من الواضح أن التصعيد الأخير في منطقة الهلال النفطي بليبيا، بعد الهجوم المباغت على ميناءي السدرة وراس لانوف بقيادة إبراهيم الجضران، يوم 14 يونيو/حزيران 2018، قد تداخلت فيه عدة أبعاد منها ضبابية المشهد الليبي، ومنها تعقد وتشابك المصالح، فضلًا عن هشاشة الولاءات مع الظرف الإقليمي والدولي المخاتل، كما أن الهجوم جاء بسرعة لم تكن في الحسبان. على أن السرعة التي تم بها الهجوم المباغت على ميناءي السدرة وراس لانوف بمنطقة الهلال النفطي والسيطرة عليهما، وكذا السرعة التي تم بها تحرير الميناءين في بحر ساعات قليلة رمت بظلال من الشك وتركت أكثر من علامة استفهام لا تزال تبحث عن إجابات.

إن توقيت الهجوم فائق الدلالة حيث يأتي بعد لقاء باريس بين الفرقاء الليبيين وبعد عودة خليفة حفتر، وهو الجنرال السابق الذي أصبح يُعرف في أوساط أنصاره بالمشير حفتر، من رحلة الاستشفاء المثيرة للجدل، كما أنه جاء في وقت يخوض فيه خليفة حفتر حربًا على الإرهاب في درنة، وفي وقت يُتوقع أن يحط فيه وزير داخلية إيطاليا في طرابلس بعد يومين، وفي وقت قطعت فيه مشاورات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا أشواطًا كبيرة، بحيث لا تزال تجري المشاورات والتنسيقات على قدم وساق حول تشكيل هذه الحكومة التي يبدو من التسريبات غير الرسمية أنها تنحو نحو المحاصصة المناطقية وتعكس في تركيبتها المسربة تعدد اللاعبين الداخليين. سياقات ودلالات التصعيد الأخير في منطقة الهلال النفطي والمآلات هو ما يتناوله هذا التقرير.

منطقة الهلال النفطي

عبارة عن حوض نفطي يقع في شرق ليبيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط ويمتد شمالًا لمسافة 295 كيلومترًا من مدينة إجدابيا (160 كيلومترًا جنوب بنغازي) إلى مدينة بن جواد (155 كيلومترًا شرق سرت) ويمتد جنوبًا إلى منطقة السرير بمسافة تزيد قليلًا على 800 كيلومتر، ويحتوي هذا الهلال على حوالي ثلثي المخزون النفطي الليبي، وبه 4 موانئ نفطية من الموانئ الستة التي توجد بليبيا، وهي موانئ: الزويتينة والبريقة وراس لانوف والسدرة.

يتكون الهلال النفطي إداريًّا من منطقتين، هما:

منطقة الواحات: وبها مدن جالو وأوجلة وجخرة، وتبعد مئات الكيلو مترات عن البحر، ويتواجد بها معظم الحقول النفطية بمنطقة الهلال، وآمر حرس المنشآت النفطية بها العقيد محمد البانوني منذ العام 2014 وحتى الآن، وهي تتبع حكومة الوفاق الوطني بطرابلس.

والمنطقة الوسطي وبها مدن إجدابيا والبريقة وبشر وراس لانوف والسدرة وبن جواد: وهي المنطقة المطلة على المتوسط وبها الموانئ، وهذه هي التي شهدت سيطرة قوات الجضران لمدة أسبوع.

وتبقى الكثافة السكانية متدنية في منطقة الهلال النفطي كما أن عدة قبائل تقطنها، ومن أهمها: قبيلة المغاربة، وقبيلة زوية، وقبيلة القبايل، وقبيلة أولاد وافي، وقبيلة المجابرة. ورغم وجود المنطقة في وسط أهم المنشآت النفطية بالبلاد إلا أن البنية التحية لمدن الهلال كانت ولا تزال متدنية وتعاني من التهميش، وخلاف العمل في المنشآت النفطية لا مجالات أخرى للتشغيل في مدن الهلال النفطي.

بعد الإطاحة بالنظام السابق في ليبيا، سارع معظم الكتائب والميليشيات المسلحة -سواء تلك التي تشكَّلت أثناء مقارعة النظام وهي أقلها، أو الكثير منها الذي تشكَّل بعد سقوط النظام- في معظم مناطق ليبيا إلى وضع يدها على مؤسسات الدولة والشركات العامة، كان آخرها الحقول والموانئ النفطية في منطقة الهلال النفطي؛ حيث قام إبراهيم الجضران، آمر حرس المنشآت النفطية آنذاك والمنحدر من قبيلة المغاربة (كبرى قبائل المنطقة)، باستغلال تأخر صرف رواتب حرس المنشآت النفطية من قبل حكومة علي زيدان، بالاستيلاء في سبتمبر/أيلول 2012 على الحقول والموانئ النفطية بمنطقة الهلال النفطي وأوقف تصدير النفط عبر تلك الموانئ، متهمًا حكومة علي زيدان بالتلاعب في عدادات الموانئ ومحاولة رشوته. وسارع التيار الفيدرالي الذي يدعو إلى حكم ذاتي لإقليم برقة (منطقة شرق ليبيا) إلى الالتفاف حول الجضران في محاولة لتأسيس حكومة إقليمية انتهت بالإعلان، نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2012، عن تأسيس المكتب السياسي لإقليم برقة بقيادة الجضران ومحاولة تشكيل حكومة تابعة له، ورفض التعامل مع الحكومة في طرابلس، لكن تلك المحاولات لم تتجاوز حد البيانات ولم تُعمَّر إلا لأسابيع ثم طواها النسيان(1). ومنذ استيلاء الجضران على المنشآت النفطية في منطقة الهلال النفطي قام بتكوين ميليشيا مسلحة تابعة له تضم آلافًا من شباب المنطقة، معظمهم من قبيلة المغاربة، وظل طيلة عام ونصف العام يبيع النفط الليبي سرًّا وعبر مهربين؛ ففي الشمال عبر مهربين مالطيين وقبارصة، وفي الجنوب عبر مهربين سودانيين وتشاديين. وأصبح الجضران فجأة وخلال هذه الفترة من بارونات المال في ليبيا، إلا أنه عندما تجرَّأ وحاول تصدير النفط علنًا من خلال الموانئ النفطية في مارس/آذار 2014، فيما عُرف بحادثة السفينة “مورنينغ جلوري”، التي أقلَّت شحنة قُدِّرت قيمتها بعشرين مليون دولار، تدخلت البحرية الأميركية المتواجدة بالمتوسط واحتجزت السفينة قرب السواحل القبرصية وأجبرتها على إفراغ شحنتها بميناء طرابلس(2). ومن يومها، بات اسم الجضران معروفًا دوليًّا.

في مطلع 2015، نظَّمت حكومة طرابلس حملة عسكرية سمتها “عملية الشروق” لاستعادة الحقول والموانئ النفطية من قبضة الجضران، لكنها باءت بفشل ذريع نظرًا لوقوف قبائل المنطقة مع الجضران.

وقد سارعت حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج التي دخلت إلى طرابلس، في مارس/آذار 2016، منذ اللحظات الأولى إلى التواصل مع الجضران، وشرعنت قواتِه، وتم إبرام اتفاق بين الطرفين تم بموجبه تسليم الحقول والموانئ النفطية إلى حكومة الوفاق بطرابلس، على أن تناط إدارة هذه الحقول بالجضران وميليشياته، وهذا الاتفاق جعل خليفة حفتر يحس بالخطر، ولاسيما أن الهلال النفطي لا يبعد سوى 160 كيلومترًا عن بنغازي، فقام الأخير وخلال عدة أشهر بتجهيز قوة قامت بالسيطرة الكاملة على منطقة الهلال النفطي في سبتمبر/أيلول 2016 في عملية سُمِّيت بـــ”البرق الخاطف” وذلك بعدما تمكن حفتر من عقد صفقة مع شيوخ قبيلة المغاربة تخلوا بموجبها عن دعمهم للجضران وانضموا إلى صف حفتر.

وفي مارس/آذار 2017، تمكنت قوات “سرايا الدفاع عن بنغازي” التابعة للقاعدة بقيادة العميد مصطفي الشركسي من السيطرة على ميناءي السدرة وراس لانوف في محاولة لتخفيف الضغط عن قوات “مجلس شورى بنغازي” الذي أصبح محاصرًا في ركن من بنغازي، وظلت سرايا الدفاع عن بنغازي بالميناءين لمدة أسبوعين، حتى تمكنت قوات خليفة حفتر من إخراجها بمساعدة جوية من الطيران المصري والفرنسي.

ومنذ سبتمبر/أيلول 2016، اختفى الجضران عن الأنظار، إلا أن التقارير الاستخباراتية تقول: إنه تجول في العديد من مدن الغرب الليبي وتواصَلَ مع قادة الميليشيا بها وأمراء الحرب، وتم اعتقاله من قبل عصابة استدرجته قرب مدينة نالوت غير بعيد عن الحدود الجنوبية لتونس، يوم 26 مايو/أيار2017، وطالبت بفدية قدرها 7 ملايين دينار ليبي (1.014 مليون دولار) لإطلاق سراحه(3).

هجوم مباغت

في صبيحة يوم الخميس، 14 يونيو/حزيران 2018، باغتت قوة مكوَّنة من 208 سيارات دفع رباعي (مما يعني أن الأفراد عددهم يتراوح بين ستمئة إلى ألف مقاتل)، ميناءي السدرة وراس لانوف (205 كيلومترات شرق سرت) ويقود هذا الهجوم إبراهيم الجضران (الآمر السابق لحرس المنشآت النفطية). وتتكون هذه القوات، حسب بعض المصادر، من:

قوات سرايا الدفاع عن بنغازي التابعة للقاعدة.

ميليشيا الجضران (شباب إجدابيا، أكبر مدينة في الهلال النفطي)، معظم هؤلاء الشباب من قبيلة المغاربة التي ينحدر منها إبراهيم الجضران.

مرتزقة من قوات المعارضة التشادية.

ومنذ الهجوم، اعتُبرت المنطقة الممتدة من الوادي الأحمر (70 كيلومترًا شرق سرت وحتى ميناء راس لانوف) منطقة عسكرية يُمنع مرور المواطنين بها، وتمتد هذه المنطقة على طول يُقدَّر بمئة وأربعين كيلومترًا على ساحل المتوسط، وخضعت المنطقة للسيطرة الكاملة لقوات الجضران وسرايا الدفاع عن بنغازي، ولمدة أسبوع.

وفي تسجيل مصور، أعلن الجضران، يوم الخميس 14 يونيو/حزيران 2018، عن تجهيز قوة تضم حرس المنشآت النفطية والقوات المساندة من أبناء قبيلتي المغاربة والتبو وبقية أبناء منطقة الهلال النفطي، وأصدرت قواته بيانًا وصف فيه ما يحدث في منطقة “الهلال النفطي” بأنه “معركة رفع الظلم عن سكان الهلال النفطي، وليست معركة من أجل مطمع شخصي أو قبلي أو جهوي أو حزبي” وأتبعه ببيان من داخل قاعة فندق راس لانوف، يوضح فيه أسباب وأهداف الهجوم، وأعلن تبعيته لحكومة الوفاق الوطني بطرابلس(4).

اعتمدت قوات ما يُسمى بالجيش الوطني الليبي، التابع لخليفة حفتر، أساسًا على الغارات الجوية في تصديها لقوات الجضران، طيلة أسبوع. وشكَّك الكثير من المراقبين في الأعداد التي قدمها الجيش الوطني الليبي التابع لحفتر، الذي أورد في بياناته أن القوة المهاجمة تعد بالآلاف، منها 1200 مقاتل من تشاد وما يزيد على 500 مدرعة.

منذ اللحظات الأولى للهجوم، قامت المؤسسة الوطنية للنفط بإخلاء الميناءين من الموظفين حفاظًا على سلامتهم وأعلنت القوة القاهرة في ميناءي السدرة وراس لانوف (اللذين يصدِّران بين 400-620 ألف برميل من النفط يوميًّا)، أي ما يزيد قليلًا على 60% من الإنتاج النفطي الليبي، ووقف عمليات شحن النفط الخام منهما ابتداء من الخميس 14 يونيو/حزيران 2018.

وتسبَّبت المعارك في الميناءين في إشعال النار ببعض خزانات النفط، وتكبدت ليبيا خسارة يومية تقدر بـــــــ34 مليون دولار جرَّاء توقف تصدير النفط من الميناءين.

قوبل الهجوم بتنديد واسع النطاق من قبل معظم الفاعلين في المشهد السياسي الليبي ومجلس النواب الليبي بطبرق والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني والولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ومفوضية الاتحاد الأوروبي. أما الجهة السياسية الليبية الوحيدة التي أعلنت مساندتها لقوات الجضران وسرايا الدفاع عن بنغازي في هجومهما الأخير على منطقة الهلال النفطي فهي الجماعة الليبية المقاتلة (وهي المعروفة إعلاميًّا بالأفغان الليبيين).

وطيلة أسبوع، أحكمت القوة المهاجمة سيطرتها على ميناءي السدرة وراس لانوف بمنطقة الهلال النفطي، واكتفت القوات التابعة لخليفة حفتر بغارات جوية تراوحت من 6 إلى 30 غارة باليوم. وخلال هذا الأسبوع، قامت قوات حفتر بالتحضير لهجوم مضاد، أعلنت ساعة الصفر له في عملية سُميت بـــ”الهجوم المقدس” في خطاب متلفز لخليفة حفتر(5)، ظهر الخميس 21 يونيو/حزيران 2018، وبعد مقارعة لمدة ساعات قليلة، أحكم الجيش الوطني الليبي التابع لخليفة حفتر سيطرته الكاملة على الميناءين وتم الإعلان عن تحرير منطقة الهلال النفطي

سرعة الهجوم والسيطرة على المنطقة في بحر ساعات قليلة، وسرعة عملية التحرير، التي دامت هي الأخرى ساعات قليلة، أعقبها هروب المهاجمين واختفاؤهم!، ألقى بالكثير من التساؤلات والشكوك حول العملية برمتها، حيث:

قام إعلام الكرامة التابع لخليفة حفتر بتصوير عملية التحرير، ورغم ادعاء وجود آلاف المقاتلين ومئات الآليات الثقيلة، إلا أن ما تم تصويره لا يتعدى بضع عربات محترقة أو معطوبة، ولم نر جثث القتلى التي عادة ما يتم مشاهدتها ملقاة عقب أي حرب في مثل هذه التغطية الإعلامية(6).

عدم تصوير أسرى أو مرتزقة تشاديين من الألف ومئتين، كما تقول بيانات الجيش الوطني الليبي.

تبخُّر المقاتلين وعدم القدرة على تحديد وجهة هروبهم، هذا إذا عرفنا أن شرق المنطقة تسيطر عليه قوات حفتر وكذا البحر شمالًا، والجنوب قامت المدن التي تقع على الطريق بغلق المنافذ (أقدمت قوات تابعة لمدينة بن وليد على إغلاق جميع الطرق والوديان المؤدية إلى المدينة تحسبًا لانسحاب قوات الجضران نحو المدينة بعد هزيمتها وإخراجها من الموانئ النفطية في منطقة خليج سرت)(7).

عدم قتل أو أسر أي من قادة الهجوم الخمسة بمن فيهم الجضران.

وظل الكل يترقب الظهور العلني التالي للجضران، الذي ترجح صحيفة المتوسط الليبية أنه هرب إلى مدينة مصراتة (8).

سياقات ودلالات توقيت الهجوم

لا شك أن القوات المهاجمة للموانئ النفطية قد اختارت توقيت الهجوم بدقة؛ حيث يأتي هذا الهجوم في وقت تشارك معظم قوات حفتر في القتال في درنة، وهو الأمر الذي يعزو له معظم المراقبين والمحليين سرعة سيطرة المهاجمين على الميناءين، كما أنهم يرمون إلى أن هذا الهجوم يأتي في المقام الأول لتشتيت جهود قوات حفتر عبر إنهاك قواته عن طريق فتح عدة جبهات قتال متفرقة تخفف الضغط عن المقاتلين في درنة، وكنت أميل إلى هذا الرأي إلى أن شاهدت كيف تم تحرير الميناءين!

هذا الهجوم يأتي أيضًا في وقت وصلت فيه مشاورات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بقيادة فايز السراج مراحل متقدمة. وتشير التسريبات إلى أن خطوات تشكيل هذه الحكومة قطعت أشواطًا كبيرة، وأن عدد وزارات حكومة تسيير الأعمال هذه يتراوح بين 23 إلى 25 وزارة مقسمة على النحو التالي:

  • سبعة وزراء من ترشيح برلمان طبرق، أربعة منهم تابعون لخليفة حفتر.
  • سبعة وزراء رشحهم المجلس الأعلى للدولة، نصيب الإخوان منهم خمسة وزراء.
  • ستة وزراء رشحهم فايز السراج، خمسة منهم من طرابلس، والسادس من الجبل الغربي.
  • وزيران من الصف الثاني لكوادر أنصار النظام السابق (الاثنان من الجنوب).

وزير للأقليات (من الأمازيغ).

هذه المحاصصة يبدو أنها لا تُرضي حفتر، طالما أن وزراء الإخوان يفوقون عدد وزرائه، وهو الذي لا يُخفي صراحة عداءه للاتفاق السياسي، ويصر على أن المؤسسة العسكرية لن تخضع للسلطة التنفيذية المنبثقة عن الاتفاق السياسي؛ حيث قال في مقابلة صحفية: “…هناك توجه دولي عام يضغط باتجاه أن تخضع المؤسسة العسكرية إلى السلطة التنفيذية المنبثقة عن الاتفاق السياسي، ونحن نرفض هذا التوجه بالمطلق؛ لأنه يتعارض مع مصلحة المؤسسة ويعرِّضها للخطر…”(9).

واللافت في هذا الهجوم أنه أتى في خضم ترتيبات ما بعد لقاء باريس، 29 مايو/أيار 2018، وبعد عودة حفتر من رحلة الاستشفاء الأخيرة المثيرة.

ورغم ما يحوم حول الهجوم من شكوك وما خلَّف من علامات الاستفهام، إلا أن المتتبع للشأن الليبي يدرك دون كبير عناء حجم العداء بين الرجلين (حفتر والجضران)؛ لذا أرى أن القول بأن الرجلين اتفقا على هذه المسرحية قول لا يستقيم، وتدحضه الوقائع والمعطيات منذ 2016 حتى الآن، والأرجح أن الجضران تم استدراجه إلى هذا الكمين عبر وعود وتنسيقات من جهات في شرق ليبيا، والغرب الليبي وتحديدًا في طرابلس (أطراف من حكومة الوفاق)، وبعض قادة الميليشيا في الجبل الغربي وفي مصراتة وورشفانة وبني وليد.

ففي بيان الجضران الأول، ادعى تبعيته لحكومة الوفاق، التي سارعت إلى نفي هذا الأمر، أما في بيانه الثاني من داخل فندق راس لانوف، فقد وجَّه الدعوة تحديدًا إلى قبائل برقة وورشفانة وورفلة (بني وليد)! فقد بات من المعروف أن كبرى القبائل الليبية في شرق ليبيا (برقة)، لم تعد على وفاق مع حفتر وإنْ كانت لم تناصبه العداء العلني بعد.

ورشفانة معقل الجماعات المتطرفة من أنصار النظام السابق، الذين يتبنى معظمهم الحل العسكري لتصفية الحسابات مع منظومة فبراير/شباط، عكس بني وليد (ورفلة) التي آثرت الصلح والمساعي الحميدة، وهي منذ سنوات من أشد دعاة المصالحة الوطنية في ليبيا عبر مجالسها الاجتماعية (مجالس القبائل).

وعلى هذا الأساس، فإن الجضران والقوات التي معه (سرايا الدفاع عن بنغازي والمرتزقة)، كانوا الطلائع فقط لقوة أخرى وُعِد بأن تلحق به بمجرد دخوله الهلال النفطي.

على أن اللقاءات والبرامج الحوارية طيلة أيام الهجوم على الموانئ في القنوات التابعة لحفتر كانت لا تفتأ تُقحم بني وليد وورشفانة وحكومة الوفاق في الصراع الدائر في منطقة الهلال النفطين دون سند أو دليل على الأرض.

ردود الفعل محليًّا وخارجيًّا

داخليًّا، كانت الجماعة الليبية المقاتلة الجهة الليبية الوحيدة التي أعلنت مساندتها للهجوم، ورغم محاولات الجضران القول إنه تابع لحكومة الوفاق الوطني بطرابلس، إلا أن رئيسها فايز السراج ندد، وبشدة، بالهجوم ونفى أن تكون حكومته قد أرسلت أية قوة إلى منطقة الهلال النفطي.

وقد قوبل الهجوم برفض دولي ووصفته كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بالعمل الإرهابي، في حين عدته فرنسا عملًا معرقلًا وغير مقبول، ووصفته بعثة الأمم المتحدة للدعم بالعمل المقوِّض للجهود الرامية إلى تسوية سياسية في ليبيا.

أما دول الجوار العربي هي الأخرى فقد نددت بالهجوم، رغم تفاوت حدة اللهجة في بياناتها حيال التصعيد الحاصل في منطقة الهلال النفطي، وتلاقت صحافة الكرامة (التابعة لحفتر) وصحافة أنصار النظام السابق في اتهامها لقطر وتركيا بأنهما وراء هجوم قوات الجضران. فصحف أنصار النظام تحمِّل قطر وتركيا والإخوان وزر الهجوم في حين تصر الصحافة التابعة لحفتر على اتهام كل من الدوحة وأنقرة وروما(10). وذهبت الصحف الإماراتية بعيدًا في هذا السياق حدَّ القول: إن الهجوم على الموانئ النفطية بمنطقة الهلال النفطي تم تنسيقه في الدوحة، وتُردف بأن إبراهيم الجضران سافر، في شهر مايو/أيار 2018، مرات عديدة من مطار مصراتة إلى الدوحة عبر إسطنبول والتقى في الدوحة بمسؤولين قطريين وعدوا بتمكينه من كل أنواع الدعم لتنفيذ مهمته. وتقول صحيفة البيان الإماراتية: إن الجضران التقى في الدوحة بالمعارِض التشادي، تيمان أرديمي، المقيم في الدوحة، وزوده بمرتزقة تشاديين! وكتبت البيان قائلة: “وكان مصدر عسكري ليبي، أكَّد أنَّ تحركات واتصالات رُصِدت تؤكد حشد قطر عملاءها في ليبيا للانقضاض على منطقة الهلال النفطي من أجل تدميره؛ حيث تضخ أموالًا للجماعات الإرهابية وعلى رأسها ما يُعرف بسرايا الدفاع عن بنغازي ومجلس شورى ثوار بنغازي وأجدابيا”. وعلمت “البيان”، أن المخابرات العسكرية الليبية تمكنت من رصد اتصالات بين قادة الجماعات الإرهابية وقادة تنظيم الإخوان في تركيا وقطر، استعدادًا لتنفيذ الهجوم على منطقة الهلال النفطي(11).

وتأتي اتهامات جريدة البيان الإماراتية لقطر وتركيا في سياق إعلامي مرتبط بأزمة الخليج لا تخفى أبعاده الدعائية والتحريضية؛ إذ يحاول بشكل خاص توريط الدوحة وإدخالها في صراعات ينفي القطريون علاقتهم بها وتصر دول الحصار على ربطها بقطر دون تقديم إثباتات ملموسة.

ويرى المراقبون أنه تم إقحام إيطاليا، استباقًا لزيارة وزير داخليتها، ماتيو سالفيني، المقررة إلى حكومة الوفاق في طرابلس.

مآلات الصراع

إن التصعيد الأخير في منطقة الهلال النفطي خرج منه حفتر المستفيد الأكبر؛ حيث فرض نفسه كرقم صعب في المعادلة الليبية، وعزَّز من موقفه التفاوضي، لاسيما بعد قرب إنهائه لمعركة درنة، وسيفتح الانتصار الأخير شهية خليفة حفتر على العاصمة طرابلس التي يتربص بها الدوائر منذ سنتين. فضلًا عن أن التصعيد الأخير عزز من مكانة حفتر داخل صفوف المتطرفين من أنصار النظام السابق الرافضين للتسوية السياسية.

وستطبع الأحداث الأخيرة في الهلال النفطي الليبي بميسمها قادم الأيام وبوتيرة متسارعة، لا مكان فيها للتسويات السياسية أو المسار السلمي، فرغم تطلع معظم الليبيين إلى التسوية السياسية لوضع حد للتردي الحالي، والانسداد السياسي، إلا أن قادة المشهد الراهن يرون خلاف ذلك.

تعليقات