رشيد خشانة – الأرجح أن معركة السيطرة على مدينة غريان الاستراتيجية، جنوب طرابلس، ستكتب الكلمات الأخيرة في عملية “بركان الغضب”، التي أطلقها القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر، في الرابع من أبريل/ نيسان الماضي. وإذا كان من الطبيعي أن تعاود قوات حفتر الهجوم على غريان في الأيام المقبلة، في محاولة لاستعادتها جزئيا أو كليا، فإن استمرار الحرب سيُنهك الطرفين، مع فارق أساسي وهو أن قوات الوفاق تقاتل على أرضها، وقواعدُها الخلفية قريبة، بينما قوات حفتر تتلقى التعزيزات من المنطقة الشرقية والجنوب، أي من قواعد تقع على مبعدة ألف كيلومتر. وفي هذا الإطار كانت غريان القاعدة المتقدمة التي تنطلق منها العمليات الهجومية على طول قوس يمتد من صبراتة على ضفاف المتوسط غربا إلى ترهونة شرقا، مرورا بقصر بن غشير وخلة الفرجان.

تغيير المعادلة

من هنا فإن ترهونة نفسها ستكون مهددة بعد سقوط غريان. وبدا لكثير من الخبراء العسكريين أن مصير عملية “بركان الغضب”، بات معروفا منذ الآن، فإخفاق حفتر في هذه الحرب سيُغير أطراف المعادلة الليبية، ويحمله على الانخراط في العملية السياسية، التي أطلق الهجوم على طرابلس أساسا من أجل تقويضها، وإفشال الملتقى الوطني الشامل، الذي كان مقررا لأواسط أبريل/ نيسان الماضي في غدامس. ومن شأن العودة إلى الحل السياسي أن تقود إلى طرح مسألة إعادة بناء الجيش الليبي، التي لم توضع في سياقها الحقيقي، سياق التحوُل من الثورة إلى الدولة في أواخر 2011.

أكثر من ذلك، يمكن القول إن القوة التي تصدت لهجوم حفتر على طرابلس تحت عنوان “الفتح المبين”، كانت جزءا ضئيلا من القوى القابلة للتعبئة في الغرب. ويشير الخبير العسكري المتقاعد اللواء بشير الصفصاف إلى وجود قوتين في المنطقة الغربية، تشبهان جيشين صغيرين، هما قوات البنيان المرصوص، التي أخرجت “داعش” من مدينة سرت في 2016، بالتعاون مع القيادة الأمريكية لأفريقيا (أفريكوم)، على صعيدي الاستطلاع والمعلومات. وتوجد القواعد الخلفية لـ”البنيان” في مصراتة، حيث توجد أيضا أكاديمية الطيران، التي تُحول أحيانا طائراتها من التدريب إلى القيام بعمليات حربية. وهذه القوة هي التي أوقفت تقدم قوات حفتر نحو طرابلس، بحسب اللواء الصفصاف. أما القوة الثانية فهي “قوة مكافحة الارهاب”، التي يقودها اللواء محمد الزين، وتعتبر من أكثر الجماعات تنظيما وتدريبا، وهي تتعاون أيضا مع الأمريكيين. وساهمت هذه القوة في امتصاص هجوم حفتر على طرابلس في اليومين الأولين من عملية “بركان الغضب”، بعدما كان يتخيل أن ذينك اليومين كافيان للوصول إلى وسط طرابلس.

وإذا ما تابعنا التجاذبات التي حدثت في مجلس الأمن بعد هجوم حفتر، والمماطلة الواضحة في اتخاذ قرار حازم لإجبار قواته على التراجع، نُدرك أن هناك رغبة دولية بترك الفريقين الليبيين يتقاتلان لاستنزافهما. ويرى عسكريون من بينهم اللواء صفصاف، أن الاستنزاف المستمر منذ أكثر من ثمانين يوما هو الوسيلة الوحيدة لإلحاق الهزيمة بحفتر، الذي اتخذ موقفا انتحاريا بقراره الدخول بالقوة إلى طرابلس. ومن المبادرات التي أحبطت بسبب عملية “بركان الغضب”، محاولة إعادة بناء المؤسسة العسكرية، إذ تشكلت من أجل ذلك لجنتان واحدة لكتابة مشروع متكامل لعرضه من ضمن وثائق ملتقى غدامس، والثانية لتتولى الاتصالات مع الضباط المتقاعدين والمُعتزلين. ووُضع رئيس الأركان العامة محمد الشريف في صورة هذه المبادرة، تمهيدا لإطلاقها بوصفها جزءا من المشروع الوطني الذي كان ينبغي أن ينبثق من ملتقى غدامس.

انفلات العناصر المسلحة

على الطرف المقابل من المشهد، تُعاني حكومة الوفاق من عاهات وأخطاء كثيرة، فهي مازالت تقرأ ألف حساب للكيانات المسلحة، وليست لديها القدرة على جمع السلاح الثقيل منها وإخراجه من المدن والمناطق السكنية عموما. كما أنها غير قادرة على ضبط انفلات العناصر المسلحة في العاصمة طرابلس، لأن تلك العناصر هي التي يتشكل منها الحرس الرئاسي، الذي يُراد له أن يكون نواة لجيش جمهوري حديث. والعائقُ الذي حال دون إعادة بناء الجيش إلى اليوم هو انتشار تلك الكيانات المسلحة واكتسابها نفوذا ما انفك يتعاظم، منذ 2011. غير أن مصدر قوة حكومة الوفاق الوحيد يبقى الاعتراف الدولي بها، بما فيه مجلس الأمن، الذي تلكأ في إبراز الضوء الأحمر أمام تقدم حفتر غربا. لا بل إن البيت الأبيض بدا مُشجعا من خلال المكالمة التي أجراها الرئيس دونالد ترامب مع اللواء حفتر، بعد أيام من إطلاق عملية “بركان الغضب”، وتأكيد البيان الصحفي الصادر عن البيت الأبيض أن ترامب عبر لحفتر عن “دعم أمريكا للجيش الليبي”. لكن الأرجح أن واشنطن وعواصم البلدان الستة أو السبعة المتدخلة في الأزمة الليبية ستعلن عن تعديلات في مواقفها في ضوء مآلات معركة طرابلس.

وكان أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي قالوا أخيرا في معرض تحفظهم على الاتصالات بين حفتر والبيت الأبيض، “إن لدينا علاقة مهمة بحكومة الوفاق الوطني الليبية، التي قادت حربا ناجحة على الإرهابيين في سرت، في عام 2016”. ووجه أعضاء اللجنة رسالة إلى الرئيس ترامب، ذكروا فيها أن “الحكومة الأمريكية استثمرت موارد كبيرة في دعمها لحكومة الوفاق، على الرغم من ضعفها”، مضيفين أن التاريخ أثبت أن أفضل من يكون شريكا للولايات المتحدة هي الحكومات التي يقودها مدنيون. وعبر أعضاء اللجنة عن قلقهم الشديد من استمرار الصراع في ليبيا، والحملة العسكرية الرامية للاستيلاء على طرابلس.

تهديد إرهابي

يبقى أن هناك مخاوف جادة من إقدام حفتر على اللعب بورقة النفط، باعتباره قد استكمل سيطرته على حقول النفط وموانئه الرئيسة. وحدثت في الفترة الماضية محاولات من قوات حفتر للدخول إلى الحقول، ما استدعى ردا فوريا وقويا من رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، خاصة بعدما دمَر قصف جوي خزانا تابعا لشركة مليتة للنفط والغاز (قطاع عام). وحذر وقتئذ رئيس مؤسسة النفط مصطفى صنع الله جميع الأطراف، من تدمير منشآت المؤسسة وكذلك من التهديدات المستمرة التي تطاول العمال في القطاع وتقوض المساعي الرامية لضمان استمرار الانتاج. كما حذر صنع الله أيضا مما سماه “عسكرة المنشآت والحقول النفطية”، بعدما اقتحمت قوات تابعة لحفتر أحد الحقول النفطية وحاولت السيطرة عليه.

وهناك مخاوف أيضا من تشجيع حفتر الجماعات الارهابية على تنفيذ عمليات في المدن التي باتت قوات الوفاق تسيطر عليها، على غرار السيارتين المفخختين، اللتين جرى تفجيرهما في الأول من الشهر الجاري في درنة (شرق)، وأسفرتا عن إصابة 18 شخصا بجروح مختلفة. واتجهت أصابع الاتهام آنذاك إلى حفتر، إذ اعتُبر الهجوم الذي يقوده للاستيلاء على طرابلس، السبب الأساسي وراء ظهور حالة من الفوضى وعدم الاستقرار شكلت مناخا مناسبا لعودة التهديد الإرهابي للبلد وللمنطقة ككل.

في إطار التوقعات، يبدو احتمال استمرار الأزمة المصرفية أحد عناوين المرحلة المقبلة، بعدما “انشغلت” حكومة الوفاق بالملف العسكري. لكن ليس مستبعدا أن تفكر بقطع المدد المالي عن القوات التي تحاصرها، وعلى موظفي المنطقة الشرقية عموما، الذين يحصِلون على رواتبهم من العاصمة طرابلس، وبذلك تشلُ حركة جيش المنطقة الشرقية. ويملك حفتر في هذه الحالة عدة بدائل من بينها احتلال حقول النفط، لكن هذه العملية ستُعمق الأزمة الاقتصادية المستفحلة أصلا منذ مدة غير قصيرة، وتكون لها تداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية على البلد بأسره. وقد يؤدي تفاقم أزمة السيولة القائمة حاليا في المصارف التجارية، إلى خوف جماعي وعمليات سحب فوضوية، تُربك عمليات الاستيراد والمعاملات المصرفية في بلد يلعب الاستيراد فيه دورا محوريا. وحتى المؤسسات الخاصة والشركات العمومية الكبرى، التي تملك حسابات مفتوحة لدى المصارف ستجد نفسها غير قادرة على صرف أموال للزبائن ولا على تمويل عمليات تجارية مع الخارج.

يتطلب تفادي هذا السيناريو الكارثي، جلوس المسؤولين الاقتصاديين معا لبحث هذه القضايا والعمل على إعادة توحيد مؤسسات الدولة، وفي مقدمها مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط. ويقتضي ذلك أولا الاتفاق على وقف إطلاق النار والانطلاق في مسار الحل السياسي، وثانيا رفض التقسيم، الذي يتزايد الداعون له، مع وجود مناخات مشجعة مثل الحملة العسكرية على طرابلس، وإحياء النعرات المناطقية والقبلية، بعدما قطع المجتمع الليبي على مدى نصف قرن خطوات حاسمة نحو تجاوز الانتماءات ما قبل الحداثية، وصاغ نمط حياة مختلف في المدن التي تضم أكثر من 70 في المئة من العدد الإجمالي للسكان (6.5 ملايين نسمة)، وخاصة طرابلس (2.5 مليوني ساكن) وبنغازي (500 ألف ساكن) ومصراتة (300 ألف ساكن). لكن، مرة أخرى، خرج القرار من أيدي الليبيين بعد تدويل الأزمة، وصار الحل السياسي يتوقف على مدى قدرة الأطراف الدولية على الانسجام في ما بينها، والتوافق على صيغة شاملة لتجاوز الوضع الراهن.

تعليقات