رشيد خشانة – مع انتقال وفد من القوى القبلية في مدينة أجدابيا، وهي أحد المراكز القوية عسكريا وأمنيا في المنطقة الشرقية، إلى مدينة الزنتان في المنطقة الغربية، بدأت تتبلور معالم مُتغير مهم في المشهد الليبي. وليست هذه الخطوة حدثا عابرا، وإنما هي تشي بوجود مبادرة لتحريك الجمود الراهن، الذي تولد من تعادل القوى العسكرية تقريبا، بين الطرفين المتحاربين منذ الرابع من نيسان/ابريل الماضي. ومن المؤكد أن الوفد سيزور أيضا عدة مدن أخرى من بينها طرابلس ومصراتة. ولا يمكن لخطوة من هذا النوع أن تتم من دون نوع من “الضوء الأخضر” من القيادات القبلية والعسكرية في أجدابيا. والأرجح أن الخطوة الجديدة ستلقى ترحيبا لكون القوتين المتقابلتين مُتشكلتان أساسا من أبناء القبائل، التي ما زالت تتمتع بثقل اجتماعي كبير، خاصة في المنطقة الشرقية.

تأتي الخطوة أيضا في سياق سياسي كثر فيه الحديث عن إعادة توزيع موارد الدولة الاقتصادية. لكن رؤية قوات الشرق لمضمون إعادة التوزيع تختلف عن رؤية المنطقة الغربية له، وإن كانت القوى الفاعلة في طرابلس ومصراتة، على سبيل المثال، ليست على قلب رجل واحد. لا بل إن لدى قوات الشرق العسكرية وقياداتها السياسية مشروعا أكبر من مسألة إعادة توزيع الثروة. ويمكن أن نقول الأمر نفسه عن مناطق أخرى، مثل غريان، في جنوب طرابلس، التي تضم حاضنة قوية غالبيتُها مناهضة لمشروع الشرق، وبعضهم ينحدرون من “الثوار” السابقين ضد نظام القذافي.

جنوحٌ إلى الحوار

ولعل ما شجع على الجنوح إلى الحوار والبحث عن حل سياسي يُنهي الحرب الأهلية، ذلك الجمود الذي خيم على الساحة العسكرية، جراء توازن القوى، الذي جعل قوات الشرق، بقيادة حفتر، تعجز عن اقتحام طرابلس، أو في الأقل، تحافظ على مركزها المتقدم في غريان (80 كلم جنوب طرابلس)، وقوات الغرب أيضا تُخفق في رد المهاجمين على أعقابهم، مثلما وعد بذلك رئيس حكومة الوفاق فايز السراج. والظاهر أن العقبة الرئيسة أمام عقد “المؤتمر الوطني الشامل” بوصفه إطارا للحل السياسي، تتمثل بالصراعات الداخلية في كل معسكر من المعسكرين. وترسَخ الخلاف في المنطقة الشرقية، بين من يدعون لمحاورة الحكومة في طرابلس، ومن يرفض هذا الحوار نهائيا. أما في المنطقة الغربية فهناك من يضع فيتو على مشاركة حفتر في أي حل سياسي، وهو الموقف الذي أعلنه السراج أكثر من مرة، غير أن كيانات سياسية وعسكرية في طرابلس ترى أن إقصاء بعض الوجوه من هنا أو هناك سيُعطل المسار، ويجعله بلا فائدة، مثل الملتقيات السابقة، لا بل وسيُولد أزمة إضافية. وبالمقياس نفسه يُعتبر إعراض بعض الأطراف في الشرق على التحاور مع مجموعات في المنطقة الغربية، خطأ يُعكر أجواء الحل السياسي. من هنا تأتي أهمية إحلال الثقة بين الأطراف المتحاربة، خصوصا إذا ما دخلت الحاضنات الاجتماعية على الخط دعما لخيار الحوار والسلام.

غير أن الخطر الأكبر يأتي من المحاور العربية وغير العربية، التي تُغذي الصراع بشكل بات مكشوفا، والتي لن تكون سعيدة بجلوس الليبيين، مع بعضهم البعض، على مائدة حوار وطني جامع. وعليه، إن لم يكن هناك تفاهمٌ بين القوى الإقليمية، المؤثرة في الصراع الليبي، على كيفية تقاسم الكعكة، لن يكون هناك مؤتمر جامعٌ. وهذا مدلول الكلام المُشفر الذي أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، قبل أيام، والذي أكد فيه أن “هناك حاجة إلى دعم كامل وجماعي من المجتمع الدولي، للتوصل إلى حلّ سياسي للنزاع في ليبيا”.

وينطبق هذا الشرط على الفرقاء الليبيين أيضا، بعدما انتشر منطق نفي الآخر واستبعاده من أي حوار مستقبلي، وهو ما يبدو من خطاب حفتر الذي يريد القضاء على الطرف المقابل، بينما يُصرُ السراج على استبعاد أي حوار مع غريمه حفتر. والأرجح أن الجميع أدركوا في قرارة أنفسهم، أنه لم يعد هناك من مكان للحلول العسكرية اليوم، إلا إذا كان أحد الطرفين مُصرا على خوض حرب استنزاف طويلة، تنتهي بالسيطرة على أطلال المدن. واللافت أن هناك حوارات تحت الطاولة بين هؤلاء الفرقاء لا تتسم بروح التشدد التي نراها في وسائل الإعلام. كما أن هؤلاء يتحدثون إلى المجتمع الدولي بخطاب مختلف عن الخطاب المُوجه إلى الداخل.

في المقابل، يُطالبهم المجتمع الدولي، وخاصة الأمم المتحدة، بخطوتين مهمتين، أولاهما التوقف عن تجنيد مقاتلين أجانب ومرتزقة في النزاع الليبي الليبي، والثانية حظر تدفق السلاح من الخارج على القوى المتحاربة، في إطار الاحترام الصارم للحظر المفروض على الأسلحة، والساري منذ العام 2011. غير أن الفترة الأخيرة شهدت ظاهرة جديدة تمثلت في إبراز كل طرف للأسلحة المتطورة التي حصل عليها، في خطوة تبدو نوعا من استعراض القوة للتأثير في معنويات الخصوم، بينما قرار الحظر الأممي مازال ساريا. وهذا ما أزعج رئيس البعثة الأممية إلى ليبيا غسان سلامة، الذي كلما شكا إلى مجلس الأمن من هذا الوضع، لا يجد “حدا أدنى من الوحدة اللازمة لمعاقبة هذه التصرّفات، التي تتعارض مع سيادة البلاد وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة في آنٍ معا” على ما قال.

مع ذلك فإن عضوا مهما في مجلس الأمن، وهو فرنسا، يحاول التحرك منفردا، في الساحة الليبية، إذ دعا الفرنسيون إلى اجتماع في باريس، أواخر الشهر الماضي، ضم كلا من بريطانيا وإيطاليا وأمريكا والامارات ومصر، تحت يافطة تقويم الوضع في ليبيا وبحث الخطة التي قدمها سلامة إلى مجلس الأمن، في إحاطته بالجلسة التي عُقدت في 29 تموز/يوليو الماضي. لكن لا توجد مؤشرات على نضوج الأجواء لوقف “حرب طرابلس” والاستعداد للبحث في الحل السياسي، خاصة أن من يدعون لبحث البدائل السلمية هم أنفسهم الذين يُسلحون طرفي النزاع ويُلهبون نار الحرب.

نار الغلاء

ثمة نار أخرى ظل الليبيون يكتوون بلهيبها منذ فترة، والمتمثلة في ارتفاع الأسعار، وخاصة أسعار الإيجار والبيع العقاري في طرابلس، نتيجة تدفق اللاجئين الفارين إليها من مناطق القتال. غير أن الأوضاع تحسنت نسبيا في الأيام الأخيرة، بحسب السكان الذين تحدثت إليهم “القدس العربي” بالهاتف في طرابلس. وعزوا ذلك إلى انخفاض سعر الدولار. وأكد بعضهم أن أسعار التجهيزات المنزلية، مثل البرادات وأجهزة التلفزيون، تراجعت أيضا. والمشكل الكبير الذي ظل يُعقد حياة الناس هو شح السيولة في المصارف. ووجد الليبيون حلا في بطاقات الفيزا المصرفية، التي باتوا يستخدمونها بكثرة في عمليات الدفع الالكتروني، لتغطية غالبية النفقات، عدا شراء الخبز والبنزين. وأوضح أحد هؤلاء السكان أن البذخ الذي يظهر في حفلات الزفاف لا يدل على أن البلد في أزمة. واستدل المصدر أيضا باحتفالات الأسر الليبية بعيد الاضحى أخيرا، حيث تم توفير الخرفان من الخارج بأعداد كافية للجميع تقريبا. بهذا المعنى أصبح الليبيون متأقلمين مع مظاهر العنف، وباتت حياتهم تسير بنسق شبه طبيعي، حتى مع استمرار المعارك في جوارهم الجغرافي المباشر. ويحمل هذا الوضع دلالات كبيرة عن فشل عملية اقتحام طرابلس، التي كان الجنرال خليفة حفتر يسعى من ورائها إلى تجميع أوراق الملف الليبي بين يديه. ومع هذا الفشل، لا يمكن استبعاد حفتر، أو أي طرف آخر، من الحل الذي بدأت الأمم المتحدة “تشتغل” على جناحه الأول، بينما يمكن اعتبار تحرك وفد من قبائل أجدابيا نحو الزنتان، ثم طرابلس ومصراتة، جناحهُ الثاني (الليبي). وسيحظى هذا المسار بدعم من أهم العواصم المعنية بالملف، كونه يشكل أول مبادرة ليبية ترتكز على حاضنة اجتماعية وازنة، ولا تناصر أيا من الغريمين السراج وحفتر.

مطالب مؤقتة

وعن أهمية هذا الدور تقول الدكتورة آمال العبيدي أستاذة العلوم السياسية في جامعة بنغازي “منذ عام 2011 اتخذ طابع المصالحات المحلية النمط التقليدي السائد عند بروز أي نزاع، إذ يتم ذلك من خلال لجان تُشكل من شيوخ القبائل بالمنطقة، أو من يتم اقتراحه من قبائل خارج النطاق الجغرافي. وأحيانا قد تتم دعوة بعض نشطاء من المجتمع المدني للانخراط في عمليات المصالحة”. وأشارت إلى “وجود شروط وآليات يتم وضعها عادةً للبدء في تسوية النزاعات على المستوى المحلي، وغالباً ما تكتسي نتائج تلك التسويات طابع إدارة أزمات، أكثر منها مصالحة حقيقية بين الأطراف المتنازعة، إذ تسعى تلك المبادرات إلى إنهاء العنف، ووقف إطلاق النار بين الأطراف المتقاتلة، وتبادل للأسرى والجرحى، وهي غالباً مطالب مؤقتة لكل الأطراف”. وحذرت من أن كثيراً من تلك الاتفاقات يتم خرقها، وسرعان ما تبدأ المشاكل بالظهور مرة أخرى بين الأطراف المتنازعة، لأن الحلول لم تكن جذرية، ولم تكن مُرفقة بضمانات لاستمرار السلام بين تلك الأطراف.

وتبقى العقبة الرئيسية هنا هي إصرار بعض الفرقاء على وضع مسألة تقاسم الثروة على مائدة الحل السياسي. ويذهب بعضهم في هذا المضمار إلى حد المطالبة بالفدرالية، بوصفها الصيغة “الأنجع والأكثر عدلا” لتقاسم الثروات الطبيعية.

ويحمل هذا الوضع دلالات كبيرة عن فشل عملية اقتحام طرابلس، التي كان الجنرال خليفة حفتر يسعى من ورائها إلى تجميع أوراق الملف الليبي بين يديه. ومع هذا الفشل، لا يمكن استبعاد حفتر، أو أي طرف آخر، من الحل الذي بدأت الأمم المتحدة “تشتغل” عليه، والذي يمكن اعتبار تحرك وفد من قبائل أجدابيا نحو الزنتان ثم طرابلس ومصراتة، جناحهُ الليبي. وسيحظى هذا المسار بدعم من أهم العواصم المعنية بالملف، كونه يشكل أول مبادرة ليبية ترتكز على حاضنة اجتماعية وازنة، ولا تناصر أيا من الغريمين السراج وحفتر. وتبقى العقبة الرئيسة هنا هي إصرار بعض الفرقاء على وضع مسألة تقاسم الثروة على مائدة الحل السياسي. ويذهب بعضهم في هذا السياق إلى حد المطالبة بالفدرالية، بوصفها الصيغة “الأنجع والأكثر عدلا” في توزيع الثروات الطبيعية. وفي هذا الإطار تندرج الفكرة الشائعة والقائلة بأن سبب الحرب هو الصراع على الثروات، وأن الحل يكمن في تقاسمها، إلا أن هذا المنطق لا يمكن أن يقود إلا إلى التقسيم إذا ما تمسك به فريق من الفرقاء المتصارعين.

تعليقات