حاوره: رشيد خشانة

قال الأدميرال بشير صفصاف القائد السابق للقوات البحرية الليبية إن عملية “طوفان الكرامة” أتت لإجهاض ملتقى غدامس الذي شارك في إعداده 6000 ليبي بـ22 ألف ورقة. وروى في حديث لـ”القدس العربي” الاجتماعات التي عقدها عسكريون من المنطقتين الشرقية والغربية لمعاودة بناء الجيش الليبي واستبعاد الهجوم على طرابلس. وأكد أن اللواء المتقاعد خليفة حفتر رد عليهم باستهداف العاصمة، بمخطط من الخارج يرمي لاستنزاف قوى الطرفين وإنهاكهما، على أساس ألا يدخل حفتر إلى طرابلس ويبقى عند تخومها في معارك كر وفرٍ.

وهنا نص الحوار:

*هل أصبح الحل العسكري هو الخيار الوحيد المتاح في ليبيا مثلما يقول البعض؟

**لا يمكن حل الأزمة في ليبيا عسكريا، وهي الفكرة التي راودت البعض عند التحول من الثورة إلى الدولة. ما حال دون ذاك التحول هو وجود مجموعات مسلحة وسلاح ليس في يد الدولة، بل في أيدي مجموعات حاول شخص في المنطقة الشرقية أن يسيطر عليها، وهو خليفة حفتر، مُدعيا أنه شكل منها “جيشا وطنيا”. وهناك قوى لديها أجندات خارجية ساعدته على ذلك، بينما في المنطقة الغربية لم تسيطر الدولة على تلك المجموعات. وهناك مجموعتان في المنطقة الغربية تعتبران شبيهتين بجيش، هما “البنيان المرصوص”، الذي استطاع أن يقضي على الدواعش في سرت، ويجتثها من جذورها، بالتعاون مع القيادة الأمريكية في أفريقيا (المعروفة بـ”أفريكوم”)، على صعيد الاستطلاع والمعلومات والطيران، ودفع ثمنا باهظا وصل إلى 740 شهيدا وحوالي ألفي جريح. أما القوة الثانية فهي “قوة مكافحة الارهاب”، وهي منظمة جدا ومدرَبة تدريبا عاليا، بالتعاون مع الأمريكيين، بقيادة اللواء محمد الزين (ينحدر من مصراتة).

*كيف واجهت القوتان هجوم حفتر على طرابلس؟

**هما اللتان امتصتا الصدمة في اليومين الأولين من الهجوم، وهي الصدمة التي كان حفتر يُعول عليها، فالاشكالية اليوم هي كيف يمكن للدولة ان تضبط السلاح وتحتكره وهو منتشر خارج مؤسساتها؟

*ولماذا لم يتخذ مجلس الأمن قرارا ضد زحف حفتر على طرابلس؟

**الهدف هو استنزاف الطرفين ولذلك كانت الحملة على طرابلس معركة طويلة على مدى نحو تسعين يوما، للوصول إلى تخومها الجنوبية فقط.

*وكيف يمكن التعاطي مستقبلا مع تلك المجموعات المسلحة في رأيك؟

**الرؤية المستقبلية ينبغي أن تقوم على إدماج المجموعات المسلحة عبر كامل التراب الوطني، فالترتيبات الأمنية ينبغي أن تبدأ من وضع السلاح الثقيل في يد الجيش. وكانت هناك خطوة نحو توحيد المؤسسة العسكرية في 2016، إذ وُضع مشروع وطني تضمن المبادئ الحاكمة للمؤسسة العسكرية، بما في ذلك البنية التنظيمية والاشتراطات الواجب اتخاذها في هذا السبيل. وكان لي شرف ترؤُس اللجنة المكلفة بوضع هذا المشروع، وفعلا شكلنا لجنة للتواصل من أجل الحوار مع جميع العسكريين. وتوزعت اللجنة إلى لجنتين واحدة للتواصل الخارجي وعلى رأسها العقيد (العميد حاليا) سالم جحا، وهو من الثوار السابقين في 2011، وقاد العمليات ضد النظام السابق، وكان معارضا للقرار الرقم 7 القاضي بالدخول لمدينة بني وليد، أما اللجنة الثانية فتوليت رئاستها مع اللواء جبو، واتصلت بالضباط في الداخل لإقناعهم بالمشروع. ولما طُرحت مبادرة عقد الملتقى الوطني في غدامس بين 14 و16 نيسان/ابريل الماضي، كانت هذه العملية جزءا من المشروع، ووضعنا رئيس الأركان العامة محمد الشريف ونائبه سالم جحا في الصورة، على أساس أن هذه المبادرة تكون جزءا من المشروع الوطني العام لدى مناقشته واعتماده في ملتقى غدامس. غير أن العدوان على طرابلس أفشل المشروع مثلما هو معروف، بمخطط من الخارج يرمي لاستنزاف قوى الطرفين وإنهاكهما، على أساس ألا يدخل حفتر إلى طرابلس ويبقى عند تخومها في معارك كر وفرٍ.

*لكنه كان مُصرا على الدخول إلى قلب طرابلس…

**خطة حفتر العسكرية كانت تقوم على ثلاثة عناصر: أولا قاعدة إدارية في الجفرة (مقر قيادته في ضواحي بنغازي) تستقبل السلاح والعتاد والأفراد، ثم توزع على الجبهات. ثانيا السيطرة على غريان، وهي مدينة جبلية على ارتفاع 800 متر عن مستوى سطح البحر، وثالثا جناحان وهما صبراتة – صُرمان في أقصى الغرب وترهونة ذات الموقع الاستراتيجي شرق طرابلس، فإذا كانت لديك قاعدة عملياتية وجناحان، يمكنك الإطباق على العاصمة. هذا صحيحٌ مئة بالمئة من ناحية التخطيط العسكري، لكن الحسابات كانت خاطئة، إذ كان حفتر يُعول كثيرا على الجبهات الداخلية، فهو يعتقد أن تلك المدن مؤيدة له. والضربة الأولى التي تلقاها تمثلت في أسر المجموعات التي كانت قادمة من صبراتة – صرمان في اليوم الأول، ففشل بذلك جزءٌ كبيرٌ من الخطة، أقلُهُ على صعيد المعنويات. فالتحرك الطبيعي كان ينبغي أن يكون نحو ترهونة، لأنها أقرب إلى جبهة وادي الربيع، وهي أكثر الجبهات سخونة. وما زاد من شدة القوة في مقاومة حفتر، هو توحُد القوى الموجودة في طرابلس، بالرغم من التناقضات بينها، وهذا لم يتم في يوم الهجوم على طرابلس، وإنما قبل ذلك.

وكانت الانطلاقة من مبادرة عناصر من ترهونة بإلقاء القبض على أفراد من ككلة (وهي مدينة غنيوة الككلي الذي يوجد معقله في بوسليم جنوب طرابلس)، لذا نزل شيوخ ككلة إلى طرابلس وحصل اتفاق على إطلاق المخطوفين وعلى تشكيل “قوة حماية طرابلس”، وتم كل ذلك قبل فترة من انطلاق هجوم حفتر على العاصمة.

*ماذا يعني هذا التوحيد من الناحية العسكرية؟

**بعد 2011 سيطرت قوة الزنتان على طرابلس، ثم أتت كتائب مصراتة لتُخرج الزنتان في إطار عملية “فجر ليبيا” في 2014، ومن الطبيعي أن تكون العاصمة هي المستهدفة من ذلك الصراع، فهي مركز المال والقرار السياسي، لذلك استهدفها الجميع، لكن كان لزاما على جميع التشكيلات الموجودة فيها أن تتوحد لمجابهة الخطر المشترك.

*وهل قبلت الخضوع لقيادة موحدة؟

**شكلنا غرفة عمليات موحدة ووضعنا مهام محددة لكل تشكيل، بينما أعطيت القيادة للـ”النواصي”، وهم أقل قوة من الآخرين لكنهم أكثر حكمة. كان هناك يوم مفصلي كان يُفترض أن تختطف فيه ترهونة عناصر من ككلة، فيكون ذلك مبرر للهجوم على غنيوة في العاصمة باعتباره ككليا (من ككلة). وفعلا جاء جماعة ككلة إلى العاصمة وكان الجو مشحونا ومتوترا، فطلبتُ منهم أن يُبرزوا قوتهم للطرف المقابل، فتوجهت قوة كبيرة منهم إلى ترهونة وحاصرتها، فسلموا لهم الرجال المعتقلين. كانت هذه الحادثة النقطة الحاسمة التي جعلت مصراتة تأتي إلى طرابلس ويتم إبرام اتفاق ضد حفتر. كل ذلك تم قبل بدء الحملة العسكرية على العاصمة. لذا لما جاءت قوات حفتر، كانوا جاهزين. ولاحظنا عندما جاءت تشكيلات مصراتة إلى طرابلس، قبل ذلك، أن قوات البنيان المرصوص لم تكن بينها، ولا قوة مكافحة الارهاب. كما لم توجد في المنطقة الغربية قيادة عسكرية. كانت هناك إدارات ومؤسسات إمداد وأجهزة استخبارات، وكان العمل سائرا بشكل طبيعي في المنطقة الغربية. إلا أن كل ذلك لم يكن بارزا كما هو في الشرق، حيث هناك رئاسة أركان وقائد عام، مما أضفى عليها رمزية دولية. تُضاف إلى ذلك حملات الدعاية (البروباغندا) وتجميع الألقاب العسكرية بإفراط.

في البداية كنت أنا وكثير من العسكريين مع حفتر في الحرب على الإرهاب فالهدف الأول الذي جعله نقطة استقطاب للعسكريين هو التصدي للدواعش الذين كانوا يغتالون العسكريين بإفراط، في سرت وبنغازي ودرنة وغيرها، فلما وجدنا من يستطيع حمايتهم، كنا ننتظر تجسيد المُعلن عنه. وسأروي لك حادثة مهمة في هذا الصدد، فقبل أن يتحرك حفتر نحو طرابلس بستة أشهر تقريبا أرسل لنا شخصا هو مدير مكتب القائد الأعلى فايز السراج (المعترف به دوليا) واسمه اللواء محمود عبد الجليل، وأخبرني أن السراج يقول لي “هناك شخص من المنطقة الشرقية سيصل غدا إلى طرابلس وأريدك أن تقابله”. ذهبت في اليوم الموالي في الموعد فوجدت كافة القيادات العسكرية في المنطقة الغربية، واتضح أن الشخص المعني هو الدكتور علي الترهوني.

*ماذا كانت مهمة علي الترهوني؟

**كنت أظن أنني سأقابله بمفردي فوجدت هذه الكوكبة من القادة، فقال لنا الآتي “أنا لا أتقلد أي مسؤولية رسمية وأنا مصاب بالسرطان ولا أعرف متى تحين ساعتي، لكنني متطوع لإصلاح ذات البين، وتربطني وشائج بحفتر والسراج، فقد كنت مقيما في أمريكا مع حفتر، وأتيت لأبلغكم رسالة فحواها أن حفتر له ميزتان فهو ضابط من الضباط الوحدويين الأحرار، وكان يطمح، كتنظيم، إلى توحيد الوطن العربي فما بالك بليبيا، فهو لن يرتضي بتقسيمها أبدا. أما الميزة الثانية فهي أنه ضد الارهابيين وخاصة الأجانب. غير أنه يعتقد أن المؤسسة العسكرية ينبغي أن يكون لها قائد واحد، وبالذات في المرحلة الراهنة، ولا يريد أن يكون فوقه قائد أعلى، فما رأيكم؟”. أجمع الضباط الحاضرون الذين هم في الخدمة، على أنهم عسكريون تحت القانون ولا تهمهم مسألة من هو القائد الأعلى، فالمهم أن تكون هناك قيادة عليا يأتمرون بأمرها.

*ماذا كان تعليقك؟

**قلت: أنا متقاعد ورأيي أعطيه بكل حرية في الدولة وفي العلاقة بين السياسة والدفاع، فالسياسة هي التي تبني الجيوش وهي التي تعطيها الموازنات. والعسكري ببزته العسكرية لابد أن يكون له رئيس، وهو رئيس الدولة في بعض الأنظمة ورئيس الوزراء في أنظمة أخرى. ويمكن للعسكري أن يصبح وزيرا للدفاع لكنه يبقى تحت سلطة رئيس الحكومة. وما على المسؤول العسكري الذي يريد أن يكون المرجع الأعلى إلا أن يخلع بزته العسكرية ويخوض انتخابات. هذه كانت رسالتنا الجوابية لحفتر عبر الترهوني.

*وكيف كان الردُ؟

**الهجوم على طرابلس بعد أيام…

*نأتي إلى غريان، ماذا يعني أن يخسرها حفتر ويُضطر للانسحاب منها؟

**فقد حفتر بخروجه من غريان موقعا استراتيجيا كان يمكن أن يكون منطلقا للسيطرة على طرابلس.

*يبدو أن هناك أشخاصا من داخل غريان ساعدوه على اقتحامها والسيطرة عليها، أليس كذلك؟

**هؤلاء اشترى ضمائرهم بخمسة ملايين دينار والأسماء معروفة. وأحدهم هو من الثوار السابقين وقد أصيب إصابة بالغة في معارك غريان.

*هل لعملية طوفان الكرامة علاقة مباشرة باتفاق أبو ظبي؟

**ما كان مطروحا في أبو ظبي هو التوافق على حزمتين من القرارات، الأولى تتمثل بتقليص عدد أعضاء المجلس الرئاسي من تسعة إلى ثلاثة فقط (السراج من الغرب وسيف النصر من الجنوب والعبَار من الشرق) وتحت المجلس حكومة، وكان هناك اتفاق على أن تكون حكومة تسيير أعمال لا تتخذ قرارات استراتيجية، ومهمتها الأولى هي تنظيم الانتخابات. وهناك شخصان فقط يمكن أن يضعا فيتو على القرارات، هما السراج وحفتر. أما الحزمة الثانية فتخص تشكيل مجلس الدفاع والأمن القومي المؤلف من أربعة أعضاء هم السراج والقائد العام (حفتر) ووزيرا الداخلية والخارجية. وكنا ننتظر أن يتم دفع المشروعين إلى الأمام في الملتقى الذي كان مقررا عقده في غدامس مع أواسط نيسان/ابريل الماضي.

*من الذي عطله؟

**الإمارات. حدث هذا أيضا في أعقاب انتخابات 2014، إذ كان كل شيء مرتبا لتسليم المشعل للمجلس المنتخب. حتى السجاد الأحمر كان جاهزا، والكلمات جاهزة. لكن أتت مكالمة في اللحظة الأخيرة من أبو ظبي لرئيس مجلس النواب عقيلة صالح ألا تُسلموا ولا تتسلموا (من المؤتمر الوطني العام). هذه العملية أنشأت اتفاق الصخيرات (2015) وتم تقسيم البلد. ولما قمنا بالإعداد لملتقى غدامس تم إجهاضه أيضا بنفس الطريقة، بعد عقد 77 اجتماعا شارك فيها 6000 ليبي وأنتجت 80 ألف ورقة، لُخصت في 22 ورقة، وشملت الأوراق كل المجالات مع ملخصاتها. لذا عندما أجهضوا المشروع كانت حساباتهم ورهاناتهم خاطئة، والدليل فشل عملية “طوفان الكرامة”.

تعليقات