تقع ليبيا في قلب الصراع الدولي على النفوذ في الضفة الجنوبية للمتوسط، فموقعها يعتبر عقدة اتصالات بين أوروبا وأفريقيا جنوب الصحراء، وهي في الوقت نفسه حلقة الوصل بين شمال أفريقيا والمشرق العربي، بالإضافة لاحتياطها النفطي الذي يُعتبر الأكبر في القارة الأفريقية، فضلا عن ثروات طبيعية أخرى، وهذا هو أحد الأسباب الرئيسة التي تفسر اهتمام القوى العظمى بها، وسعيها الدائم لتحصيل مواطئ قدم فيها.

ومع تصاعد التوتر بين الاتحاد الأوروبي وتركيا أخيرا في شأن استثمار الغاز القبرصي، تتزايد أهمية المخزون الليبي من الغاز، باعتبار ليبيا أحد المزودين الرئيسيين لبلدان جنوب أوروبا بالغاز الطبيعي. وكانت الحكومة القبرصية وقعت على عقود مع شركات عالمية من بينها “توتال” الفرنسية و”إيني” الايطالية و”إكسون موبل” الأمريكية، غير أن تركيا اعترضت على تنفيذ تلك الاتفاقات، ما حال دون انطلاق الاستثمار في الحقول القبرصية. والأرجح أن هذه الأزمة التركية الأوروبية ستتفاقم بعد المناورات العسكرية الكبرى، التي أجراها أخيرا الجيش التركي، وتصريح وزير الدفاع التركي هولوسي أكار، الذي أكد أن بلاده “ستُدافع عن مصالحها في البحر المتوسط”. ومن شأن هذه الأزمة أن تجعل بلدان جنوب أوروبا تبقى مُعتمدة على الغاز الليبي إلى أن يُسوَى الخلاف بين تركيا وقبرص، وحتى بعد ذلك.

أرضية للتعايش

اتخذ التسابق بين القوى الكبرى على الاستفادة من ثروات ليبيا، أبعادا عنيفة في مناسبات كثيرة، وخاصة في ظل الأزمة السياسية الحالية، المُستمرة منذ 2014. وترسَخ التباعد بين فريقين ليبيين كبيرين، طيلة السنوات الخمس الماضية، على نحو تعذر معه إيجاد أرضية للتعايش بينهما. وبات اليوم “طبيعيا” أن تتعاطى عواصم القرار العالمية في الملف الليبي، فيدرس وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي هذا الملف، ويُوجهون بإقرار وقف لإطلاق النار والعودة إلى مائدة الحوار. وكذلك تفعل الحكومة البريطانية والايطالية والرئاسة الفرنسية والمستشارية الألمانية والبيت الأبيض والكونغرس والكرملين. حتى الحلف الأطلسي دخل على خط الأزمة ليُعبر أمينه العام ينس ستولتنبرغ، عن قلق الحلف الشديد لتدهور الوضع في ليبيا، ويدعو “جميع الأطراف إلى إنهاء القتال”. وبغض الطرف عن هذا الموقف الأطلسي، المعارض للعملية العسكرية التي يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، للتقدم نحو طرابلس، فإن القمة الأخيرة للحلف أظهرت مدى تدويل القضية الليبية. من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الجلسة التي يعقدها مجلس الأمن الثلاثاء المقبل للنظر في الملف الليبي، ويستمع خلالها لإحاطة من الموفد الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة. وسيكون موقف المجلس عبارة عن مُحصَلة للمواقف والمصالح المتباينة لأعضائه.

بيانات منمقة

ظاهريا تبدو القوى العظمى جادة في السعي إلى تحقيق مصالحة بين الإخوة الأعداء، لكن المرء يكتشف، خلف البيانات المنمقة، جهدا محموما لتغذية الصراع بتزويد الفريقين بأسلحة فتاكة، إضافة إلى دعم لوجستي من الحجم الثقيل. وأتت المواقف المعلنة خلال الأسبوع الماضي، أنموذجا لتلك السياسة النزقة، إذ أعلن حلف شمال الأطلسي دعمه العملية السياسية في ليبيا، بقيادة ليبية، مُوضحا أن تلك العملية ترمي إلى الدفع بالمصالحة السياسية الوطنية وتعزيز مؤسسات الدولة. أكثر من ذلك، أعرب قادة الحلف عن استعدادهم لتطوير شراكة طويلة الأمد، من المحتمل أن تؤدي إلى عضوية ليبيا في المبادرة المتوسطية للحلف، التي تضم كلا من مصر وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. هذا بعضٌ من الكلام الناعم الذي يُبث للإعلام، أما على أرض الواقع فإن معظم الدول التي تدعم الطرفين المتحاربين في ليبيا عسكريا، أعضاء في الحلف الأطلسي (فرنسا، ايطاليا، تركيا، بريطانيا…). وتعتبر مواقف فرنسا أنموذجا آخر للعب على الحبلين، فهي تستقبل الغريمين الليبيين فايز السراج وخليفة حفتر، تارة معا، وطورا بشكل منفصل، لتُروج خطابا يدعو إلى المصالحة والسلام، فيما تُغدق السلاح وتُرسل الخبراء العسكريين والمدربين إلى أحد الطرفين المتقاتلين (حفتر).

استثناء ايطالي

لا يختلف السلوك الايطالي كثيرا عن الفرنسي، فروما تدعم حكومة الوفاق برئاسة السراج ولا تُطيق غريمه حفتر، الذي تُحمله مسؤولية الأزمة السياسية في ليبيا، مع أن رئيس وزرائها جيوزيبي كونتي، استقبله الأربعاء الماضي في روما بكثير من الحفاوة. كما أن ايطاليا أبقت على سفارتها في طرابلس مفتوحة على مدى سنوات، على عكس السفارات الغربية الأخرى، لكي تُدلل على أن علاقاتها جيدة مع الجماعات المتحكمة بالعاصمة، والتي تحمي حكومة الوفاق نفسها. وقدمت روما دعما لوجستيا لعملية “البنيان المرصوص” التي أطلقتها حكومة الوفاق لإخراج عناصر تنظيم “داعش” من مدينة سرت في 2016، وأقامت مستشفى في مصراتة وأوفدت مئات الجنود لحراسته. أكثر من ذلك، أقدم كونتي بعد عودته من واشنطن الصيف الماضي، حيث اجتمع مع الرئيس ترامب حول الملف الليبي، على وضع فيتو على المسار الذي كانت تديره فرنسا، ليقول لها وللأطراف الأخرى إن الحلَ في ليبيا يمرُ عبر روما. وساعده في ذلك اللوبي الايطالي العريق في واشنطن، الذي استثمر التباعد بين موقفي الخارجية الأمريكية وأجهزة المخابرات، ليشتغل على مستشار الرئيس للأمن القومي جون بولتون ويُعدل الموقف الأمريكي على نحو يُكرس روما شريكا أول لواشنطن في أوروبا، في كل ما يتعلق بالملف الليبي. وترتب على ذلك التفاهم بين روما وواشنطن تعليق خريطة الطريق المُنبثقة من مؤتمر باريس في الربيع الماضي، والتخلي عن مشروع الانتخابات، التي كانت مقررة للعاشر من كانون الأول/ديسمبر الماضي، بعدما أقنع الايطاليون البيت الأبيض بأنها مجازفة غير مضمونة النتائج، لأن شروطها الدنيا غير متوافرة حاليا.

المهم في موقف الكونغرس الأمريكي أنه استبعد التدخل العسكري لحل الأزمة في ليبيا، ومازال، إذ قال تيد ديوتش، عضو الكونغرس، خلال ترؤسه جلسة استماع حول الصراع في ليبيا، إن “الوضع على الأرض غير معلوم جيدا، وبالتالي فالتدخل العسكري سيكون صعبا في الوقت الراهن”.

تداعيات سلبية

واتفق الحاضرون في الجلسة على أن “هجوم حفتر تسبب بمعاناة شديدة ومئات القتلى و66 ألف نازح، وتداعيات سلبية كبيرة محليا وإقليميا ودوليا”. كما اتفقوا على أن هذا الهجوم “سيعطي فرصة للإرهاب لكي يتمدد”. وجاء في بيان الجلسة أن “الدور الحقيقي الفعال والمكلف في مكافحة الإرهاب قامت به القوات المتمركزة في مصراتة. أما خليفة حفتر، فليس مكافحا للإرهاب، بل هدفه الرئيس هو الاستيلاء على السلطة”.

توالت الدعوات الدولية، والأوروبية بوجه خاص، إلى وقف الحرب الدائرة على تخوم مدينة طرابلس، للسيطرة على العاصمة. وعاودت فرنسا على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجیة أنیاس فون دیر مول، دعوتها إلى وقف إطلاق النار، وحضت أطراف الصراع على الالتزام بما تمخضت عنه لقاءات باریس وبالیرمو وأبو ظبي، مؤكدة أن “الحل السیاسي برعایة الأمم المتحدة هو الذي سیمكن من إنهاء النزاع في لیبیا”. وفي السياق اعتبر رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، أن الهجوم على طرابلس “يهدد العملية السلمية التي قطعت شوطاً طويلاً للوصول إلى تسوية”، لافتاً إلى أن الاتحاد الأوروبي يعكف على إيجاد صيغة لوقف إطلاق النار، والمساهمة في حل سلمي وديمقراطي في إطار الأمم المتحدة.

هذا الموقف أتى صدى لاجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، في بروكسل، الأسبوع الماضي، والذي خُصِص لمناقشة تطورات الملف الليبي، إذ أكد الوزراء أن “الهجوم العسكري الذي شنته قوات القيادة العامة على طرابلس وما تلاه من تصعيد في العاصمة وضواحيها يمثل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، ويزيد من تعرض استقرار ليبيا للخطر”.

تقارب بين القطبين؟

واتفق الوزراء الأوروبيون على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار والذهاب إلى مائدة المفاوضات، التي ترعاها الأمم المتحدة، عبر مبعوثها غسان سلامة. وأعقب ذلك بيان مشترك للغريمين اللدودين، فرنسا وايطاليا، أكدتا فيه أن ثمة تقارباً كبيرا في وجهات النظر حيال الأزمة الليبية. وسنرى مدى جدية التفاهم الفرنسي الايطالي في الجلسة التي يعقدها مجلس الأمن الثلاثاء المقبل، إذ أن القاسم المشترك بين روما وباريس هو الخوف من موجة هجرة كبرى، في حال اندلعت معركة واسعة في طرابلس. لكن ما مصير خطوط التماس التي تفصل حاليا بين قوات الفريقين، فهل سيتم تثبيتها أم العودة إلى ما قبل 4 نيسان/ابريل، وهو ما يرفضه حفتر؟ الثابت أن الملف برمته خرج من أيدي السياسيين الليبيين، وبات رهين القرار الدولي.

 

 

 

تعليقات