رشيد خشانة – الظاهر أن إخفاق قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر قائد الجيش في المنطقة الشرقية في السيطرة على العاصمة طرابلس، حوَل عملية “بركان الغضب” إلى حرب استنزاف، وبات الزمن يعمل لغير صالحه. ومنذ إطلاق تلك العملية في الرابع من الشهر الجاري، كان المدنيون من سكان الضواحي الجنوبية، وبدرجة أقل الضواحي الشرقية، أول المتضررين من القتال، ما حمل عشرات الآلاف على ترك بيوتهم والهجرة إلى مناطق آمنة. وتضم طرابلس نصف سكان ليبيا، إلى جانب عشرات الآلاف من المهجرين من مناطق أخرى.

والأرجح أن الطرفين المتقاتلين باشرا مفاوضات سرية في تونس يقودها كل من سفير ليبيا في السعودية عبد الباسط البدري، المؤيد لحفتر، والطاهر السني المستشار السياسي للسراج من جانب حكومة الوفاق الوطني، لكن لم ترشح معلومات عن مضمون تلك اللقاءات السرية.

أربعة مؤشرات

ويتوقع خبراء عسكريون أن ينتهي الهجوم على طرابلس إلى الفشل، وهم يبنون هذه التوقعات على خمسة عناصر، أولها أن القيادات العسكرية المؤيدة لحفتر لم تُحسن تقويم الوضع العسكري ومراجعة حساباتها في ضوء مخاطر استخدام المدفعية والصواريخ داخل أحياء سكنية في المدينة. وثانيها أنها لجأت إلى استدعاء قوات الاحتياط، ونقلُ تلك القوات ليس باليسير، لأن خطوط الإمداد من المنطقة الشرقية إلى ضواحي طرابلس تقارب الألف كيلومتر. ويشير خبراء عسكريون أيضا إلى أن هناك توازنا في القوى المتقابلة، وهو ما يتجاهله حفتر وضباط أركانه، الذين اختاروا سياسة الهروب إلى الأمام، إذ أعلن المتحدث باسم قواته، اللواء أحمد المسماري، “أن سلاحي المدفعية والمشاة سيدخلان المعارك في الأيام المقبلة”، لكنه لم يقل كيف سيوصل الإمدادات لتلك المناطق من القواعد الواقعة في المنطقة الشرقية أو في الجنوب. ثالثا تفيد تقارير عسكرية أن القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني، المُعترف بها دوليا، تمكنت من دفع قوات حفتر إلى الخلف في ضاحية عين زارة جنوب العاصمة، بالرغم من كثافة الضربات الجوية التي نفذها الطيران الموالي لحفتر، وهو مؤشر آخر على تعادل القوى. ويتمثل العنصر الرابع في أن كثيرا من مؤيدي حفتر وحلفائه انقلبوا إلى أعداء له، وأفضل مثال على ذلك العقيد سالم جحا الذي عُرض عليه تولي رئاسة الأركان العامة، التابعة لحكومة الوفاق، قبل توحيد المؤسسة العسكرية، لكنه رفض وفتح خطوطا مع حفتر، وهو يقود حاليا قاعدة مصراتة الجوية التي تُوجه ضربات من الجو … لقوات حفتر. وحظيت قاعدة مصراتة بدعم تركي خلال السنوات الأخيرة جعلها من أهم القواعد العسكرية في ليبيا.

تفادي مصراتة

ويشكل هذا الأمر أحد الأسباب التي حملت حفتر على تفادي الخط الساحلي والابتعاد عن مصراتة لدى انتقال قواته من الشرق إلى ضواحي طرابلس. أما العنصر الخامس فيتمثل في أن حفتر مرفوض اجتماعيا في المنطقة الغربية، وقد حاول التنسيق مع قيادات عسكرية في هذه المنطقة، فلم تستجب لمساعيه سوى قلة أبرزهم عمر الداعوب، وهو أحد قيادات “فجر ليبيا” في غريان (80 كيلومترا جنوب طرابلس).

مع ذلك يستمرُ حفتر وضباطه في استخدام لهجة انتصارية مُتجاهلين عثراتهم وعجزهم عن الحسم. والغريب أن مدير مكتب حفتر اللواء خيري خليفة التميمي ذهب بعيدا في هذا المنطق الحالم، إذ أجاب على أسئلة الصحفيين الروس في موسكو أخيرا، في شأن الجدول الزمني لعملية الهجوم على طرابلس، بالقول “الجدول الزمني لن يطول، الفترة بإذن الله لن تطول، سوف تحسم القوات المسلحة العربية الليبية هذا الأمر بإذن الله، والعمل يسير حسب الخطة المدروسة من رئيس هيئة العمليات الحربية”. غير أن روسيا التي تعتبر حليفة لحفتر شككت في إمكان تحقيقه انتصارا عسكريا في هذه المعركة، وقالت صحيفة “ذي موسكو تايمز” إن قوات حفتر أخفقت في اختراق دفاعات طرابلس واضطرت إلى التراجع في بعض المناطق أمام قوات الحكومة المعترف بها دوليا، خلال الأيام الأخيرة.

توازن قوى

هذا العجز عن الحسم العسكري من الطرفين مرشحٌ للاستمرار بالنظر لتوازن القوى، وهو ما جعل من الأزمة الليبية كرة تتقاذفها القوى الدولية المتداخلة في الصراع، من دون أمل بإيجاد حل سياسي قريب، طالما ظلت هناك دول كبرى تدعم المجلس الرئاسي في طرابلس، وأخرى تقف في صف حفتر. وعلى رأس الدول الكبرى التي حشرت أصابعها في الأزمة الليبية، فرنسا التي تتسم سياستها بازدواجية ماكرة تجمع بين الدعم العلني للحكومة المعترف بها دوليا برئاسة السراج، وإمداد اللواء حفتر بالسلاح والخبراء العسكريين في الآن نفسه. وأماط الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند في تصريحات أدلى بها أخيرا لصحيفة “لوموند”، اللثام عن بداية العلاقة مع اللواء المتقاعد حفتر شارحا “في عام 2015، نصحني الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عدة مرات قائلاً: إذا أردتم أن تتفادوا أن تصبح ليبيا إسلامية، فإن حفتر هو الشخص الذي يمكنه أن يؤمن الحماية وأن يشكل الجدار، على الأقل في الجزء الشرقي من البلد”. وأردف أولاند: “حفتر هو رجل مصر!”. وزاد “أصبح حفتر تدريجياً رجل فرنسا”، موضحاً أن وزارة الدفاع الفرنسية هي من تولت الاتصالات مع حفتر خلال فترة حكمه (أي أولاند)”. وعلى الميدان، نشرت باريس، في بداية عام 2016، بشكل سري واستثنائي للغاية جنود القوات الخاصة وعملاء غير شرعيين بحسب “لوموند”. وتم إرسال العديد من المعدات العسكرية إلى خليفة حفتر عبر مصر، فيما باشر عشرات من المستشارين الفرنسيين تقديم الدعم الاستخباراتي والعسكري للواء حفتر في عملياته المناهضة للجهاديين. وفِي يوليو/ تموز 2016، اعترفت باريس بفقدان ثلاثة من جنودها، من المحتمل أن يكون قد تم إطلاق النار على مروحيتهم شرق بنغازي. وفي صيف السنة نفسها، اعتُبرت المساعدة الفنية الفرنسية حاسمة في استعادة قوات حفتر لبنغازي على ما قالت “لوموند”. وعاد التورط الفرنسي في الرمال الليبية المتحركة إلى الظهور على السطح مجددا عندما حاولت أخيرا عناصر أمنية أوروبية، غالبيتها من الفرنسيين، الوصول إلى السواحل التونسية بواسطة مركبين مطاطيين، آتين من ساحل طرابلس، فمنعهم حراس السواحل التونسيون من النزول. كما كشف وزير الدفاع التونسي عبد الكريم الزبيدي أن مجموعة ثانية مؤلفة من 13 فردا حاملين للجنسية الفرنسية، عبروا مركز رأس جدير الحدودي إلى تونس يوم 14 أبريل/ نيسان الجاري، على متن ست سيّارات رباعيّة الدفع وبغطاء دبلوماسي، مؤكدا أنه كانت في حوزتهم أسلحة وذخيرة. وأوضحت إذاعة فرنسا الدولية في الفترة نفسها، أن هؤلاء العناصر ليسوا ديبلوماسيين مثلما زعمت باريس، وإنما هم عناصر من أجهزة المخابرات. كما تم إرسال كثير من المعدات العسكرية إلى حفتر عبر مصر، لكن لم يُكشف عن نوعيتها وأعدادها. بهذا المعنى تعتبر باريس طرفا في الصراع الدائر في ليبيا، ما ينزع عنها صفة الوسيط والراعي لأي حل سياسي للأزمة في المستقبل.

قوات خاصة

وباريس ليست وحدها في هذا الموقف، فهناك قوات خاصة بريطانية وإيطالية وأمريكية منتشرة في الغرب الليبي، وتتحرك في كنف السرية لدعم حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا، أي على العكس من “الخبراء” الفرنسيين. هكذا، تقف إيطاليا المستعمر السابق في الصف المقابل لفرنسا، وهي التي وقفت إلى جانب طرابلس ومصراتة ضد تنظيم الدولة (داعش) في معركة سرت (2016). وينبغي أن يُقرأ هذا التباعد بين باريس وروما على خلفية الصراع المُحتدم بقوة بين مجموعتي “توتال” الفرنسية و”إيني” الايطالية منذ سنوات. والملاحظ أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صرح لدى استقباله رئيس الوزراء الإيطالي جيوزيبي كونتي في البيت الأبيض، أن واشنطن تمنح تفويضا لإيطاليا في الملف الليبي.

غير أن مصادر فرنسية أكدت لصحيفة “لوموند” أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والحكومة المصرية شجعتا حفتر على اقتحام طرابلس. ونقلت عن ترامب قوله للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لدى زيارته واشنطن في التاسع من الشهر الجاري “افعل ما بدا لك بشأن ليبيا”. ولعل هذه المواقف هي التي أغضبت المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، فانتقد في خطوة غير معهودة من دعاهم بـ”اللاعبين الذين يتحركون بنظرة قصيرة، لخدمة مصالحهم الخاصة، مع إعطاء الأفضلية لأحد الأطراف (في الصراع)”، مؤكدا أن هؤلاء “لا يخدمون في الواقع إلا مصالحهم، قبل كل شيء، ولا يخدمون مصالح الشعب الليبي”. والظاهر أن الفرنسيين تضايقوا من انكشاف ضلوعهم في دعم قوات حفتر بالسلاح والخبراء، فأصدروا الجمعة الماضي إيضاحا من وزارة الخارجية أكدوا فيه دعمهم لرئيس المجلس الرئاسي فائز السراج. وتزامن ذلك مع جهود غسان سلامة، الذي أبدى تفاؤلا نسبيا بوقف المعارك والاتجاه إلى مائدة الحوار قبل حلول رمضان، أي مع بداية الشهر المقبل. غير أن الحرب في طرابلس لن تتوقف فعلا إلا إذا ما اتفق الفرنسيون والإيطاليون على إنهائها، لكن ما هو الثمن؟

تعليقات