– رشيد خشانة –

دخل الصراع في ليبيا انعطافا جديدا مع إقدام رئيس الوزراء الايطالي جوزيبي كونتي على قلب الطاولة على اللاعبين والسعي للانفراد بحل الأزمة الليبية. وعلى الرغم من ضبابية الخيار الذي دعا إليه كونتي في ختام محادثاته مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، فالواضح أنه قوض الجهود الفرنسية الرامية لتنفيذ خارطة طريق تُفضي إلى إجراء انتخابات عامة في العاشر من ديسمبر المقبل. واستطرادا فإن نسف نتائج مؤتمر باريس يُشكل عودة إلى المربع الأول، لكن مع مُتغير بارز يتمثل بتسليم واشنطن مفتاح الملف الليبي للحكومة الشعبوية في روما، بقيادة “حركة الخمس نجوم” و”رابطة الشمال”، القريبتين فكريا من ترامب، إن جاز أن تُصنَف الشعبوية بين الأفكار.

غضبٌ مكتومٌ

غير أن الغضب الايطالي من سيطرة فرنسا على الملف الليبي ليس موقفا جديدا، فلم تُخف الحكومة السابقة برئاسة باولو جنتيلوني حنقها الشديد من جمع الغريمين فائز السراج وخليفة حفتر في باريس في يوليو/ تموز العام الماضي، من دون التنسيق معها. واضطُرَ السراج للتوقف في روما في طريق عودته إلى طرابلس من أجل تهدئة غضب الايطاليين. ثم أبصرت العلاقات الفرنسية الايطالية أزمة أكبر مع مبادرة الرئيس الفرنسي يوم 29 مايو/ أيار الماضي، إلى جمع أربعة من الفرقاء البارزين في الصراع الليبي وهم، بالاضافة للسراج وحفتر، رئيس البرلمان (شرق) عقيلة صالح ورئيس مجلس الدولة (غرب) خالد المشري.

أمعن الفرنسيون في تهميش الايطاليين الذين لم يُدعوا في تلك المناسبة حتى للحضور، في إطار ما اعتُبر محاولة فرنسية للانفراد بالملف الليبي، بما يترتب على ذلك من إحراز مركز متقدم في قطف صفقات إعادة الاعمار، بعد نهاية الحرب الأهلية. والأرجح أن الحكومة الايطالية الحالية عرفت كيف تقتنص فرصة وجود ترامب في البيت الأبيض، وكيف تستثمر خلافه الأخير مع الرئيس الفرنسي ماكرون أثناء قمة السبعة الكبار للحلول محلَ فرنسا في إدارة الملف الليبي. والظاهر من تصريحات رئيس الحكومة الايطالية كونتي في واشنطن، أن إقدامه على قلب الصحن وتقويض خارطة الطريق لم يكن مجرد “فشة خلق”، وإنما هو توافق أمريكي إيطالي على تجديد التحالف العتيق، الذي صاغه أركان “الديمقراطية المسيحية” الايطالية في القرن الماضي، في مواجهة المد الشيوعي، وخاصة تنامي قوة الحزب الشيوعي الايطالي، الذي كان أكبر حزب شيوعي في أوروبا الغربية.

إيطاليا والحلف الأطلسي

خطوة كونتي في واشنطن، كانت بهذا المعنى، عودٌ إلى بداية انضمام إيطاليا للحلف الأطلسي، ذاك الحلف الذي يملك في الجنوب الإيطالي قاعدة مركزية هي “سيغونيلا”، التي يُشرف من نافذتها على كامل الحوض الغربي للمتوسط وشمال أفريقيا. ويعكس ثبات الموقف الايطالي منذ حكومات حزب “الديمقراطية المسيحية” السابقة إلى الأحزاب الشعبوية اليوم، استقرار علاقات التحالف مع واشنطن، وهو الاستقرار الذي لم تجده أمريكا في علاقاتها مع فرنسا، المُتسمة بهزات متوالية، منذ عهد الرئيس الأسبق شارل ديغول، وكان بعضُها صامتا وبعضها الآخر مُعلنا. على هذا الأساس منح ترامب توكيلا لكونتي بإدارة الملف الليبي، فيما سارع كونتي إلى الإعلان عن العودة إلى نقطة الصفر، أي تقويض الجهود التي بذلتها أطراف عدة بينها فرنسا، لوضع خريطة الطريق على سكة التنفيذ.

لم يكن إعلان كونتي عن منح التفويض الأمريكي لحكومته مجرد رغبة بإغاضة باريس، أو الثأر لمعاملة بلده كلاعب صغير في الصراع الليبي، وإنما هو استقواءٌ بالحليف الأكبر يتضمن رسالة واضحة إلى جميع المعنيين بالملف الليبي، مفادُها أن رأي واشنطن هو رأي روما ورأي روما هو رأي واشنطن، ومن يُريد شق عصا الطاعة على أمريكا فليُجرب حظه!

غرفة في البحر المتوسط

من هذه الزاوية نفهم التشديد على أهمية “غرفة العمليات الدائمة” بين أمريكا وإيطاليا في البحر المتوسط، وخاصة في مجالي مكافحة الارهاب والتصدي للهجرة غير النظامية. كما يمكن أن نفهم أيضا ما نقله كونتي عن ترامب من أن إيطاليا ستغدو “المرجعية في أوروبا في كل ما يتعلق بالملف الليبي، والمُحاور المتميز مع الولايات المتحدة في هذه القضايا الأساسية”. بهذه الخلفية، اقتصرت زيارة كونتي لواشنطن واجتماعه مع ترامب في البيت الأبيض على درس ثلاثة ملفات اثنان منها يخصان الأزمة في ليبيا، وهما الارهاب والهجرة، والثالث يتصل بالعلاقات التجارية الثنائية. وهذا يدلُ على الأهمية التي توليها الادارة الأمريكية للحد من الحركة الفرنسية في ليبيا واستطرادا في منطقة الساحل والصحراء، حيث تنشر باريس في إطار عملية “برخان” أربعة آلاف عسكري بين مالي والنيجر، منذ الأول من أغسطس/ آب 2014.

بالمقابل لا تولي الادارة الأمريكية اهتماما للملف الليبي، عدا ما يتصل بالحرب على الارهاب وملاحقة المسؤولين عن الهجوم الذي استهدف القنصلية الأمريكية في بنغازي العام 2012، والذي أودى بحياة ثلاثة أمريكيين بينهم السفير كريستوفر ستيفنز. كما تستهدف الضربات الجوية الأمريكية في ليبيا، التي لم تنقطع أبدا، قياديين مفترضين في الجماعات الارهابية، وبخاصة “تنظيم الدولة” و”القاعدة” و”أنصار الشريعة”. لكن بالرغم من الخطط التي وُضعت لاحتواء تلك الجماعات وكسر شوكتها، يعتقد خبراء أنها حافظت على قوتها العسكرية والمالية، واستطاعت أن تسحب من مدينة سرت قسما من مقاتليها لم يتسن تقديرُهُ، بالاعتماد على مساومات، لقاء الانسحاب بأقل معارك ممكنة. وزادت أهمية الساحة الليبية في الموازين الأمريكية بعد هزيمة “تنظيم الدولة” في كل من سوريا والعراق، وخاصة بعد إخراجه من الموصل والرقة، إذ أن ليبيا تقع في نقطة الوصل بين المشرق العربي وشمال الصحراء الكبرى، ما يُتيح للعناصر المنسحبة ملاذا آمنا نسبيا.

ما خطة كونتي لحلحلة الأزمة الليبية؟ يبدو أن رئيس الحكومة الشعبوي لم يحمل في حقيبته خطة للحل في ليبيا، وما كان الرئيس الأمريكي في وارد مناقشة هكذا خطط مع ضيفه، فاكتفى بطرح مبادرة إقامة مؤتمر للصلح قال إنه يحرص على أن يحضره جميع الفرقاء. وقدم كونتي، على ما رشح من تصريحاته، مُقترحين واضحين في شأن الملف الليبي، أولهما تأمين مشاركة أمريكية “فاعلة” في مؤتمر الصلح، وتجاهل المبادرة الفرنسية في إطار العمل على عرقلة الدور الفرنسي في ليبيا.

توقيت المبادرة

لكن لماذا ظهرت هذه المبادرة الآن؟ أتى خروج كونتي المُفاجئ من واشنطن في مثابة رد على التقدم الذي أحرزه الفرنسيون في التقريب بين وجهات نظر الفرقاء، وخاصة بعد جولة مكوكية لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان التقى خلالها بشكل منفصل كلا من رئيس البرلمان عقيلة صالح والقائد العسكري خليفة حفتر ورئيس حكومة الوفاق فائز السراج ورئيس مجلس الدولة خالد المشري. ولم ينس لودريان مدينة مصراتة ذات الوزن السياسي والاقتصادي الكبير، والتي قاطع ممثلوها مؤتمر باريس. ومصراتة التي تسيطر عليها جماعات أصولية تتحكم بالعاصمة طرابلس، مُصنفة كمدينة متحالفة تاريخيا مع الايطاليين. وربما كان الوزير لودريان أول مسؤول فرنسي رفيع المستوى يزورها منذ سنوات بعيدة. وخلال معركة تحرير مدينة سرت من العناصر المسلحة التي استولت عليها، وقف الإيطاليون إلى جانب مصراتة حيث أقاموا مستشفى ميدانيا وأرسلوا مئات الجنود لحراسته.

تدعم إيطاليا حكومة الوفاق في طرابلس برئاسة السراج ولا تُطيق غريمه حفتر الذي تُحمله مسؤولية الأزمة السياسية في ليبيا، مُذ أطلق عملية “الكرامة” لمقاتلة الجماعات الأصولية والتيارات المتشددة في 2014. ودللت إيطاليا من خلال الابقاء على سفارتها في طرابلس مفتوحة على مدى سنوات، على عكس السفارات الغربية الأخرى، على أن علاقاتها جيدة مع الجماعات المتحكمة بالعاصمة، والتي تحمي الحكومة الليبية نفسها. من هنا أقدم كونتي على وضع فيتو على المسار الذي كانت تديره فرنسا، ليقول لها وللأطراف الأخرى أن الحلَ في ليبيا يمرُ عبر روما. وساعده في ذلك اللوبي الايطالي العريق في واشنطن، والذي استثمر التباعد بين موقفي الخارجية الأمريكية وأجهزة المخابرات، ليشتغل على مستشار الرئيس للأمن القومي جون بولتون ويُعدل الموقف الأمريكي على نحو يُكرس روما مرجعية لأمريكا في أوروبا، ومخاطبها الأول في شأن الملف الليبي. أكثر من ذلك حصل الإيطاليون على الضوء الأخضر من واشنطن لعقد مؤتمر دولي في الخريف لمعالجة الأزمة الليبية، ما يعني تعليق خريطة الطريق المُنبثقة من مؤتمر باريس في الربيع الماضي، والتخلي عن مشروع الانتخابات التي كانت مقررة للعاشر من ديسمبر المقبل، والتي يعتبرها الايطاليون غير واقعية. وقد أقنعوا البيت الأبيض بأنها مجازفة غير مضمونة النتائج.

غريمان نفطيان

ينسجم موقف الادارة الأمريكية في الملف الليبي مع سياستها العامة التي تُركز في الدرجة الأولى على مكافحة الارهاب والهجرة، وهي لا تعتبر الملف الليبي من أولوياتها. أما إيطاليا فأهدافها واضحة وهي لم تتغير منذ مطلع القرن الماضي، فعلى الرغم من تصريحات كونتي في واشنطن، وقد كاد يُقسم أن النفط والغاز ليسا محرك سياسة بلده في ليبيا، كانت زيارة المدير التنفيذي لمجموعة “إيني” الايطالية العملاقة إلى ليبيا، في اليوم نفسه تقريبا، استعجالا لقطف ثمار التحول في السياسة الأمريكية. فالمدير التنفيذي لمؤسسة “إيني” كلاوديو ديسكالزي زار طرابلس في مهمة ترمي لتوسيع أنشطة المجموعة واستكشاف حقول جديدة للنفط والغاز، في نوع من السباق الشديد مع غريمتها الكبرى مجموعة “توتال” الفرنسية. وأماطت صحيفة “فينانسيو ميلانو” المتخصصة بالشؤون الاقتصادية اللثام عن خلفية الصراع فكتبت تقول إن زيارة ديسكالزي إلى طرابلس شكلت “خطوة حاسمة على طريق مواجهة شركة “توتال” الفرنسية”، من دون إعطاء تفاصيل عن تلك المواجهة.

الأكيد أن الأزمة الليبية زادت تعقيدا بالتخلي عن خارطة الطريق، الرامية لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في الخريف، ما يفتح الباب أمام عودة العنف والحرب، وسط اشتداد الصراع الدولي على ثروات البلد، بعنجهية لا تقلُ عن جشع الامبراطوريات الاستعمارية الآفلة، ما سيجعل الليبيين يدفعون فاتورة الصراعات مُجددا. لذا فإن مفتاح الحل الحقيقي بأيدي الليبيين أنفسهم، لأنهم هم وحدهم القادرون على إنقاذ بلدهم من التفكك والانحلال، وهم الذين سيهبونه لقمة سائغة إلى الطامعين، إذا ما أمعنوا في الخلاف والتنابُذ.

تعليقات