حديث في ليبيا هذه الأيام عن ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية، على أمل ضمان الاستقرار في المرحلة التي تسبق إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة، نظريا، لأواخر العام.
وهناك من يُراهن على أن تشكيل مثل هذه الحكومة الائتلافية يُقلل من الضغوط على المسار الانتخابي، ويُلزم جميع الأطراف المشاركة بقبول مخرجات الانتخابات، واستطرادا تفادي العودة إلى مناخات الانتخابات الأخيرة، لمّا انشطر البلد بسبب الخلاف حول نتائجها. وفي معلومات المُتحمسين لهذه الفكرة أن هناك اتصالات جارية بين أعضاء من المجلس الرئاسي (طرابلس) وأعضاء من مجلس النواب (طبرق) لإيجاد آلية تُمكن من منح الثقة لحكومة الوحدة الوطنية المنوي تأليفها. غير أن مقومات اجتراح هذا الخيار غير موجودة في الواقع، فالقوتان الرئيستان في الغرب والشرق لا تطرحان هذه الإمكانية، ومازالتا تُلغيان بعضهما بعضا إلى حد رفض الجلوس معا في ضيافة الفرنسيين أخيرا في باريس، فكيف سيعملان معا في حكومة واحدة؟ وإن لم تشمل حكومة الوحدة الوطنية مجلس النواب والمجلس الرئاسي، فكيف ستكون حكومة وحدة؟ وكيف تكون وطنية؟
ضوء أخضر
الظاهر أن أصحاب هذه المبادرة يسعون للظفر بموافقة المجلس الرئاسي ومباركة مجلس النواب في آن معا، وفي هذا السياق عقدوا اجتماعين مع  ممثلي بعض الكتل في «الرئاسي» وبعض الأعضاء في مجلس النواب لضمان ضوء أخضر للمبادرة. واتخذت الاتصالات منحى يُركز على الإبقاء على الجسمين البرلمان والمجلس الرئاسي، على أن يتولى الرئاسي تسمية وزراء حكومة الوحدة بعد التشاور مع مجلس النواب «ضمانا لتمثيل جميع المناطق» على ما ذكر المبادرون.
يتم تشكيل حكومات الوحدة الوطنية عادة لدى انطلاق التجارب الانتقالية، لكي يقود الفرقاء المتخاصمون معا قاطرة الانتقال الديمقراطي، أو بعد انتخابات تتعادل فيها القوى، ولا يقدر أي طرف على الانفراد بالحكم. أما في الواقع الليبي فالانتخابات مقبلة مبدئيا، ومن يتولى الإعداد السياسي والقانوني والمادي لها هو الهيئة العليا للانتخابات، وليس أي طرف آخر، فماذا ستكون وظيفة حكومة الوحدة الوطنية في هذه الحال؟ الاحتمال الوحيد هو اللجوء إلى هذه الصيغة بعد الانتخابات، في حال لم يقدر أي طرف على الفوز بالأغلبية. وحتى في هذه الحال، تظل المخاوف قائمة ومُبررة من تكرار سيناريو 2014، عندما رفض أحد الأطراف القبول بنتائج الصندوق، لكن الأرجح أن هذه الفكرة تحمل بذور تشققها منذ انطلاقها، بعدما أبان بعض الداعين إليها عن خلفياتها المناطقية. وأفيد بأن بعض أعضاء مجلس النواب شكلوا مجموعات من «التكتلات المؤقتة» اعتمدت في غالبيتها معايير جهوية، فقد لوحظ أن النواب توزعوا على كتل مناطقهم، بدعوى «ضمان التمثيل المتساوي» لجميع المناطق في الحكومة المأمولة. وهذه مؤشرات إلى أن الكيان الجديد سيكون حلبة صراع بين النزعات المناطقية، ومصدرا لمزيد من التجاذبات والصراعات حول كيفية تقاسم الكعكة. واستطرادا فإن فتح سوق للمزاد في هذه المرحلة بعنوان تأليف «حكومة الوحدة الوطنية» سيشكل حجر عثرة أمام إجراء الانتخابات نفسها وتنفيذ بنود خريطة الطريق.
محو الجرائم؟
على الطرف الآخر من المشهد تعمل قوى الماضي، متسلحة بالإمدادات المادية والمعنوية من الداخل والخارج، على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ومعاودة بناء أجهزة «الجماهيرية» وأذرعها، خاصة منها العسكرية والمالية. ويتطلع رموز النظام السابق إلى سن قانون العفو العام، لكي يُعيد سيف الاسلام القذافي إلى دائرة العمل الشرعي، لأن الأحكام القضائية الصادرة في حقه تحول دون انخراطه في العمل السياسي مُجدَدا. والعفو العام عفوان: عفوٌ تشريعي يُصدره البرلمان ويمحو الجرائم، مُعتبرا كأنها لم تحصل، وهو لا يتعلق بالأشخاص وإنما بالوقائع. أما العفو الخاص فهو عبارة عن قرارات اسمية تخص أشخاصا بعينهم دون الوقائع. وتُقدم التجربة التونسية في هذا المجال سابقة تستحق الوقوف عند دروسها، إذ صدر قانون العفو العام عن كافة الجرائم السياسية في أعقاب الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي. ولم تمض أسابيع على إخلاء سبيل المعفي عنهم حتى عاد بعض المتشددين، وأساسا من تنظيم «أنصار الشريعة»، إلى حمل السلاح ضد الدولة، مُستأنفين «الجهاد ضد الطاغوت» (الجيش والشرطة والحكومة). وعلى هذا فإن التدقيق في منح العفو أو حجبه يتطلب التحري العميق والتثبُت الشديد لكي لا يستفيد منه من لا يستحق.
وفي الوضع الليبي تبرزُ حالة سيف الاسلام القذافي بوصفها حالة فريدة، فاعتقاله تم من قبل جهة خارج الدولة، واحتجازه تم أيضا في غير مراكز الاحتجاز الرسمية، التي يراقبها القضاء، كما أن الإفراج عنه (إن تم فعلا) جرى كذلك بأمر يُرجَحُ أنه من خارج القضاء. لا يتعلق الأمر هنا بقانون العزل الذي كان خطأ تاريخيا كبيرا عرقل المسار الانتقالي في ليبيا، بإقصائه كل الذين عملوا في مواقع مدنية وإدارية في ظل النظام السابق، ما حرم البلد من غالبية كفاءاته، على اعتبار أن جميع الليبيين كانوا (ومازالوا) يعملون في مؤسسات الدولة. لكن المُستهدفين من العزل كان ينبغي أن يقتصروا على أقلية ممن عملوا في أجهزة القمع، وارتكبوا جرائم ضد مواطنيهم، أو اختلسوا المال العام.
السطو على الاحتياطات
لا يستقيم فهمُ عناصر المشهد الليبي من دون إلقاء الضوء على أدوار اللاعبين الدوليين والاقليميين، الذين طفت تداخلاتهم على سطح الأحداث، منذ الأيام الأولى لانتفاضة 17 فبراير 2011، وكانوا سببا في تكديس جميع أنواع الأسلحة، بالإضافة للأسلحة التي تم الاستحواذ عليها من مخازن الجيش الليبي. وهذا البُعد هو الذي صنع الفارق بين الانتفاضتين التونسية والليبية، إذ أن تسليح من باتوا يُدعون بـ»الثوار» أغرق البلد في بحر من وسائل القتل، التي لم يتوان أمراء الميليشيات عن استخدامها للسطو على احتياطات مصرف ليبيا المركزي وسائر مؤسسات الدولة. وما من شك بأن انتشار أعمال الخطف والاغتيال والابتزاز في الحواجز ونقاط التفتيش غير القانونية، جعل المواطن يستدعي ذكرى الدولة الاستبدادية بوصفها كانت سدا في وجه الفوضى وما يُرافقها من انتهاكات. لكن بخلاف ما كان متوقعا، فإن العنف المنتشر في كل مكان، لم يُثن المواطن عن الإصرار على المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، مثلما دلَ على ذلك خروج الجموع في ذكرى اندلاع الانتفاضة إلى ساحة الثورة بأعداد غفيرة، حاملين رايات الاستقلال ثلاثية الألوان، فيما اختفت راية «الجماهيرية» الخضراء. ويرصد الايطاليون هذه المتغيرات عن كثب لأنهم مهتمون اهتماما خاصا بالمنطقة الغربية، حيث تتجمع أكثرية الحقول التي تُديرها شركاتهم النفطية والغازية. وهم يسعون إلى تركيز حكومة قوية تكون قادرة على احتواء موجات الهجرة غير النظامية، وحماية مصالحهم ومنشآتهم. والأرجح أن الحكومة اليمينية الجديدة في روما ستكون أكثر تشددا من سابقاتها في التعاطي مع حكومة الوفاق الليبية في طرابلس، لأنها تحتاج إلى تسويق هذا التشدُدُ لدى الرأي العام الإيطالي للمحافظة على تقدُمها على منافسيها الوسطيين واليساريين.
في المقابل، تُركزُ فرنسا أنظارها على الهلال النفطي، حيث مصالح شركتها الرئيسة «توتال» وأيضا على إقليم فزان (جنوب) الذي يقع عند مركز التقاطع بين مستعمرات الامبراطورية الفرنسية، الممتدة من النيجر ومالي غربا، إلى تشاد وقسم من السودان شرقا. وساهم عقد مؤتمر المصالحة الأخير في باريس، ومُخرجاته المتعلقة بوضع خريطة طريق لتسوية سياسية للأزمة، في تقريب جميع الفرقاء من الموقف الفرنسي، وإن كانت ترجمتُهُ على الميدان ليست بالأمر اليسير. أما الولايات المتحدة، فتعتبر الملف الليبي ثانويا في المرحلة الراهنة، قياسا إلى الملفات الكبرى التي تُوليها عناية أهم، مثل الملفين الإيراني والكوري. وهي تقتصر في المرحلة الحالية على توجيه ضربات جراحية في جنوب ليبيا، لعناصر قيادية في تنظيمي «القاعدة» و»الدولة»، في إطار تعقُب المُشتبه بضلوعهم في اغتيال السفير الأمريكي لدى ليبيا كريستوفر ستيفنز في مقر القنصلية الأمريكية في بنغازي عام 2012. ويُعتقدُ أن تنظيم «أنصار الشريعة» المتحالف مع «تنظيم الدولة» هو الذي دبّر عملية الاغتيال.
دول الجوار
تبدو دول الجوار الأكثر ضررا من استمرار الفوضى في ليبيا، لأن غياب الدولة أوصل العناصر المسلحة إلى حدود هذه البلدان المتاخمة لليبيا، سواء في الشرق مع مصر، أم في الغرب مع الجزائر وتونس. وتُكلف الاحتياطات العسكرية والأمنية الجزائرية، لاحتواء الأخطار الارهابية الآتية من ليبيا، نشر أكثر من 50 ألف عسكري ودركي على الحدود مع هذا البلد. وتُثقل هذه الكلفة الباهظة كاهل الدولة المتضررة أصلا من تراجع عائدات النفط والغاز، والمُهددة بموجات احتجاج على ارتفاع الأسعار وقلة فرص العمل والسياسات التقشفية التي تتوخاها السلطات. وتُجابه تونس وضعا مماثلا بسبب حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها، وسط استمرار الأخطار الإرهابية، التي تُؤكد الاعتقالات الكثيفة للعائدين من سوريا والعراق وليبيا أنها جدية ولا يمكن التهوين منها.
بهذا المعنى، وبعيدا عن توقعات سيف الاسلام معمر القذافي، بأن «ليبيا ستصبح صومال المتوسط»، يبدو طريق المصالحة والتسويات بين الإخوة الأعداء في ليبيا متعرجا ومليئا بالأحجار والحواجز، ما يجعل تنفيذ الروزنامة التي تم الاعلان عنها في باريس، بطيئا ومتعثرا.
كاتب تونسي

 

 

 

تعليقات