رشيد خشانة – يتأكد يوما بعد يوم، أن الولايات المتحدة في مقدمة المستفيدين من المآل الذي انتهت إليه الأوضاع في ليبيا، بعد قرابة خمسة شهور من اندلاع الحرب الأهلية الثالثة، أو ما بات يُعرف بـ”حرب طرابلس”. واستطاع الأمريكيون تحصيل غطاء شرعي لتدخلهم المباشر، خلال الاجتماع الأخير، الذي ضم قائد قوات أفريكوم (القيادة الأمريكية لأفريقيا) الجنرال ستيفن تاونسند ورئيس حكومة الوفاق فائز السراج، بمشاركة السفير الأمريكي الجديد لدى ليبيا ريتشارد نورلاند. واتضح من البيان المقتضب، الصادر في أعقاب الاجتماع، أن الجانبين أكدا على أهمية إقامة “علاقات جديدة بينهما” على أساس مواجهة الخطر الراهن، الذي يُمثله “التنظيم العنيف” في إشارة إلى “تنظيم الدولة” وفي درجة ثانية شبكة “القاعدة”.

وفي السياق عبر العقيد كريس كارنس، المتحدث باسم أفريكوم، في رسالة بالبريد الإلكتروني إلى صحيفة الجيش الأمريكي “ميليتاري تايمز” عن القلق من أن الحرب المستمرة منذ ثماني سنوات في ليبيا، يمكن أن تمنح أوكسجينا للفروع الإرهابية، وتُوفر أرضًا خصبة للمنظمات المتطرفة العنيفة. وأكد أن هذا الوضع “تتم مراقبته بعناية، كما يجري العمل على حوار مكثف وشامل للدفع باتجاه حل سياسي في البلد”. وأفاد أن أفريكوم نفذت ست غارات جوية في ليبيا العام الماضي، وسبع في عام 2017 في إطار عمليات “مكافحة الإرهاب رداً على تهديدات الجماعات العنيفة” على ما قال، مُوضحا أنه لم تُنفذ أي غارات جوية جديدة في عام 2019. وعزا ذلك إلى “تراجع التهديد الإرهابي، إلى حد كبير، قبل تصاعد التوترات الأخيرة في ليبيا” (أي حرب طرابلس).

واللافت أن أفريكوم، التي ظلت تحتفظ بوجود صغير في ليبيا، اعتبارا من عام 2011 في أعقاب الإطاحة بنظام القذافي، بعنوان مساعدة القوات المحلية على مُكافحة التنظيمات الإرهابية المتطرفة، سحبت قواتها من ليبيا في نيسان/ابريل الماضي، بعد انطلاق هجوم حفتر على طرابلس. إلا أن كارنس أكد أن واشنطن مهتمة بإعادة قواتها إلى ليبيا، وهي تدرس موعد وعدد القوات التي ستعود.

واستهدفت الغارات الجوية الأمريكية، في مناطق ليبية مختلفة، تصفية عناصر تشتبه المخابرات الأمريكية بكونها من قيادات “داعش” و”القاعدة”. والملاحظ أن الادارات الأمريكية المتعاقبة ظلت حذرة من تعزيز وجود قواتها على الأرض، في ليبيا، منذ مقتل سفيرها السابق في بنغازي جون كريستوفر ستيفينز، في أيلول/سبتمبر 2012. والظاهر أن الأمريكيين يطبخون شيئا ما في هذا الاتجاه، سيجعلهم يتخلون عن اعتبار الملف السياسي الليبي من أنظار حلفائهم الأوروبيين، ويتعاطون معه مباشرة، لكن بغطاء أممي، وهذا هو المغزى من اجتماع كل من الجنرال تاونسند والسفير نورلاند مع رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا غسان سلامة، أخيرا في تونس. وكان القائد العسكري الأمريكي واضحا، حين شدد على ضرورة ألا تشعر التنظيمات العنيفة أنها تستطيع استثمار غياب الاستقرار في ليبيا “من أجل إحلال الفوضى وتحقيق أهدافها” على ما قال تاونسند. ويجوز القول إن الجانب الأمريكي مهد لهذا الموقف، خلال قمة السبع الأخيرة في بياريتز، التي أصدرت بيانا في شأن الوضع الليبي، يختلف عن البيانات النمطية السابقة.

ثلاثة عناصر جديدة

أتى البيان بثلاثة عناصر جديدة أولها دعم مبدأ إعلان هدنة طويلة الأمد بين الطرفين المتقاتلين، وثانيها عقد مؤتمر دولي لإيجاد حل سلمي للصراع في ليبيا، بالرغم من علم “السبعة” أن ثلاثة مؤتمرات دولية في السنتين الأخيرتين (باريس1 وباريس2 وباليرمو) لم تُحقق هذا الهدف. أما العنصر الثالث فهو دعم مجموعة السبع جهود الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لعقد مؤتمر مصالحة ليبية يساعد على إنجاح المؤتمر الدولي.

لم يُخف السفير نورلاند رغبة حكومته في تأمين الظروف الملائمة لعودة قوات “أفريكوم” إلى ليبيا. وبالرغم من أن “أفريكوم” لم تعد تملك حاليا قوات على الأرض في ليبيا، مثلما أسلفنا، لم ير السفير غضاضة في التصريح بأن القيادة العسكرية الأمريكية تدرس “فرص نشر وجود عسكري أمريكي جديد (في ليبيا) عندما تسمح بذلك الظروف الأمنية”.

إلا أن الوضع الراهن في ليبيا يختلف عن الأوضاع السابقة بعد ثلاثة حروب أهلية، الأولى في 2011 ضد حكم الزعيم الراحل معمر القذافي، والثانية في 2014 بين قوات “فجر ليبيا” (غرب) والقوات المؤيدة للقائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر، والحرب الثالثة هي التي أطلقها الجنرال حفتر للاستيلاء على طرابلس، أكبر مدن البلد في مطلع نيسان/ابريل الماضي.

وكان نجله خالد حفتر على رأس الكتيبة الأولى التي غزت التخوم الجنوبية لطرابلس بشكل مفاجئ، بعد السيطرة على نقطة التفتيش 27 الواقعة بين طرابلس والزاوية، على الساحل المتوسطي. وحققت الحرب الأهلية الراهنة أعلى مستوى من التعبئة العسكرية بين الحروب الثلاثة، حسب الخبراء، ما جعل آثارها السلبية كبيرة في خلخلة البنية المجتمعية وتهديد استقرار الاقتصاد، القائم أساسا على ضمان تدفق النفط والغاز الطبيعي.

وطفت على السطح مجددا الانقسامات القديمة بين كتائب الثوار والقوات الموالية للنظام السابق في حرب 2014 إذ تماهت غالبية “الثوريين” مع حكومة الوفاق في طرابلس، فيما اصطفت المناطق والقوى المتحدرة من النظام السابق مع الجنرال حفتر. ولعبت أطراف أخرى على الحبلين ساعية إلى تحقيق منافع أكبر أسوة بالكانيات (أسرة كاني) في ترهونة، التي انضمت إلى حفتر، بعدما وعدت أقطاب مدينة مصراتة بالوقوف في صفهم. كما أن القائد العسكري الزنتاني أسامة الجويلي، ساهم في الإبقاء على غالبية الجماعات المسلحة في مدينة الزاوية الاستراتيجية (غرب طرابلس) في صف الموالين لحكومة الوفاق.

أكثر من ذلك كانت هناك شخصيات من مصراتة تناقش مع موفدين لحفتر إسناد حقائب وزارية ومناصب عسكرية لها في إطار الاتفاق الذي كان السراج توصل إليه مع حفتر خلال لقائهما في أبو ظبي أواخر آذار/مارس الماضي، لتشكيل حكومة انتقالية. بهذا المعنى كانت الأوراق مختلطة، قبيل إطلاق الهجوم على طرابلس، إذ كان قادة جماعات مسلحة من طرابلس ومصراتة فاتحين خطوطا مع القائد العسكري المعين من البرلمان، إلا أن الغالبية الساحقة لتلك القوى تكتلت مع بعضها البعض، منذ الأيام الأولى لاندلاع “حرب طرابلس” مُعتبرة أن حفتر خدعها.

احتكاكات بين الجماعات

مع ذلك لا يستبعد خبراء في الشأن الليبي أن يكون الصراع الحالي في غرب البلد فرصة للمضي سريعا في إيجاد حلول لهشاشة الأمن في العاصمة طرابلس، من خلال تسريع تدريب القوات النظامية التي تعمل حكومة الوفاق على تشكيلها. غير أن المنافسة، والاحتكاكات في كثير من الأحيان، بين الجماعات المُنتشرة في العاصمة تُعطل هذا المسار. ويجوز القول إن ما يُوحدها حاليا، ليس أكثر من الصراع مع قوات حفتر، الذي بات العنصر الحاسم في التآلف بينها.

وفي تقدير لحجم القوات المتقابلة على الجانبين في “حرب طرابلس” توقع الخبير أرنو دولالند ألا تتجاوز القوات الموالية لحفتر 25 ألف عنصر، علما أن عملها بات معقدا وصعبا بعد خسارتها مقر قيادتها السابق في غريان أواخر حزيران/يونيو الماضي. وتستخدم قوات حفتر، بحسب دولالند، 15 طائرة حربية غالبيتها من طرازي “ميغ 21″ و”ميغ 23” سوفييتية الصنع، وعددا لم يُحدده من المروحيات، بعضها مخصص للنقل وبعضها الآخر قتالي.

والأرجح أن حكومة الوفاق تملك عددا مماثلا من الطائرات الحربية من طراز “ميراج” فرنسية الصنع. واستخدم الطرفان ما يملكان من مقاتلات وقاذفات في الأيام الأولى من الحرب، إلا أن إسقاط بعضها، حملهما على إعطاء الأولوية للطائرات المُسيَرة. وما لبثت أن ظهرت في سماء غريان، في الأيام الأولى للهجوم العسكري، صواريخ مضادة للمدرعات من طراز “بلو أرو 7” صينية الصنع، أطلقتها قوات حفتر، وكانت تحملها طائرات مُسيرة.

وكان الاماراتيون دعموا حفتر اعتبارا من حزيران/يونيو 2016 بأسطول من طائرات بلا طيار من طراز “وينغ لونغ” صينية الصنع، كانت متمركزة في قاعدة “الخادم” الجوية، شرق المرج، معقل حفتر. في المقابل قبلت تركيا تزويد القوات المؤيدة لحكومة الوفاق، أربع طائرات مسيرة من طراز “بيرقدار” يبلغ طول الواحدة منها ستة أمتار، وحمولتها نحو 650 كيلو، ويمكن أن تصيب هدفها من مسافة لا تقل عن ثمانية كلم. كما أرسلت تركيا أيضا، في الفترة نفسها، أكثر من 50 عربة مصفحة إلى حكومة الوفاق، عبر ميناء طرابلس. وتم توزيع الطائرات على القاعدتين الجويتين في معيتيقة قرب طرابلس ومصراتة.

ويعتقد دولالند أن اقتناء طائرات عسكرية مسيرة أتاح للطرفين المتحاربين التعويض عما خسراه من طائرات حربية، ومنها طائرة “ميغ” التي فر الطيار على متنها إلى تونس، رافضا تنفيذ أوامر من قوات حفتر، بقصف مناطق مأهولة بالسكان. كما أن خبراء أتراكا رافقوا طائرات بيرقدار المُسيرة، لمساعدة الليبيين على تشغيلها، لأنهم لا يملكون خبرة في استخدام هذا النوع من الطائرات المُسيرة. وحسب دولالند تم تدمير اثنتين منها بينما كانتا رابضتين في مطار معيتيقة العسكري. ويُرجح أن طائرات إماراتية قصفت أيضا مطار قاعدة معيتيقة العسكري يوم 6 حزيران/يونيو الماضي، في إطار حرب مفتوحة مع حكومة الوفاق برئاسة السراج.

بهذا المعنى أضحت ليبيا حقل تجارب للأسلحة الجديدة، فقد تزايد الاعتماد على الطيران المُسير في عمليات الاستطلاع والتوجيه وضرب الأهداف المعادية، ما شكل فرصة لاختبار أنواع مختلفة من السلاح. ولوحظ أن القواعد الجوية في الشرق، كما في الغرب، باتت الهدف الرئيس لهجمات بالطائرات المُسيرة، وأن كل غارة جوية من أحد الطرفين يردُ عليها الثاني بضربة جوية من طائرة مُوجهة، من دون الحاجة إلى استخدام القاذفات التقليدية.

ومع تصاعد المعارك، تسعى الأطراف الدولية للدفع في اتجاه عودة الفرقاء إلى مائدة الحوار، بحثا عن حل سياسي. غير أن المؤسسات التي يمكن أن تقود هذا المسار باتت اليوم فاقدة للشرعية، من “المؤتمر الوطني العام” (2012) إلى البرلمان (2014) إلى حكومة الوفاق المُعترف بها دوليا (2015) وانتهاء بالحكومة المؤقتة في الشرق، الموالية لحفتر. وعندما يُشدد قائد قوات “أفريكوم” الجنرال تاونسند في تصريحاته الأخيرة على “إصرار” الولايات المتحدة على إطلاق “حوار مفتوح وشفاف” حول المسائل الأمنية المستعجلة في ليبيا، فذلك يُؤشر على بداية اهتمام أمريكي جديد بالملف الليبي ما زالت ملامحه لم تتوضح بعدُ.

تعليقات