رشيد خشانة – الأرجح أن تمدُد “تنظيم الدولة” وشبكة “القاعدة” في جنوب ليبيا، وبعض دول الساحل والصحراء، مُستفيدتين من “حرب طرابلس”، شكل عنصرا حاسما في جنوح الأطراف الغربية، المؤثرة في المشهد الليبي، أخيرا، نحو الحل السياسي. وعلى مدى أربعة أشهر من القتال في الضواحي الجنوبية لطرابلس، ظلت العواصم الغربية ترفع صوتها، في الاعلام فقط، مطالبة بحل دبلوماسي، فيما هي تمُد الأطراف المتقاتلة بالأسلحة تحت الطاولة. ولم تكن الأمم المتحدة بعيدة عن هذا الموقف، من خلال اجتماعاتها العقيمة. في هذا الإطار يمكن أن نفهم إعلان مبعوث الأمم المتحدة رئيس بعثتها للدعم في ليبيا، غسان سلامة، أننا نقترب من الانتقال إلى مرحلة “حل الأزمات”، استكمالا للهدنة القصيرة في عيد الاضحى.

“تنظيم الدولة” عندنا…

قد يكون سلامة يقصد بذلك المخاطر التي نتجت ومازالت عن استمرار الأزمة الراهنة، والتي أثبتت أنه لا يمكن أن يكون هناك غالب ومغلوب، بالرغم من الهزيمة الاستراتيجية لقوات الجنرال خليفة حفتر في مدينة غريان. وعزز “تنظيم الدولة” انتشاره في الجنوب، وسط انشغال الجميع بالحملة على طرابلس، التي أوقعت أكثر من 1200 قتيل. كما حقق انتقالا سلسا لعناصره، من شمال ليبيا، وبخاصة مدينتي سرت ودرنة، نحو الجنوب.

وبعدما استطاع معاودة بناء معقل له هناك، صعَد من هجماته، التي استهدفت منشآت في مدن الجنوب وأشخاصا يُعتقد أنهم من الرافضين لسلطة “داعش”. أكثر من ذلك، لم يتوان التنظيم، الذي خسر آخر معاقله في العراق وسوريا، عن اتخاذ مدينة الفقهاء في الجنوب الليبي معقلا جديدا له، بحسب موقع “يورونيوز” الأوروبي. وما يُستشف من التقارير العسكرية هنا وهناك، أن عناصر التنظيم بدأت تظهر في المزارع بالجنوب، وأن عناصر غير ليبية من دول الجوار انضمت إليها، وخاصة من تشاد والنيجر المجاورتين لليبيا.

وتُرجح تلك التقارير أن التنظيم قد يُعلن ولاية جديدة في ليبيا، لاسيما بعدما ظهر زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، آمرا أتباعه بتنفيذ “عمليات استنزافية” في ليبيا وبعض البلدان الأخرى، مُركزا على تصفية العسكريين والأمنيين، لقطع الطريق أمام محاولة إعادة بناء الجيش النظامي، والمؤسسات الأمنية. وفي أقل من شهرين شنت عناصر التنظيم هجومين على بلدة غدوة، جنوب سبها (عاصمة الجنوب)، واغتالت شخصين من منتسبي الجيش وأحرقت مقر المجلس المحلي وعددا من منازل سكان القرية. وكانت شنت قبل ذلك هجوما على معسكر للتدريب في مقر الكتيبة 160 مشاة، أسفر عن مقتل سبعة من جنود الكتيبة، قُتل أحدهم ذبحا على الطريقة الداعشية.

دفاعا عن النفس

اللافت أن قوات الجيش الذي يقوده الجنرال حفتر لم تستطع احتواء التمدُد الداعشي، ولا استطاعت أن تفعل ذلك القوات المؤيدة لحكومة الوفاق في طرابلس، بسبب اتساع الرقعة الجغرافية، وصعوبة تأمين خطوط الإمداد والإسناد. وفي النتيجة اضطر السكان للدفاع عن أنفسهم بأنفسهم. وأصاب عميد بلدية سبها حامد الخيالي، حين أكد أن السكان واجهوا المهاجمين المسلحين بوسائل بسيطة لم تساعدهم على الصمود. ولا يُستبعد أن تطال الهجمات في المستقبل مدينة سبها نفسها، عاصمة اقليم فزان، بسبب غياب الدولة التام من الجنوب.

ولا يختلف الوضع في بلدان الساحل والصحراء عن الجنوب الليبي كثيرا، إذ ترتع فيها الجماعات المسلحة، عابرة الحدود بلا صعوبات، عدا حذرها الدائم من الضربات الجوية الأمريكية. وتكثفت الهجمات المسلحة في الفترة الأخيرة، مع أن فرنسا شكلت، بغطاء من الأمم المتحدة، البعثة الأممية في مالي (مينوسما) منذ العام 2013. لكن تقارير كثيرة أكدت أن تلك القوة تتفادى الاحتكاك بالجماعات الارهابية، وتتحاشى التنقل إلى المناطق التي تستهدفها الهجمات الانتحارية. وبالنتيجة اضطر السكان للاعتماد على أنفسهم في التصدي لهجمات عناصر “داعش”. وذكر أحد التقارير الصادر عن إحدى المنظمات غير الحكومية الغربية، أن 845 قرويا افريقيا قُتلوا خلال تلك الهجمات منذ بداية العام الجاري، وهو جانب منسييٌ من الحروب الدائرة في محيط ليبيا. ويُظهر الخط البياني للهجمات أنها في ارتفاع مطرد، فبعدما كان تنظيم الدولة يُنفذ عملية انتحارية كل ستة شهور في المتوسط، قبل اندلاع “حرب طرابلس” في أبريل/ نيسان الماضي، تجاوز عدد عملياته منذ ذلك الحين سبع عمليات.

قلق أمريكي

الأرجح أن الأمريكيين قلقون من اتساع نفوذ “تنظيم الدولة” وجماعات إرهابية أخرى في الجنوب الليبي، وهو ما عبر عنه السفير ألأمريكي الجديد لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، لدى تسليم أوراق اعتماده إلى وزير الخارجية الليبي محمد طاهر سيالة في تونس الخميس الماضي. ومن نتائج ذلك القلق ارتفاع نبرة الدعوة الأمريكية، في الفترة الأخيرة، إلى “وقف دائم لإطلاق النار وحل سياسي تفاوضي يُكرس الأمن والاستقرار”. ويتقاطع هذا الموقف مع مساعي البعثة الأممية إلى ليبيا بقيادة غسان سلامة، الذي اقترح على القوتين المتصارعتين القيام بثلاث خطوات لحلحلة الأزمة، أولاها تكريس الهدنة، ثم عقد اجتماع رفيع المستوى للبلدان المعنية بالملف الليبي، من أجل ترسيخ وقف الأعمال العدائية، وثالثتُها إقامة اجتماع دولي يعقبه اجتماع ليبي، يضم الشخصيات القيادية المؤثرة، من جميع أنحاء البلاد، للاتفاق على خريطة طريق.

والظاهر أن البعثة الأممية تعمل على إنضاج الظروف لهذا الحل السياسي من خلال الاتصال بعمداء البلديات وأعضائها، وممثلين عن المجتمع المدني وزعماء القبائل، وكذلك ممثلين عن المرأة والنشطاء الاجتماعيين. وبالنظر للوزنين السياسي والاقتصادي الكبيرين لمدينة مصراتة، ذهبت إليها أخيرا نائبة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، ستيفاني ويليامز (أمريكية الجنسية)، واجتمعت إلى قياداتها للبحث في سُبُل إنهاء الأزمة الراهنة. الجديد هنا هو أن القيادات المصراتية، المُلتفة حول المجلس البلدي، قدمت شرطا لم يكن يُذكر قبل شن الهجوم العسكري على طرابلس، في الرابع من أبريل/ نيسان الماضي، ويتمثل باستبعاد الجنرال حفتر من أي حوار ليبي ليبي. وكان واضحا أن مخاطبي ويليامز لا يرغبون في قيام نظام عسكري على شاكلة السلطات التي يتمتع بها حفتر في المنطقة الشرقية، وأنهم يعملون على “بناء الدولة المدنية” على ما جاء في بيان لبلدية مصراتة بعد اللقاء مع الموفدة الأممية.

وعود… وعود

من هنا بدأ التباعد يتكرس ويتعمق بين الجنرال حفتر والعواصم الدولية التي كانت تحميه، لكن لاشيء يؤكد حتى الآن، أنها في سبيلها لنفض أياديها منه، بعدما عجز عن الايفاء بوعوده، بالقضاء على الارهاب في ليبيا “قريبا”. وباتت تلك العواصم على قناعة بأن الجنرال وقف عند أبواب طرابلس، ولن يستطيع التقدم بعد المعارك التي أنهكت قواته واستنزفت أسلحته وعتاده. وأشارت تقارير إلى أن تلك القوات غاصت في أوحال “معركة طرابلس”، إلا أن قائدها زاد تعنتا وإصرارا على متابعة الهجمات الجوية والبرية، من دون اعتبار لأخطارها على السكان المدنيين. ويعتقد الباحث الليبي طارق مقريسي أن إخفاق حفتر في معركة طرابلس، نزع عنه الصفة التي كان يحاول ترسيخها، باعتباره الجدار الأقوى أمام انتشار التطرف والإرهاب، كما أفرغ شعارات أخرى من مضمونها، مثل قولهم إنه الرجل القوي في الشرق، وهو لقب ثبت أنه لا يستحقه.

وفي مالي، كما في النيجر تندلع، من وقت إلى آخر، معارك عنيفة ترتدي أحيانا طابعا قبليا، وتكون أحيانا أخرى هجمات يُنفذها “تنظيم الدولة”، من دون أن تكون للسلطات المركزية قدرة على الرد عليها، وحماية المدنيين. ويتفق الخبراء على أن قوة التنظيم وقدراته الهجومية تضاعفت، منذ حلول عناصره الأولى في المنطقة عام 2016. وتمكن خلال الفترة الماضية من إحكام سيطرته على قسم من شبكات التهريب عبر الصحراء والاستثمار في تجارة السلاح، وخاصة مع الجماعات القبلية المتمردة في غرب افريقيا.

مستنقع طرابلس

من هذه الزاوية يبدو إصرار حفتر على مواصلة الحرب في طرابلس جزءا من سياسة هجومية لا يمتلك كثيرا من وسائلها وأوراقها. وهو يسعى إلى الثأر لسمعته بعد هزيمته في غريان، ويأمل مع كل هجوم جديد، أن قواته ستنتصر. لكن كلما غاص في المستنقع، إلا ولجأ أكثر إلى العنف، ما يجعل سكان الضواحي الجنوبية لطرابلس في مرمى مدفعيته وطيرانه الحربي. وأثبتت الغارات التي شنها طيرانه بعد هدنة العيد، أنه بات يُعوض عن تعثر قواته البرية باللجوء للطيران، لقصف غريان ومصراتة وأخيرا مُرزق (جنوب غرب). وهذا الاصرار يُترجم سياسيا برفض العودة إلى المسار السلمي والجنوح إلى التفاوض مع خصومه.

وأشارت تقارير من منطقة برقة (الشرق) حيث يُسيطر الموالون لحفتر على بنغازي ومدن الشرق الأخرى، بقبضة من حديد، إلى أن استمرار الحرب في شكل عبثي جنوب طرابلس، زاد من منسوب الغضب لدى النخب السياسية والقيادات القبلية، التي لم تعد تقبل أن يعود أبناء منطقتهم من ضواحي طرابلس في أكفان. وبالنتيجة أذكى هذا الشعور الصراعات التي كانت مكتومة في الشرق نفسه، وخاصة مع انتشار قصص الفساد في أذرع الجيش الذي يقوده الجنرال المتقاعد وأبناؤه. والأرجح أن هذا سيحفز حلفاءه وداعميه، الاقليميين والدوليين، على مراجعة حساباتهم، بعدما كانوا على قناعة بأن حفتر يُمثل المال والسلاح والاستقرار في آن معا.

القبائل على الخط

الظاهر أن شرخا كبيرا أصاب هذه الصورة بعد فشل الجنرال في تحقيق وعده بالدخول إلى طرابلس غازيا، ما قد يفتح باب الصراع بينه وبين المكونات القبلية، وخاصة قبيلة العواقير، والكيانات المدنية في الشرق. وشمل هذا التباعد أيضا قبائل أجدابيا، التي اضطهدها حفتر إبان سيطرته على الهلال النفطي في 2016، والتي قُتل كثير من أبنائها في “حرب طرابلس”. ودخل تنظيم الدولة على الخط أيضا لتغذية هذا الصراع، من خلال عمليتين انتحاريتين بسيارة مفخخة، في بنغازي، استهدفت الأولى ضباطا من قوات حفتر، والثانية موكبا لبعثة الامم المتحدة. وقد يتنامى هذا الخطر في الفترة المقبلة مع الشعور بالفراغ الذي ستُخلفه هزيمة غريان.

غير أن كثيرا من الخبراء والمتابعين للشأن الليبي، يُرجحون أن الدول التي استثمرت في حفتر، لن تتخلى عنه بسهولة، بالرغم من الضربات العسكرية والرمزية التي أضعفته، فهي لا تتنازل عن استثمار تواصل منذ خمس سنوات، من دون أن تكون لديها خيارات بديلة. واستطرادا سيشكل هذا الوضع عنصر تعطيل للعملية السياسية، وقوة دفع إلى الخلف لا تخدم سوى مصالح المستفيدين من عدم الاستقرار.

تعليقات