رشيد خشانة

لا يكاد يخلو أسبوع من اجتماع أو مؤتمر في روما أو تونس أو القاهرة أو مالطا، تحت عنوان تحقيق المصالحة الليبية الليبية. وبات توالي المؤتمرات والاجتماعات في الفنادق الفخمة أقرب إلى مُسكن للآلام التي يُعاني منها الجسد الليبي، المُخرَب برصاص الجماعات الارهابية والكيانات المسلحة، التي لا تختلف عنها في مرجعياتها الفكرية. وبعد مضي أكثر من أسبوعين على مؤتمر باليرمو، الذي أرادت إيطاليا أن تستعيد من خلاله أوراق الملف الليبي، يتأكد أن العناوين الكبيرة التي أعطيت لذلك اللقاء تختلف عن مضامينه الهزيلة.

لم تُحلَ عُقد الأزمة الليبية في روما كما لم تُحلَ قبل ذلك في لقاء باريس، لأن مفاتيح الحل توجد في داخل ليبيا، بين أيدي شيوخ القبائل ورؤساء البلديات ومكونات المجتمع المدني ومن تبقى من مؤسسات الدولة، على علاتها المعروفة. أما المبادرات الفرنسية والايطالية وما يُرافقها من مناكفات، تنزل أحيانا إلى مستوى صبياني، فهي مضيعة للوقت وإهدار للطاقات والأموال. وقد جرت محاولات كثيرة لعقد “المؤتمر العام الجامع للمصالحة”، إلا أن عقبات كثيرة مازالت تعرقل إنضاج الشروط لاجتراحه، فلا معنى لهذا المؤتمر إن لم يُعقد على أرض ليبيا وبالليبيين في مبتداه ومُنتهاه.

وفي جميع المبادرات السابقة بما فيها مؤتمر باليرمو لا يتم الإعلان عن خارطة طريق إلا لنسف خارطة سابقة والعودة إلى نقطة البداية، فبعد أجندا الصخيرات أتت أجندا باريس التي حددت ميقات إجراء الانتخابات بالعاشر من ديسمبر المقبل، ثم أتت أجندا باليرمو لتُرجئه إلى الربيع. ولا شيء يدل على أن جميع الأطراف ستلتزم بهذا الميقات. والأصعب من ذلك أن تتفق على كيفية نشر قوات عسكرية وأمنية نظامية في العاصمة طرابلس، مثلما جاء في بيان باليرمو، وإخراج الميليشيات من المدن ونزع أسلحتها، وفق الترتيبات الأمنية التي وضعتها الأمم المتحدة.

سياسة المحاور

ليس خافيا على أحد أن صراعات المحاور الأوروبية ساهمت في تأخير التفاهم بين الليبيين وعمقت الجراح، فهي التي طالما حرضت ومولت وسلحت، بدافع واحد هو الأطماع في ثروات ليبيا. وأتت فضيحة الأموال التي حولتها بلجيكا إلى جهات لا تعمل في مؤسسات الدولة لتكشف مجددا أن مصلحة بعض الأطراف الأوروبية المتورطة في الصراع الليبي تكمن في استمرار الأزمة وليس في حلها. فقد كشفت الصحف البلجيكية أخيرا أن السلطات المالية في هذا البلد تلاعبت بمبالغ ليبية مجمدة في بلجيكا منذ 2011 بقرار من لجنة العقوبات في الأمم المتحدة. وصورة التلاعب أن التجميد شمل تلك الأموال العائدة إلى مؤسسة الاستثمار الليبية، لكن لم يتم سحب التجميد على الفوائد والتي تقدر بما بين 3 و5 مليارات دولار، وأثبتت التحقيقات الأولية أن هناك مبالغ مهمة تم تحويلها إلى ليبيا. والأغرب من ذلك أن الشقيق الأصغر لملك بلجيكا الأمير لوران، الذي توقف أحد مشاريعه في ليبيا بعد اندلاع انتفاضة 2011 ، سعى إلى استعادة 48 مليون يورو قال إنه استثمرها في المشروع، الذي يندرج في إطار مكافحة التصحر. وتمكن محامو الأمير من إثبات نقل فوائد من الأموال المجمدة إلى ليبيا، لكن لم يُعرف إلى أية جهة بالتحديد. ولمَح تقرير صادرٌ عن الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي خاصٌ بالعقوبات، إلى احتمال وجود دور بلجيكي في تهريب السلاح إلى جماعات ليبية متشددة من دون إعطاء تفاصيل. المهم أن الملف يوجد حاليا بين أيدي القضاء البلجيكي، وهو يُدلل على نوعية الخروق التي تستفيد منها الجماعات المارقة في ليبيا بتواطؤ مع السلطات الحكومية في البلدان الغربية.

استمرار الشقاق

ثمة أمثلة كثيرة أخرى تُؤكد أن مصلحة بعض الأطراف المتنفذة في أوروبا تكمن في استمرار الشقاق والصراع الأهلي، لأن غياب دولة قوية يمنح تلك الأطراف هامشا كبيرا للمناورة والتأثير. وأظهرت إحصاءات رسمية إيطالية على سبيل المثال أن 9 في المئة من الوقود الموزع في محطات البنزين الإيطالية مصدرُه النفط المُهرب. وما من شك بأن عوائد التهريب تذهب أساسا إلى حسابات أمراء الجماعات أو لتمويل صفقات سلاح. من هنا تبدو الترتيبات الأمنية التي وضعتها الأمم المتحدة، والرامية إلى نشر قوات عسكرية وأمنية نظامية في العاصمة، وخروج الميليشيات من المدن ونزع أسلحتها، ترتيبات صورية. وبالرغم من أن البيان الصادر عن مؤتمر باليرمو شدد على ضرورة “إظهار المجتمع الدولي جاهزيته لفرض عقوبات على المجموعات والأشخاص الذين قد يخرقون اتفاق وقف إطلاق النار في طرابلس أو يعرقلون جهود إحلال السلام”، فإن لدى قادة الجماعات المسلحة ألف وسيلة لتفادي تلك العقوبات أو الافلات منها إذا ما .تقررت في شأنهم. والنتيجة أن الانخرام الراهن مستمرٌ إلى أجل غير معلوم، مع تزايد المخاطر الاقليمية المتمثلة بتمدُد الجماعات المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش باتجاه منطقة جنوب الصحراء والساحل، وتداعيات ذلك التمدد على أمن دول الجوار، وأساسا الجزائر ومالي والنيجر، وإلى حد ما تونس، فلا أحد معصوم من تلك التأثيرات.

مع ذلك مازالت المنافسة على أشدها بين الفرنسيين والايطاليين، إذ يحاول كل طرف أن يُدلل على أنه الأكثر أهلية لإدارة الملف الليبي في وصاية لا تختلف عن الوصاية التي عرفتها شعوب المنطقة أثناء الحقبة الاستعمارية، وكأن الليبيين ليسوا أهلا لإدارة شؤون بلدهم. ويؤثر هذا الاستقطاب إلى الخارج في سمعة السياسة والسياسيين لدى الرأي العام الليبي، الذي ما انفك يشكو من القطيعة بين تطلعاته إلى السلام والاستقرار والعيش الكريم وممارسات الطبقة السياسية التي لا تفكر سوى في تقاسم المغانم وتتصارع على قسمتها. أكثر من ذلك ساهم استخفاف السياسيين بمعاناة المواطن في ارتفاع الأسعار وشح السيولة وتدهور قيمة الدينار، وهي عناوين حارقة نكاد لا نجد لها أثرا في الخطاب الرسمي للحاكمين والمعارضين على السواء، وكأن الأزمة الاجتماعية، المعطوفة على أزمة اقتصادية، تطحن شعبا آخر في أمريكا اللاتينية أو أقاصي آسيا. واستطرادا كلما زاد شظف العيش زاد معه يأس الناس من السياسيين، وهي حالة تُعمق النقمة وتشجع على اللجوء للعنف والتدمير، وتبتعد عن وسائل التغيير السلمي التي توختها انتفاضة 17 فبراير، أقلهُ في بداياتها.

قوة شبابية

ويمكن القول إن تبعية أجنحة من الطبقة السياسية لبعض القوى الاقليمية والدولية جنت عليها وأفقدتها رصيد المصداقية الذي خاضت من خلاله التجربتان الانتخابيتان في 2012 (المؤتمر الوطني) و2014 (انتخابات البرلمان). بهذا المعنى تحتاج ليبيا اليوم إلى سياسيين من طراز جديد، هم أولئك الذين كانوا فتيانا يافعين أثناء الانتفاضة (15-17 سنة) وهم حاليا في العشرينات. ومع أن الكيانات المسلحة شكلت نقطة استقطاب لكثير من هؤلاء الشباب تحت ضغط الحاجة، فإن كثيرا آخرين يميزون الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وهم مؤهلون لو تبلورت نواة قيادة شبابية، لتشكيل تيار شعبي عريض يرفض القوى المتصارعة على الكعكة ويرسم أفقا حقيقيا للتغيير. هذه القوة الشبابية النائمة حاليا سترسل القيادات العتيقة إلى المتحف وتنتزع حقها ودورها في المشاركة من دون أن تنتظر هبة من أحد. ونلاحظ من خلال الحوارات مع هؤلاء الشباب أن مناخ الحرية النسبي أعطاهم خلال السنوات السبع الماضية فرصة لتوسيع ثقافتهم السياسية والاطلاع على تجارب انتقالية مفيدة في العالم. غير أن هذه القوة التي مازالت هلامية، يواجهها بقوة التيار النقيض ممثلا بجماعات المداخلة، وتحاربها في الآن نفسه القيادات التقليدية، الحزبية والقبلية، لأن أولئك الشباب يتبنون مفاهيم جديدة. وما يُساعد على التصدي للقوة الصاعدة حتى الآن هو أن القيم والمعاني التي تأثرت بها، والتي تشتغل عليها، مازالت لم ترسخ بعدُ في المجتمع.

تعليقات