رشيد خشانة – لم تُعمر هدنة العيد أكثر من أربع وعشرين ساعة، قبل أن تنتهكها القوات التي تأتمر بأوامر القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر. وفي خط مُواز كثفت هذه القوات من الاعتماد على الضربات الجوية، محاولة إيقاع أكبر الخسائر البشرية والمادية بالقوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني. ولوحظ أن تلك الضربات باتت تستهدف أكثر فأكثر المطارات والمنافذ الجوية، في محاولة لشل حركة الملاحة والطيران المدني. وكان آخر المطارات المُستهدفة مطار معيتيقة في طرابلس ومطار زوارة غرب العاصمة، القريب من الحدود المشتركة مع تونس. ويمكن القول إن الفترات التي يكون فيها مطار معيتيقة مُقفلا في وجه الملاحة الجوية، صارت أطول من الفترات التي يستقبل فيها الرحلات الجوية (المدنية)، بسبب مخاوف سلطات المطار من تعريض الطائرات والمسافرين للخطر، نتيجة القذائف التي تطلقها قوات الجنرال حفتر على المطار، بدعوى أنه يُستخدم لأغراض عسكرية.

قوسٌ حول العاصمة

الظاهر أن الهدف من شل رئة التنفس الوحيدة لسكان العاصمة (3 ملايين ساكن)، بعد إقفال مطار طرابلس الدولي في العام 2014، هو تأليب السكان على السلطات السياسية (حكومة الوفاق) وتعميق الفجوة بين الجانبين، وسط مناخ من الغضب بسبب تردي الأوضاع المعيشية والبيئية. أما زوارة، المدينة المعروفة بتجانسها واستقرارها، فالغاية من قصف مطارها أخيرا وإخراجه من الخدمة، هي معاقبتها على ولائها للدولة، ورفض حكمائها أن تكون جناحا غربيا للقوس الذي حاول حفتر أن يُطوِق به العاصمة، وفي القلب منه مدينة غريان (100 كلم جنوب طرابلس) التي طُردت منها قواته. ويمتد هذا القوس من صبراتة على ضفاف المتوسط غربا، إلى ترهونة شرقا، مرورا بقصر بن غشير وخلة الفرجان.

تُدرك العواصم الاقليمية والدولية المعنية بالنزاع في ليبيا أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية بلغت مستوى غير مسبوق من التدهور منذ 2011، وأن البلد يقترب من منزلة الدول الفاشلة. إلا أن تلك العواصم تكتفي بالفرجة، مع إصدار بيانات من وقت إلى آخر، لرفع العتب. وفي حركة غير معهودة في هذا الملف، أصدرت كل من الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وبريطانيا وإيطاليا بيانا مشتركا حضت فيه على تحويل هدنة العيد إلى وقف دائم لإطلاق النار، واستئناف المفاوضات من أجل إطلاق عملية سياسية، للتغلب على الأزمة الراهنة

. لكن ما أن تم خرق الهدنة حتى لاذ الخماسي بالصمت، فلم يتعامل مع هذا الاختراق بجدية، ولم يسع إلى مراقبة تنفيذ الهدنة. وغير خاف على أحد أن لدى الخماسي وسائل ضغط مباشرة وأخرى عبر الأمم المتحدة لرفع الغطاء عن أمراء الحرب وإخضاعهم للعقوبات.

كاد المُريب…

وصلت ازدواجية المواقف إلى حد أن الدول الخمس طالبت في بيانها بـ”تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي بحظر صادرات السلاح إلى ليبيا”، وهي المُصدِرُ الرئيس للأسلحة إلى الفريقين المتقاتلين، فهل من نزق أكثر من هذا، وهل من رياء أشدُ من هكذا رياء؟ أكثر من ذلك، دعت الناطقة باسم الخارجية الروسية “جميع القوى السياسية والعسكرية في ليبيا إلى الانخراط في المفاوضات واتخاذ إجراءات لاستعادة عملية سياسية شاملة”، تهدف إلى التغلب على انهيار البلاد وإنشاء مؤسسات دولة موحدة وفعّالة، تكون قادرة على استعادة السلام والازدهار على الأراضي الليبية. كلامٌ جميلٌ، لكن لا أثر له في الواقع، فالمسؤولون الروس لا يعرفون الطريق إلى طرابلس، لكنهم يعرفون جيدا مقر الجنرال حفتر في قاعدة المرج، حيث زارته وفود من المسؤولين العسكريين والسياسيين الروس، مثلما يعرف هو أروقة وزارة الدفاع في موسكو، وحتى إحدى قطع البحرية العسكرية الروسية التي استُقبل على ظهرها.

غارة وتفجير

لم تُعلق الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن على الغارة التي نفذتها قوات حفتر على مستشفى ميداني تابع لقوات “الوفاق” السبت الماضي، والتي أدت إلى وفاة خمسة أطباء وإصابة ثمانية مُسعفين بجروح، فيما استنكر أعضاء المجلس التفجير الذي استهدف سيارة كان يستقلها موظفون في بعثة الأمم المتحدة في بنغازي، والذي ذهب ضحيته ثلاثة من الموظفين، ووقف أعضاء مجلس الأمن دقيقة صمت ترحُما على أرواحهم.

وتشير تقارير متواترة إلى أن المستشفيات الميدانية، القريبة من مواقع الاشتباكات، جنوب طرابلس، تتعرض لقصف جوي متكرر يُنفذه طيران قوات حفتر، بالرغم من الدعوات المتكررة التي وجهتها منظمة الصحة العالمية، إلى تجنُب استهداف الطواقم الطبية، مُذكرة بأن دورها يقتصر على تقديم خدمات الإسعاف لضحايا المعارك. وينبغي توقُع مزيد من “الأخطاء” من هذا القبيل في الفترة المقبلة، لأن الضربات الجوية المتبادلة تكثفت في المدة الأخيرة، فقد لجأت قوات حفتر إلى قصف قواعد عسكرية ومواقع تمركز قوات “الوفاق” في الجنوب، بعد إخفاقها في الزحف على طرابلس. وردت قوات “الوفاق” باستهداف قواعد منها قاعدة الجُفرة في الجنوب. كما لوَح اللواء أسامة الجويلي قائد قوات “الوفاق” بضرب مطار بني وليد (وسط)، متهما الطرف المقابل باستخدامه لأغراض عسكرية. وفي السياق هاجمت طائرات حفتر مطار الأكاديمية العسكرية بمصراتة ردا على استهداف قاعدة الجُفرة، ما يُؤكد الانتقال إلى حرب جوية بالأساس، مثلما أسلفنا، واستطرادا فهو يُؤشر على انتشار الحريق إلى مناطق عدة من البلد شمالا وجنوبا، بعدما كانت المعارك تقتصر تقريبا على التخوم الجنوبية لطرابلس.

ضربات متبادلة

خلال الضربة الجوية التي نفذها طيران “الوفاق”، أواخر الشهر الماضي على قاعدة الجُفرة، التابعة لقوات حفتر، بواسطة طائرات بلا طيار، استطاع أن يُصيب طائرتي نقل أوكرانيتين ويقتل قائد إحديهما. وأتى رد قوات حفتر في فجر اليوم التالي باستهداف مهبط الطائرات في مطار الأكاديمية العسكرية بمصراتة، بواسطة طائرات بلا طيار، ما أدى إلى إصابة طائرة نقل عسكري تركية. وعزا خبراء عسكريون دقة الضربات الموجهة إلى تلك الأهداف، إلى استعانة قيادة حفتر بأجهزة استخبارات عربية وأجنبية، تحت يافطة “مكافحة الجماعات الارهابية”.

ولئن نفى طلال الميهوب، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بالبرلمان الليبي (مقره في طُبرق – شرق) وجود خلافات بين الجنرال حفتر وضباطه، تُؤكد مصادر أخرى بروز تلك الخلافات على السطح، وخاصة مع ضباط كبار، بينهم المهدي البرغثي قائد كتيبة الدبابات والمتحدث السابق باسم “قوات الكرامة” الرائد محمد حجازي، الذي انفصل عن حفتر منذ فترة، والعقيد فرج البرعصي واللواء عبد السلام الحاسي، الذي يتردد أن حفتر يُحمله المسؤولية عن هزيمة غريان، في الأقل جزئيا.

غطاء دولي
من أجل تأمين غطاء دولي لكل منهما تسعى حكومة الوفاق من جهة والبرلمان المؤيد لحفتر من جهة ثانية إلى كسب دعم العواصم المعنية بالنزاع في ليبيا، وبخاصة أعضاء مجلس الأمن. وزار أخيرا وفد من مجلس النواب (جناح طُبرق) واشنطن، حيث أجرى اتصالات مع أعضاء في الكنغرس والادارة الأمريكية، وزار أيضا فرنسا حيث اجتمع مع وفد من وزارة الخارجية برئاسة مساعد الوزير لشؤون شمال أفريقيا والمغرب العربي والشرق الأوسط. وضم الوفد الذي قاده طلال الميهوب، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بالبرلمان، كلا من النائب الثاني لرئيس المجلس أحميد حومه، ورئيس لجنة الخارجية والتعاون الدولي يوسف العقوري، وعدد آخر من رؤساء اللجان.
وبحسب رئيس الوفد تم تسليم وثائق تُثبت “تورُط” حكومة الوفاق مع أطراف اقليمية ودولية، مع التأكيد على أن “غالبية أهالي طرابلس مؤيدة لدخول الجيش (قوات حفتر) إليها” على ما جاء في تصريح صحفي للميهوب. غير أن عددا كبيرا من الطرابلسيين كتبوا تدوينات كذبوا فيها ما ورد في تصريحاته.

تواصل الاستنزاف

في المقابل فتحت حكومة الوفاق خط اتصال مع روسيا، من خلال إرسال وفد من أعضاء البرلمان المقيمين في طرابلس، إلى موسكو أخيرا. ونقل أعضاء الوفد عن ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي والمبعوث الخاص للرئيس بوتين إلى الشرق الأوسط ودول أفريقيا، أن موسكو تعارض الهجوم على طرابلس، داعيا جميع القوى السياسية والعسكرية في ليبيا إلى الانخراط في المفاوضات والجنوح إلى الحل السياسي.

ويأتي الموقف الروسي في سياق موقف إقليمي ودولي أشمل يطالب أطراف الأزمة بوقف القتال الدائر في محيط طرابلس، واستئناف العملية السياسية التي ترعاها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بقيادة غسان سلامة. لكن الأرجح أن الموقف الحقيقي للعواصم المهتمة من قريب بالشأن الليبي، يميل إلى ترك الطرفين المتقاتلين يستنزفان بعضهما بعضا، في حرب شبيهة بحرب داحس والغبراء، لا تُعرف لها نهاية، بما أن السلاح الذي تم نهبُهُ من مخازن النظام السابق لم ينفد بعدُ، وطالما ظلت الحكومتان في الشرق والغرب تشتريان المزيد من العتاد والأسلحة على أمل تعديل الموازين العسكرية لصالحها، في لعبة عبثية ليس لها سقفٌ ولا حدود. مع ذلك يمكن لشخصيات عامة، سياسية وعسكرية، من الذين يحظون بمصداقية شعبية، أن يتخذوا مبادرة مواطنية للدعوة إلى مؤتمر سلام داخل ليبيا، وأن يُحصِلوا دعما من الأمم المتحدة، ويستقطبوا التأييد من فئات ومناطق عديدة، تمهيدا لوضع خارطة طريق لحلً سياسي وروزنامة لتنفيذ مراحله.

تعليقات