رشيد خشانة – مع تحوُل الهجوم العسكري على طرابلس إلى حرب مواقع، تأكد أن لا أحد من الطرفين المتحاربين يستطيع حسم المعركة لصالحه. كما يتأكد أيضا، يوما بعد آخر، أن الهجوم الذي أقدم عليه القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر، مبنيٌ على تقديرات غير دقيقة. وأول تلك التقديرات أنه كان يتوقع أن يستقبل الطرابلسيون جنوده بالورود، ويُفسحون لهم الطريق للوصول إلى قلب العاصمة. وثاني التقديرات الخاطئة الاعتقاد أن الأجسام العسكرية المتنافسة في طرابلس على درجة من العداء بحيث لا يمكن أن تتوافق على كلمة سواء.

خلافات مؤجلة

على أرض الواقع لم تُستقبل قوات حفتر استقبال الفاتحين، وإنما لاقت مقاومة شديدة أخرت تقدمها في الضاحية الجنوبية للعاصمة، كما استطاعت تلك الأجسام تأجيل خلافاتها واتحدت لمواجهة الغزوة العسكرية. ولذلك اقتصرت المدن التي تمكنت قوات حفتر من دخولها على أربع مدن رئيسية تمثل غلاف العاصمة (صبراتة، صرمان، غريان، ترهونة)، وتوغلت قليلا في بعض الضواحي الجنوبية لطرابلس. غير أنها تعرضت لعدة انتكاسات وتراجعت في أكثر من محور، ولم تتمكن في الأخير من اختراق الطوق العسكري حول وسط المدينة، الذي يضم المقرات السيادية، ومن بينها مقر حكومة الوفاق الوطني التي تحظى بدعم دولي.
ومن المهم التذكير هنا بأن القوات التي تصدت لتقدم حفتر لا تمثل سوى عشرة في المئة من القوات التي يمكن تجنيدها في المنطقة الغربية، إذ لم تدخل مصراتة ذات الثقل السكاني والعسكري والاقتصادي، إلى المعركة، ولا دخلت مدينة الزاوية ولا شاركت في القتال سبع مدن ذات غالبية أمازيغية في الجبل الغربي، وهي معروفة بمعارضتها الشديدة لحفتر. صحيح أن بعض العناصر المصراتية قاتلت في منطقة وادي الربيع ودعمت المقاتلين في محور طريق المطار، لكن هذه العناصر لا تمثل الثقل الحربي لمصراتة بحسب خبراء عسكريين. حتى الكتائب المسلحة في طرابلس لم تشارك كلها في المعارك، ومنها على سبيل المثال «قوات الردع».
وفي معلومات الخبراء العسكريين أن الذي تصدى لقوات حفتر هو خط الدفاع الأول عن طرابلس، والظاهر أن خلفه خطوط دفاع أخرى يتم اللجوء إليها عند الضرورة. وحسب الخبراء لو حصل اتفاق بين حفتر ومصراتة لانتهى كل شيء، فمن دون هذا الاتفاق لن يتمكن قائد المنطقة الشرقية من دخول العاصمة.

عثرات على أبواب طرابلس

على عكس الموازين الحقيقية على الأرض، كان الفرنسيون، وفي درجة أقل الروس، يعتقدون أن حفتر سيحقق الهدف من حملته في وقت سريع، ومدوا له يد المساعدة بناء على ذاك السيناريو. ويقول أرتورو فارفيلي الباحث في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية في هذا الصدد «إن حفتر كان يهدف إلى الاستيلاء على طرابلس بسرعة، من خلال حثّ بعض الميليشيات المحلية على تغيير الجهة التي تدعمها. كان يسعى إلى الفوز بدعم السكان، لكنه أصيب بخيبة أمل هناك. والآن، يبدو أنه بالكاد يستطيع التراجع، لأن ذلك سيكون بمثابة انتكاسة سياسية كبيرة». وساهم تعثره على أبواب طرابلس في رفع النقاب عن حقيقة مهمة، وهي أن قوته الذاتية هزيلة، وهي متكونة أساسا من المداخلة (تيار سلفي متشدد يتبع الداعية السعودي ربيع المدخلي) ومُجندين من مدينة اجدابيا (شرق). وعلى عكس جنود حفتر الذين هم بالأساس يافعون بلا خبرة عسكرية، يتمتع عناصر الكيانات المسلحة في طرابلس بخبرة طويلة في الحرب. ويمكن القول أيضا إن من الأسباب التي جعلت الطرابلسيين لا يُرحبون بقوات حفتر، أن كثيرا منهم نقلوا افراد أسرهم إلى مناطق آمنة، ولما عادوا وجدوا بيوتهم مدمرة بالصواريخ أو منهوبة. وساهم ذلك في غياب أية حاضنة اجتماعية للقوات الآتية من الشرق قدوم الفاتحين.

ترسيم خطوط التماس

في هذا المشهد المركب، دخل الفرنسيون على الخط، بتشجيع روسي، ليعرضوا على الطرفين المتحاربين خطة لوقف إطلاق النار وترسيم خطوط التماس في طرابلس. وهذا التقسيم إذا ما طُبق على الأرض ستصبح هناك طرابلس شمالية وأخرى جنوبية، على غرار بيروت الشرقية وبيروت الغربية، على أيام الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). وترتبط هذه الرؤية الفرنسية للحلبالتحديات الأمنية المتزايدة جنوب الصحراء، حيث عجزت مجموعة الخمسة (مالي وموريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد) عن احتواء التمدد الارهابي في المنطقة، بالرغم من الدعم الفرنسي، بسبب النقص في العتاد والخلافات بين الرؤساء الخمسة. ويلعب القائد العسكري للمنطقة الشرقية في ليبيا خليفة حفتر دورا محوريا في هذا المشهد، وفقا للرؤية الفرنسية لكونه يسيطر على مناطق ليبيا الجنوبية، ويشكل بذلك الحلقة الرئيسة لمحاصرة الجماعات المسلحة من فزان شمالا إلى جنوب الصحراء.
وجابهت باريس صعوبات كبيرة لتأمين التمويل اللازم لمجموعة الخمسة، والذي يقدر بـ350 مليون يورو في السنة، من بينها 100 مليون يورو تعهد بصرفها الاتحاد الأوروبي، فيما التزمت كل من الولايات المتحدة والسعودية وبعض بلدان الخليج بتأمين المبلغ المتبقي. وعزا الفرنسيون إحجامهم عن الدفع بكونهم يُنفقون على عملية عسكرية موازية هي عملية «برخان» التي قدروا نفقاتها بما يقارب 700 مليون يورو في السنة. وترابط قوات فرنسية منذ إطلاق هذه العملية في الأول من آب/اغسطس 2014، لملاحقة الجماعات المسلحة، وقوامُها 4000 جندي فرنسي.

أوراق ضغط

بهذا المعنى، تعتبر باريس أن لديها أهلية خاصة لمراقبة المنطقة الممتدة من اقليم فزان في الجنوب الليبي إلى التخوم الجنوبية للصحراء، ومن هنا يأتي دعمها لحفتر، الذي يُغضب حكومة الوفاق الوطني، مثلما عبر عن ذلك رئيسها فايز السراج، خلال اجتماعه مع الرئيس ماكرون أخيرا في الإيليزيه. والظاهر أن حكومة الوفاق باشرت باستخدام ورقة النفط للضغط على باريس، إذ لوحت وزارة الاقتصاد الليبية بوقف التعامل مع أربعين فرعا لشركات أجنبية تعمل في قطاع المحروقات، من أبرزها مجموعة «توتال» الفرنسية، بعد اتهامها بمخالفة القانون التجاري. كما يقضي القرار بوقف التعامل مع شركات «ألكاتيل» و»تاليس» و»بروجي» الفرنسية العملاقة للسبب نفسه. ومنحت ليبيا مهلة بثلاثة أشهر لتلك الشركات من أجل تسوية أوضاعها، ما يشكل ضغطا قويا على باريس. والأرجح أن حكومة الوفاق تُعول على هذا الضغط، معطوفا على تواضع القدرات العسكرية لقوات حفتر، في ظل تعادل القوى، من أجل تحسين شروط التفاوض على حل سياسي للأزمة.

تعليقات