجاري، على الرغم من بُعد المسافات. وفي شرق أوروبا والبلقان فرصٌ من نوع آخر كان يجدر بتونس أن تستكشف كوامنها وتنسج معها علاقات تبادل وتعاون. ثم هناك العملاق الصيني الذي غزا الأسواق المغاربية من خلال قنوات التجارة الموازية، وقد يكون الأجدى التوصل معه إلى اتفاق شامل يحمي المنتوجات المحلية من المنافسة غير الشريفة.
تؤكد هذه العناوين أن أوروبا ليست قدرا محتوما على تونس. طبعا من السذاجة الاعتقاد بأن التونسيين (أو المغاربة) قادرون اليوم على إدارة ظهورهم لأوروبا، بعد العلاقات التي نسجتها قرونٌ من السلم والحرب بين الجانبين، علما أن أكثر من 70 في المئة من المبادلات التجارية تجري معها. ولكن ليس منطقيا أيضا البقاء رهن الرؤية المركزية الأوروبية والتغاضى عما يدور في العالم من متغيرات، من أجل الاستفادة منها في بناء شراكات جديدة تختلف صيغها وأنساقها عن الشراكات التقليدية مع أوروبا.

تعليقات