“الفرقاء الليبيون بمؤتمر باريس الدولي، 29 مايو 2018، إتين لوران، أسوشيتد برس

خلاصة
على مدار عقد منذ الانتفاضة التي أطاحت بالقذافي، لم يتحقق سلام ولا عدالة في ليبيا. فالعدالة باعتبارها مجال سياسي واسع هي جزء لا يتجزأ من عملية الانتخابات وبناء الدستور والاستقرار والأمن وتوزيع الموارد. وبرغم ذلك، تبقى اعتبارات العدالة غائبة إلى حد كبير عن محاولات بناء السلام في ليبيا. من اللافت للنظر أن التقرير النهائي والمرتقب للمسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي يخصص أقسامًا كبيرة للتأكيد على الحاجة إلى “المصالحة”، بينما نادرًا ما يشير للحاجة إلى العدالة. يتطلب الانتقال المضطرب في ليبيا توجهًا يهتم بالعدالة ويصب في جميع مجالات السياسة التي يعمل عليها المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي؛ وذلك بهدف تعزيز احتمالات تحقيق سلام أكثر استدامة. وهو ما يتطلب فهمًا موسعًا لفكرة “العدالة” بحيث لا تقتصر على المحاكمات الجنائية، التي قد تكون الدول الانتقالية غير مستعدة لتطبيقها بشكل فعال.

مقدمة
على الرغم من مرور ما يقرب من عقد من الزمان على الانتفاضة التي أطاحت بالقذافي، إلا أن ليبيا لا تزال تمر بمرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر لم يظهر فيها سلام ولا عدالة. منذ الإطاحة بالزعيم الليبي السابق معمر القذافي في عام 2011، تنافست سلسلة من الحكومات والميليشيات –باستخدام السلاح في كثير من الأحيان– للسيطرة السياسية والاقتصادية على البلاد. في يونيو 2011 تصدرت المساءلة الجنائية قضايا الصراع الليبي، عندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر بالقبض على القذافي وابنه سيف الإسلام ورئيس المخابرات السابق عبد الله السنوسي.[1]

منذ ذلك الحين، صدرت أوامر اعتقال إضافية من المحكمة الجنائية الدولية لاثنين من قادة الجيش، وهم التهامي محمد خالد ومحمود الورفلي.[2] كما تم مقاضاة 35 مسئولًا من نظام القذافي محليًا على مدار عامي 2013 و2014، وهو ما مثل تحديًا مباشرًا لجهود المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة بعض هؤلاء الأفراد. علاوةً على ذلك، يُعتقد أن قانون العفو الذي أصدرته إحدى الحكومات الليبية أدى إلى إطلاق سراح سيف الإسلام القذافي في عام 2017.[3] وكنتيجة مباشرة لتلك الملاحقات القضائية المحلية والمبدئية، سرعان ما تلاشت إجراءات العدالة، خاصةً وأن البلاد تعاني من صرعات محلية ووطنية على السلطة.

بغض النظر عن الطفرة العرضية في نشاط المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بالوضع الليبي، فإن اعتبارات العدالة الجنائية ظلت غائبة إلى حد كبير عن محاولات تنظيم محادثات السلام في السنوات الأخيرة. والجدير بالذكر أن التقرير النهائي المرتقب للمسار التشاوري للملتقى الوطني الليبية يكرس أجزاء كبيرة منه للتأكيد على الحاجة إلى “المصالحة”، بينما نادرًا ما يذكر الحاجة إلى العدالة.[4] هذا على عكس عملية مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، والتي تضمنت مجموعة عمل معنية بالعدالة الانتقالية، رغم أن توصياتها لم تؤخذ بعين الاعتبار بينما انزلقت البلاد إلى الحرب. التحديات الليبية تختلف تمامًا عن الوضع اليمني، إلا أن السياق اليمني يلقي الضوء على نقاط مقارنة مهمة تشير إلى التأثير المتضارب للعناصر الفاعلة الدولية والتي تزعزع الاستقرار أحيانًا، فضلًا عن العديد من المشاكل الداخلية التي تضعف احتمالات السلام والعدالة.

على سبيل المثال، في حين أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أحال الوضع الليبي إلى المحكمة الجنائية الدولية من خلال القرار 1970، إلا أنه لم يفعل ذلك في حالة اليمن. بدلًا من ذلك، توسط مجلس التعاون الخليجي –بدعم من الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي– في اتفاقية انتقالية سمحت للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح بالتنحي في مقابل حصوله على حصانة من المحاكمة.[5] بينما على النقيض، فشلت المحاولات الدولية في تمرير قرار من مجلس الأمن في عام 2014، بإحالة سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ بسبب استخدام روسيا والصين لحق الفيتو.[6]

في حين أن هذه القرارات الثلاثة أسفرت عن نتائج متباينة في ليبيا واليمن وسوريا، إلا أنها كانت مدفوعة بالاعتبار السياسي نفسه، وهو ما إذا كان السعي لتحقيق السلام أو العدالة يناسب مصالح الدولة. وهو ما لا يعد مفاجأة، فهناك العديد من الأبحاث العلمية التي تناقش العلاقة بين القانون الجنائي الدولي والسلام من ناحية وبين اعتبارات العدالة من ناحية أخرى.[7] من المؤكد أن علاقات القوة في القانون الدولي تساعد في توضيح السبب وراء تبني الجهات الفاعلة المحلية والدولية أجندات مساءلة مختلفة ومتنافسة. في ليبيا واليمن وسوريا. يعد غياب السلام ولا العدالة في أعقاب الانتفاضات الجماهيرية المناهضة للحكومات في عام 2011. تأكيدًا على أن القرارات التي تهدف إلى طريقة تحقيق السلام دون العدالة، أو العكس، لم تكن مفيدة في حالات الانتقال المضطربة هذه.[8]

في أدبيات العدالة الانتقالية، هناك العديد من الأبحاث المفيدة حول سؤال السلام مقابل العدالة.[9] يستغل كل من الفاعلين المحليين والدوليين سردية العدالة كأداة سياسية لخدمة مصالح السلطة. ويتفاقم هذا جزئيًا بسبب الميل إلى التعامل مع السياسات المتعلقة بالعدالة كفئة سياسات مستقلة ومنفصلة بذاتها. يدلل هذا المقال على أن المرحلة الانتقالية المضطربة في ليبيا تتطلب منهجًا للعدالة يتداخل مع جميع مجالات السياسة المتضمنة في المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبية؛ وذلك من أجل تعزيز احتمالات سلام أكثر استدامة.[10] تندمج العدالة والمصالحة في الواقع مع جميع مجالات السياسة. ولذلك، بدلًا من التعامل مع العدالة والمصالحة كمجالات سياسة منفصلة تعمل بالتوازي مع مجالات أخرى، كما هو الحال حاليًا في المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي، ينبغي إدماجهما رسميًا في مجالات السياسة الأربعة الأخرى، وهي الأولويات الوطنية والحكومية، والأمن والدفاع، وتوزيع السلطات والموارد، والعمليات الدستورية والانتخابية.[11]

لا يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل مفصل للعمليات التي تتعلق بالعدالة في ليبيا منذ عام 2011. بل يسعى المقال بدلًا من ذلك إلى تسليط الضوء على دور التشرذم السياسي على الصعيدين الدولي والمحلي في تعقيد قضايا السلام والعدالة، كما يقدم اقتراحات لنهج مهتم بالعدالة أقل عزلة وأكثر تكاملًا في العملية الانتقالية الشاملة في ليبيا. وهو ما يتطلب فهمًا موسعًا لفكرة “العدالة”، بحيث لا تقتصر على المحاكمات الجنائية التي قد تكون الدول الانتقالية غير مستعدة لتطبيقها بشكل فعال. عندما تُفهم العدالة على أنها متعددة الأوجه، فإنها لا تخدم فقط الأغراض التعويضية والتصالحية، ولكنها تعمل أيضًا على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية.

يأخذ هذا المقال مصطلح “المصالحة”، الذي لا يزال غير محدد بشكل دقيق في تقرير المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي، كنقطة انطلاق لمعالجة هذه القضايا متعددة الأوجه. ويبدأ المقال بتفصيل كيفية تدخل الجهات الدولية الفاعلة في القرارات المتعلقة بالعدالة الجنائية في ليبيا. وتنبع أهمية هذه النقطة من كونها تسلط الضوء على الأسباب التي تجعل الجهات الدولية الفاعلة لا تهتم بالضرورة بتوحيد جهود وأهداف المساءلة الجنائية، وتأثير ذلك على مسارات السلام والعدالة. يلي ذلك تحليل لدور العدالة في المشاورات التي أسفرت عن تقرير المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي، والذي يؤسس للمؤتمر الوطني الفعلي الذي من المتوقع عقده في عام 2019. يختتم المقال بمناقشة إطار للسلام والعدالة في ليبيا، مع التركيز على العوامل التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عندما تشرع ليبيا في الخطوة الحاسمة التالية في المسار التشاوري وفي عمليتها الانتقالية الأوسع.

لا سلام ولا عدالة
في 1996، تم إعدام أكثر من 1000 سجين في سجن أبو سليم، في واحدة من أحلك اللحظات في التاريخ السياسي الليبي الحديث. وكان المحامي فتحي تربل هو ممثل أهالي الضحايا أمام القضاء. في 15 فبراير 2011، تم اعتقال تربل، وهو الأمر الذي أثار احتجاجات غاضبة في مدينة بنغازي، وسرعان ما تحولت تلك الاحتجاجات إلى انتفاضة عاصفة، موضحةً كيف يمكن أن يرتبط غضب الجمهور؛ كنتيجة للظلم الواقع من هذه المذبحة، ارتباطًا وثيقًا بمطالب العدالة التي يتبناها أولئك الذين تعرضوا للتعذيب والقتل على أيدي النظام ووكالاته.

استمرت المظاهرات الجماهيرية التي دعت إلى إنهاء حكم معمر القذافي ونظامه الذي دام 42 عامًا. تلا ذلك تدخل عسكري بقيادة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبدعم من مجلس الأمن الدولي. انتهى هذا التدخل في 31 أكتوبر 2011، بعد أحد عشر يومًا من القبض على معمر القذافي وقتله على أيدي المتمردين الليبيين. على الرغم من مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية لسيف الإسلام القذافي وللسنوسي في 27 يونيو 2011، أصرت السلطات الليبية على محاكمة الاثنين محليًا، بحجة أن القضاء المحلي قادر على محاكمة المواطنين الليبيين المتهمين بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.[12] قبلت المحكمة الجنائية الدولية دفعًا متعلقًا بعدم قبول دعوى قضية السنوسي والذي قدمته ليبيا في أبريل 2013.

في 11 أكتوبر 2013، قررت الدائرة التمهيدية الأولى أن القضية المرفوعة ضد السيد السنوسي غير مقبولة أمام المحكمة لأنها تخضع لإجراءات محلية جارية من قبل السلطات الليبية المختصة، ولأن ليبيا مستعدة وقادرة فعلًا على إجراء مثل هذا التحقيق.[13]

ومع ذلك، رفضت المحكمة الجنائية الدولية الدفع نفسه الذي قدمته ليبيا في قضية سيف الإسلام القذافي، مشيرةً إلى مخاوف بشأن قدرة ليبيا على إجراء محاكمة عادلة. تمت محاكمة خمسة وثلاثين متهمًا محليًا في ليبيا بتهم تشمل جرائم حرب وقتل المتظاهرين والفساد. حوكم سيف الإسلام القذافي غيابيًا من قبل محكمة في طرابلس لأنه كان محتجزًا من ميليشيات الزنتاني. من بين المحاكمين الآخرين، رئيس الوزراء السابق البغدادي المحمودي، ووزير الخارجية السابق عبد العاطي العبيدي، ورئيس المخابرات السابق بوزيد دوردة، والذي أُطلق سراحه مؤخرًا لأسباب طبية.[14]

في شهر أبريل 2014، بدأت محاكمة سبعة وثلاثين عضوًا سابقًا في نظام القذافي في طرابلس، وصدرت ضدهم أحكامًا في يوليو 2015. حُكم على سيف الإسلام القذافي والسنوسي ورئيس الوزراء السابق المحمودي وستة متهمين آخرين بالإعدام رميًا بالرصاص لارتكابهم جرائم حرب خلال النزاع عام 2011.[15] وحُكم على سبعة آخرين بالسجن لمدة اثني عشر عامًا بينما تم تبرئة أربعة متهمين. وفقًا لتقرير لهيئة الإذاعة البريطانية، “أُدين المتهمون بالتحريض على العنف وقتل المتظاهرين خلال الثورة التي أطاحت في النهاية بالعقيد القذافي”.[16] يذكر أن لا يزال مكان وجود سيف الإسلام القذافي غير معلن، بعد تقارير عن إطلاق سراحه في عام 2017.

في الوقت نفسه، لا تزال ليبيا تعاني من الصراع العنيف في العديد من المناطق والمدن. لا يمكن للمساءلة الجنائية –خاصةً عندما يتم تسييسها بشكل كبير– أن تكون كافية بأي شكل من الأشكال لدعم مرحلة انتقالية مستدامة. كما أن المساءلة الجنائية هي مجرد عامل واحد ضمن العديد من العوامل التي تساعد على إنجاح مفاوضات السلام وحل النزاعات، لكنها مع ذلك ليست مفيدة دائمًا للضحايا على المدى القريب. كما يتضح من الملاحقات القضائية المحلية المعيبة لأعضاء نظام القذافي، فإن عمل المساءلة الجنائية في سياق مسيَّس بدرجة كبيرة مع وجود مؤسسات قضائية ضعيفة يؤدي في الأغلب إلى ترك الضحايا دون أي جبر حقيقي للضرر.[17]

يجادل البعض بأن غرض الجهات الدولية الفاعلة من الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية كان تهميش نظام القذافي المخلوع ورسم نهايته، عبر وصفه ومساعديه كمجرمي حرب، من خلال أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.[18] لكن مصالح الدول ليست ثابتة وهي تتطور وتتغير، ويتغير معها برامج العدالة وشروطها. وقد أصبح هذا واضحًا بشكل خاص في حالة ليبيا، فبعد أن ضغطت بعض الجهات الفاعلة –أعضاء مجلس الأمن– من أجل تدخل المحكمة الجنائية الدولية، قامت هذه الجهات نفسها بالتخلي عن هذا الدعم. يقدم بيزكن وبودوسنسكي نظرة عامة على “التضاؤل والتراجع” للدعم الدولي لتدخل المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا وفي بلدان أخرى. يسلط الباحثان الضوء على العلاقة المرنة بين ممارسة الحكم والدبلوماسية والمساءلة الجنائية “في ليبيا […] أدت العقلية البرجماتية التي ضغطت باتجاه الإحالة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، […] إلى التخلي عمليًا في وقت لاحق عن المحكمة الجنائية الدولية، ما أضعف المحكمة ومعها معايير العدالة الجنائية العالمية… والحقيقة أنه في أي نزاع أو سيناريو ما بعد الصراع، فإن المساءلة الجنائية هي مجرد واحدة من العديد من أهداف السياسة المتنافسة للجهات الفاعلة الخارجية. إن ادعاء المجتمع الدولي بأن دعمه للعدالة العالمية هو أمر غير قابل للتفاوض يجب ألا يعمينا عن واقع ممارسة الحكم. ففي بعض الأحيان، تتقارب مصالح الفاعلين مع الدور الأصيل للمحاكم الدولية. لكن هذا التقارب يمكن أن يتحول سريعًا إلى تباعد، وقد يعود في أحيان أخرى إلى التقارب، وهذا يتوقف على مجرى الأحداث”.[19]

مثل سقوط القذافي بالنسبة للجهات الفاعلة الدولية سببًا كافيًا لتخفيف مساعيها نحو المساءلة الجنائية في المحكمة الجنائية الدولية. يفسر بيزكن وبودوسنسكي هذا التراجع في الدعم الدولي في ليبيا بأنه نتيجة لتحقيق طموحات “تغيير النظام”، وليس لتحقيق العدالة والمساءلة الجنائية “… السياسة التي تقود الإحالة [إلى المحكمة الجنائية الدولية] جاءت في سياق تنافس بين هدف محاكمة القذافي في لاهاي من ناحية، وبين هدف إنهاء العنف بسرعة من خلال تسريع خروج القذافي من السلطة”.[20]

في اليمن، لعبت السياسات المحلية والدولية دورًا مماثلًا في إضعاف فرص أي عملية عدالة ذات معنى. بعد إصدار قانون الحصانة الذي يحمي الرئيس اليمني السابق صالح من المقاضاة، بدأت في سبتمبر 2012 الاحتجاجات التي دعت تحديدًا إلى إلغاء هذا القانون في اليمن. ردًا على ذلك، أمرت الحكومة اليمنية بإجراء تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي حدثت أثناء الانتفاضة وأنشأت لجنة تحقيق لهذا الغرض.

في سبتمبر 2012، وقع الرئيس هادي –نائب الرئيس صالح سابقًا ولمدة 16 عامًا– مرسومًا يقضي بإنشاء لجنة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان أثناء انتفاضة 2011، وأناط بها أيضًا التوصية بتدابير المساءلة، بما في ذلك الملاحقات القضائية. أمرت حكومة هادي بالتحقيق مع سبعين ضابط شرطة يُشتبه في ارتكابهم جرائم القتل التي وقعت يوم جمعة الكرامة خلال الانتفاضة. بدأت أحد المحاكمات في 29 سبتمبر 2012 في المحكمة الابتدائية لمنطقة العاصمة الغربية في صنعاء. كانت المحاكمة مليئة بالعيوب، حيث لاحظت هيومن رايتس ووتش أن “تحقيق النيابة العامة في مذبحة جمعة الكرامة كان مشوبًا بالتدخل السياسي والفشل في متابعة الأدلة التي قد تثبت تورط مسئولين حكوميين بالإضافة لأخطاء في الحقائق”.[21]

طوال محادثات مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، ناقشت مجموعات العمل صياغة قانون العدالة الانتقالية. كان مؤتمر الحوار الوطني عبارة عن عملية حوار انتقالي مدته عشرة أشهر، حاولت مجموعات العمل المختلفة من خلاله تحقيق توافق في الآراء حول العديد من القضايا الوطنية الملحة، مثل قضية الانفصال الجنوبي، وتمرد الحوثيين في الشمال، وقضية الحكم في اليمن بعد الفترة الانتقالية. فيما يتعلق بقانون العدالة الانتقالية، كان أحد الأسئلة الرئيسية هو ما إذا كان التعامل مع الماضي سينظر في الفترة من بداية حكم صالح في عام 1978، أم سيقتصر على الفترة من بداية انتفاضة 2011. إلا أن اندلاع الحرب الأهلية بعد استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، وتدخل تحالف من الدول العربية عسكريًا بقيادة السعودية في مارس 2015، أوقف فعليًا عملية العدالة الانتقالية –والتي كانت محدودة على أي حال. بعد أكثر من أربع سنوات منذ بداية الحرب الأهلية، قُتل عشرات الآلاف من اليمنيين الأبرياء، ويعاني من هم على قيد الحياة من أسوأ أزمة إنسانية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.[22] على الرغم من المحاولات المتكررة، لم يتحقق سلام ولا عدالة.

تعطي تعقيدات السياسة الانتقالية الليبية واليمنية خلفية مهمة لفهم تحديات السعي لتحقيق السلام والعدالة. يمثل الاستقطاب الناجم عن التوترات والصراعات القبلية عاملًا يُعقّد بشكل كبير فرص التوصل إلى توافق على قرارات العدالة، لا سيما على المستوى الوطني. فقد أدت الخلافات والاشتباكات بين الموالين لنظام القذافي والثوار المناهضين له، وكذا بين القبائل والميليشيات وبعضها البعض، إلى إضعاف فرص التوافق. يسود في ليبيا التعذيب في السجون السرية، والفساد، والاحتجاز التعسفي، والتهجير القسري، وسرقة الممتلكات وتدميرها، وانتشار المليشيات وغيرها من الجماعات المسلحة. يتمثل التحدي الرئيسي في الحالة المزرية لانعدام الأمن وفراغ السلطة، والتي سمحت للميليشيات وغيرها من الجماعات المسلحة بالسيطرة. وبالتالي، إضعاف قدرة الدولة على توزيع الموارد، ما يؤدي بدوره إلى مزيد من الظلم الاجتماعي على نطاق سيستغرق جبره سنوات.

علاوةً على ذلك، فإن التغير في التحالفات في أعقاب الانتفاضات العربية في عام 2011 يعني أن الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة لعبت دورًا هامًا في السياسة الداخلية في ليبيا. وهو ما يقف كعقبة في طريق السلام والعدالة، كما تدل على ذلك مشاورات المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي.[23] وبسبب الخلافات حول القيادة الدبلوماسية في الجهود المبذولة للتوسط في النزاع في ليبيا، استضافت كل من إيطاليا وفرنسا ومصر والإمارات العربية المتحدة سلسلة من محادثات السلام. كل واحد من هذه الجهات الفاعلة لديه مصالح متباينة ويقدم دعمه المالي والعسكري والسياسي لمختلف الجهات السياسية الليبية الفاعلة.

ليس من المثير للدهشة إذا أن يؤدي هذا الوضع إلى تدهور المشهد السياسي المتشرذم بالفعل في ليبيا، ولكنه زاد أيضًا من تعقيد فرص السلام والعدالة، وبالتأكيد زاد من صعوبة تحققهما معًا. منذ عام 2014، اندلعت حرب بين الموالين والمعارضين للجنرال خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي الذي قاد الحملات العسكرية ضد الإسلاميين في شرق ليبيا، وهو غالبًا ما يستخدم خطاب “مكافحة الإرهاب” لتبرير حملاته العسكرية. على الصعيد المحلي، شهدت ليبيا تشكيل حكومتين متعارضتين: الأولى تدعم حملة حفتر العسكرية المسماة عملية الكرامة، والأخرى تدعم حكومة الوفاق الوطني التي تدعمها الأمم المتحدة، ومقرها في العاصمة طرابلس. على الصعيد الدولي، وفرت كل من الإمارات ومصر وروسيا وفرنسا دعما عسكريًا وماليًا لحفتر، في حين تتلقى حكومة الوفاق الوطني دعمًا من مجلس الأمن الدولي وجهات دولية فاعلة أخرى، من ضمنها قطر وتركيا. تنتشر الانقسامات بين الميليشيات والقبائل والمدن، ما يؤدي إلى عواقب وخيمة، مثل النزوح القسري لسكان تاورغاء وسكان بنغازي.[24]

إذًا، فإن المشهد السياسي في ليبيا متشرذم على مستويات مختلفة، محلية ودولية ودبلوماسية. تُضعف استراتيجيات العدالة المختلفة والمتعارضة في ليبيا واليمن من ادعاء المجتمع الدولي بأن هناك معاييرًا عالمية للمسائلة.[25] كما أن لهذه الاستراتيجيات المتضاربة تداعيات مهمة على كيفية تفاعل قضايا العدالة والمصالحة والسلام على المستوى المحلي. وقد تم تحديد هذه التأثيرات بالفعل في التقرير النهائي للمشاورات الخاصة بالمسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي.

المصالحة والمسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي
بالنظر إلى النزاع المستمر والتفتت السياسي، لن يمكن للعدالة –ولا ينبغي لها على أي حال– أن تكون “سريعة أو ناجزة”، كما لا يجب أن تُفسر بشكل صارم على أنها عدالة جنائية أو تقاضي جنائي. الفهم المحدود لما يشكل “العدالة” يؤدي إلى تعليق العمل من أجل العدالة الانتقالية ككل ودون داعٍ حتى تبدأ الظروف السياسية والاجتماعية المثالية في الظهور –وهي ظروف من المحتمل أن تأخذ سنوات حتى تتطور. على الرغم من ذلك، يوفر المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي فرصة نادرة لضمان تلبية احتياجات العدالة المعقدة للمجتمع الليبي في الوقت الذي تكافح فيه البلاد للتحول نحو السلام وبناء الدولة.

لكن تقرير المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي لا يوضح بما فيه الكفاية ماهية توقعات العدالة هذه. وهو ما يعد أمرًا مخيبًا للآمال إلى حد ما؛ وذلك نظرًا للمسار التشاوري التي كُتب من خلاله التقرير النهائي الذي نُشر في نوفمبر 2018. حيث شملت هذه العملية 77 اجتماعًا تحضيريًا في 43 موقعًا داخل ليبيا وخارجها، بمشاركة حوالي 7000 ليبي. [26] فبينما يزعم التقرير أنه كُتب بمشاركة “كل فئات المجتمع” الليبي، إلا أن ربع المشاركين فقط كانوا من النساء. على الرغم من ذلك، وصلت وسائل الإعلام المحلية وحملات وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما يقرب من 1.8 مليون ليبي. [27]

وبغض النظر عن الأسئلة المتعلقة بمستوى المشاورات وطبيعتها التشاركية، يصف التقرير النهائي للمسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي “المصالحة” تحديدًا باعتبارها واحدة من النقاط المفتاحية أو المبادئ الرئيسية التي يتعين التعامل معها بمجرد انعقاد المؤتمر الوطني. ومع ذلك، فمن غير الواضح ما المقصود بالمصالحة الوطنية كما أن الفترة الزمنية التي ستعالجها هذه المصالحة تظل غامضة. فضلًا عن وجود تأكيدات متعددة في التقرير على رفض التدخل الأجنبي وأي دور للجهات الفاعلة الدولية –حتى كمراقبين– في الانتخابات.[28] على سبيل المثال، ورد في التقرير أنه “يجب تحقيق المصالحة الوطنية، بناءً على الممارسات والقيم الليبية التقليدية مع احترام مطالب العدالة. يجب أن تكون عملية المصالحة خالية من التدخل الأجنبي”.[29]

في الوقت نفسه، يؤكد التقرير على رغبة المشاركين في أن تكون الأمم المتحدة والمجتمع الدولي شريكين في تسهيل عملية المصالحة والإشراف عليها “يمكن للسلطات الليبية والمجتمع الدولي المساعدة في ضمان الوفاء بشروط نجاح عمليات المصالحة الوطنية هذه”.[30]

إن التناقض الصارخ بين الفقرتين المذكورتين أعلاه فيما يتعلق بالتدخل الدولي والتدخل الأجنبي يؤكد الحاجة إلى تحديد الكيفية التي يريد بها الليبيون أن يربطوا بين “التدخل” الأجنبي و”الدعم” للمصالحة الوطنية في ليبيا. ولا تعد تلك النقطة مجرد تفصيلة، بل إنها سؤال هام؛ خاصةً مع ملاحظة عدد المرات التي حذر فيها التقرير من التدخل الأجنبي.

علاوةً على ذلك، فإن “الممارسات والقيم الليبية التقليدية”، و”مطالب العدالة”، و”عمليات المصالحة الوطنية” هي عبارات مبهمة، تُذكر دون أي تفسير للمقصود منها، وستكون عرضة لمختلف الجهات الفاعلة التي تتنافس من أجل السيطرة في ليبيا لتفسرها على هواها. استخدام هذه المصطلحات دون تحديد أو تفصيل يفترض أنها مفهومة بالشكل نفسه لدى الجميع، لكن كما يتضح من عمليات العدالة التي بدأت في أعقاب انتفاضة 2011، أ، هذا غير صحيح.

كذا تظل الإشارة إلى كيفية معالجة ماضي ليبيا –وأي جزء من هذا الماضي بالتحديد– غامضة أيضًا. يجد تقرير حزب المؤتمر الوطني أن الليبيين يعتقدون أن جهود المصالحة “من المرجح أن تنجح إذا تأمل المسئولون عن العملية في تراث أجداد ليبيا وعاداتهم وتقاليدهم، وإذا تم الجمع بين جهود كبار السن والشباب الليبيين”.[31] من غير الواضح ما الذي ستستتبعه عملية التأمل هذه بالضبط، ولا ما هو المقصود من الجمع بين جهود “كبار السن” وجهود “الشباب” في ليبيا. يؤكد التقرير أيضًا على أهمية “الشهامة والتسامح مع جرائم الماضي”،[32] ويلاحظ أن “ليبيا لديها تاريخ من المصالحة والعفو والصفح”.[33] ومع ذلك، يستثني التقرير بوضوح الجرائم ضد الإنسانية، ويؤكد أنها تتطلب “العدالة” وليس “الإفلات من العقاب”.[34] لا يشرح التقرير الإطار الزمني الذي ستطبق عليه هذه “العدالة” ويشير بدلًا من ذلك بغموض إلى الحاجة إلى المصالحة عن “الجروح التي لحقت بالليبيين… على مدى السنوات الثماني الماضية وما قبلها”.[35]

على الرغم من أوجه القصور هذه، يحدد التقرير الإجراءات الرئيسية التي أبرزها المستشارون على أنها ضرورية للمصالحة. فهو يدعو أولًا إلى عفو عام عن “فترة النزاع” (من المفترض أن النزاع هنا يشير إلى التطورات منذ انتفاضة 2011). وتشمل الإجراءات الأخرى إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، وضمان العودة الآمنة للنازحين، وتوحيد المؤسسات العسكرية والأمنية مع نزع سلاح “الميليشيات الخارجة عن القانون”.[36] ولكن مع كل هذا، فإن هناك مخاوف من فشل الجهود المبذولة لإحلال سلام دائم في ليبيا؛ إذا لم تقترن تلك الجهود برؤية وأهداف شاملة تتناول المصالحة والعدالة والسلام في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة.

يمثل توزيع الموارد قضية حيوية في ليبيا، كما تؤكد ذلك نتائج مشاورات المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي.[37] هنا، يجب أن تكون مسائل العدالة الاجتماعية جزءً لا يتجزأ من نهج العدالة المتكاملة الذي يتم دمجه في جميع مجالات السياسة الخمسة المحددة في التقرير: الأولويات الوطنية والحكومية، الأمن والدفاع، توزيع السلطات والموارد، العمليات الدستورية والانتخابية، وأخيرًا المصالحة الوطنية. وكما يلاحظ خوان مينديز وجيريمي كيلي، فإن “أي وساطة ناجحة للسلام يجب أن تتضمن كلًا من العناصر القضائية وغير القضائية”.[38] يدعم المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي ضمنيًا هذا التوجه، لكن يجب أن تتضح بنودها أكثر خلال الفترة المتبقية من المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي.

أخيرًا، يبرز التقرير “صراحةً” مناقشات التشاور والأهمية التي يوليها المشاركون “للعملية النفسية” وليس فقط التعويض المادي لعائلات الضحايا.[39] ومع ذلك، ليس من الواضح الكيفية التي يتبعها المشاركون في رؤية تلك القضايا التي تم تناولها. هل يجب عليهم إنشاء لجنة للحقيقة؟ ما هو مدى الفترة الزمنية التي ستنظر فيها لمعالجة مآسيها؟ وما هي سبل الانصاف الفورية التي سيتم توفيرها للضحايا؟

المضي قدمًا: نهج متكامل للسلام والعدالة في ليبيا
يناقش هذا المقال أسئلة ليست بالسهلة، خاصةً بالنظر إلى الانقسامات العميقة وعدم وجود سلطة مركزية للسيطرة على حالة انعدام الأمن المتفشية. لا غرابة في أن التقرير يعطي الأولوية للأمن. ليس من الممكن التعامل مع العدالة بجميع أشكالها –بما فيها العفو والتقاضي والمصالحة والتعويضات ولجان الحقيقة– على أنها فئة أو مجال سياسي منفصل ومعزول، بينما يبدأ الليبيون في إعادة بناء دولتهم، ومعالجة التحديات الأمنية والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي واستعادة ترابط النسيج الاجتماعي. إن الدراسة المتعمقة لكيفية دمج العدالة في جميع مجالات السياسة الخمسة التي يحددها المسار التشاوري من شأنها أن تعزز احتمالات تحقيق سلام أكثر استدامة، بالإضافة إلى خلق إطار عمل قانوني مناسب للسياق الليبي. على الرغم من التناقضات فيما يتعلق بدور الدعم الدولي والرفض المتكرر “للتدخل الأجنبي” في المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي، من المنتظر أن تكشف المشاورات عن الأهمية التي يعلقها الليبيون على تشكيل عملية المصالحة الوطنية التي تناسب احتياجاتهم.

لسوء الحظ، فإن التشرذم على الصعيدين المحلي والدولي –حيث تتنافس النخب السياسية من أجل السيطرة السياسية والدبلوماسية، مع تجاهل التفكير في ضحايا ليبيا في عهد القذافي وفترات ما بعد القذافي– يعني أن العدالة لن تتحقق إلا عندما تخدم مصالح الدول والجهات الفاعلة المتعددة.[40] يجب أن نتعلم الدرس من الاضطرابات الحالية في اليمن، حيث لم يسفر تهميش “العدالة” بجميع أشكالها، وخاصةً باسم “السلام”، عن نتائج إيجابية. جزء من المشكلة هو الوصمة أو الجدال الذي يثيره مصطلح “العدالة”، لا سيما بين النخب السياسية التي تخشى أن تُحاسَب على الجرائم التي قد تكون تورطت فيها سابقًا.

يكمن التحدي هنا في توسيع معني العدالة بحيث لا يقتصر على العناصر القضائية، وحتى يشمل مفاهيم مثل المصالحة والعدالة الاجتماعية، كما ينبغي الاعتراف بأن العدالة مجال سياسي عريض وواسع وجزء أصيل من الانتخابات وعمليات بناء الدستور وتحقيق الاستقرار والأمن وتوزيع الموارد. ينبغي كذلك ألا يكون التركيز الأكبر على الملاحقات القضائية الانتقامية، بل على استعادة الأمن، واستمرار الحوار الشامل، وإظهار الحقيقة، وهي كلها خطوات أولية أساسية نحو المصالحة في ليبيا. إذا كان المؤتمر الوطني جاد في التزامه باتخاذ تدابير ذات فرص نجاح أفضل، فمن الضروري أولًا توضيح ما يتوقعه الليبيون من مفاهيم “المصالحة” و”العدالة” و”السلام”.

تعليقات