رشيد خشانة – على وقع الغارات الجوية وقصف الصواريخ والمدفعية الثقيلة، في محيط طرابلس، كان الملف الليبي حاضرا بشكل بارز في كلمات المتحدثين إلى أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، في اجتماعهم السنوي في نيويورك. واستأثرت “حرب طرابلس” تحديدا بالاهتمام في جميع كلمات ممثلي القوى العظمى، والأطراف الإقليمية المتداخلة في الأزمة الليبية، أكثر من أي وقت مضى. على أن هذا الاهتمام لا يعني أن فرص الحل السياسي باتت أكبر مما كانت عليه في الماضي، فهناك عناصر مستجدة جعلت هذا الملف يتبوأ مركزا متقدما على لائحة الأولويات، لكنه لم يتجاوز في كثير من الكلمات مستوى الخطاب التحذيري والأخلاقي.

في مقدم العناصر التي فرضت وضع الملف الليبي على جدول الأعمال، اتساع رقعة الحرب المدمرة في محيط طرابلس، منذ ستة أشهر، بما قد يؤدي إلى كارثة إنسانية. وثانيها هو ظهور دلائل على “دور خارجي سلبي”، بحسب توصيف رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج، الذي سمى ثلاث دول، قال إنها تقدم الدعم لخصوم الحكومة المعترف بها دوليا. أما العنصر الثالث فهو التشجيع الذي وجدته ألمانيا من الأمين العام للأمم المتحدة من أجل إطلاق مبادرة للدعوة إلى مؤتمر دولي، وسط تراجع نجم الغريمين فرنسا وإيطاليا، اللذين ساهمت مناكفاتهما الطويلة في تفاقم الأزمة. وسيكون لتوازن القوى العسكرية بين الطرفين الليبيين المتصارعين، تأثير حاسم في ديمومة الصراع، إذ أن كلا منهما سيظل ساعيا إلى إلحاق الهزيمة بالطرف المقابل، لتحصيل الاعتراف الدولي به كممثل وحيد لليبيين، وهذا ما يُفسر الضراوة التي اتسمت بها الغارات الجوية والمعارك البرية في الأسابيع الأخيرة.

مناورة؟

سياسيا تباعدت مواقف السراج والجنرال خليفة حفتر، من إطار التسوية، ففيما أكد الأول أنه لن يجلس على مائدة الحوار مع الثاني أبدا، اعتبر حفتر أنه “من الضروري التحاور والجلوس إلى مائدة التفاوض”، مع تأكيد دعمه للاجتماع الذي عُقد الخميس حول ليبيا في الأمم المتحدة. ومن الواضح أن إصدار حفتر بيانا في هذا المعنى، أتى بناء على تصريحات السراج الذي عبر عن رفضه الحوار مع حفتر. ومن شأن هذه المناورة أن تُظهر السراج في موقف الرافض للحوار، وحفتر في صورة الداعي إليه، علما أن الأخير كان رفض في مطلع الشهر الجاري، دعوة الأمم المتحدة إلى التحاور مع حكومة الوفاق الوطني، مُعتبرا أن الحل في ليبيا لا يمكن أن يكون إلا عسكريا.

على هذه الخلفية المعقدة يدفع الألمان في اتجاه الدعوة إلى مؤتمر دولي في برلين، يكون شبيها بمؤتمر الصخيرات، في المغرب (2015)، الذي انبثقت منه الهيئات الحالية المعترف بها دوليا، وفي مقدمها المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني. وفي هذا الإطار ذهبت المستشارة انغيلا ميركل، إلى البرلمان الألماني أخيرا، لتُطلق من هناك تحذيرا قويا، من مزيد تدهور الوضع في ليبيا، مُنبهة إلى أن استمرار الأزمة سيهزُ الاستقرار في شمال افريقيا، وقد يُقوض الأمن في القارة الافريقية بأسرها.

قدرة على الإيذاء

يحرص الألمان على إشراك كل من فرنسا وإيطاليا في جميع الخطوات التي يقطعونها، للحد من قدرتهما على إحباط المسار وإعادة الأزمة إلى المربع الأول، مثلما حدث في مؤتمري باريس وباليرمو، اللذين انتهيا إلى الفشل. وفي معلومات دبلوماسيين متابعين للملف الليبي أن روما تسعى بجميع الوسائل لإشراك الأمريكيين في مسار التسوية، كي يتعزز موقفها بحليف ذي وزن، في مواجهة الفرنسيين والألمان. وفي السياق لوحظ أن وزير الخارجية الإيطالي، لويجي دي مايو، شدد في التصريحات التي أدلى بها على هامش اجتماعات نيويورك، على أهمية دور واشنطن في الملف الليبي، مُشيراً إلى أنه يُعتبر دورا “أساسياً لتحقيق استقرار البلد”.

والظاهر أن الألمان مُقرون العزم على استضافة المؤتمر الدولي حول ليبيا، في برلين، في أكتوبر أو نوفمبر المقبلين، وهم يستندون في تحقيق ذلك الهدف على التقارب الفرنسي الإيطالي، بعد خلاف عاصف بين العاصمتين. وأكد دبلوماسيون إيطاليون أن اجتماع وزيري الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، والإيطالي لويجي دي مايو، في نيويورك، على هامش أعمال الجمعية العامة، حقق كسر الجليد ووصل ما انقطع من حبل الود بين روما وباريس. وبحسب تصريحات دي مايو، استأثر الملف الليبي بالقسم الأكبر من محادثاته مع نظيره لودريان، مؤكدا أنه عبر له عن رغبة روما بتعزيز العمل المشترك مع باريس، لوقف الاشتباكات الدائرة، ومُعاودة إطلاق العملية السياسية. غير أن تاريخ الصراعات بين العاصمتين حول الملف الليبي يدلُ على أن هذه التصريحات لا تعدو أن تكون كلاما مُنمقا، الغاية منه هي التسويق الإعلامي.

أما الطريق إلى وقف الحرب في ليبيا فهي معروفة، إذ تبدأ بالتطبيق الصارم للحظر المفروض على إرسال الأسلحة إلى الجماعات المسلحة في غرب ليبيا، كما في شرقها، وتقيُد جميع الدول المعنية بهذا الحظر. وبناء على ذلك تكون الخطوة التالية هي وقف دائم لإطلاق النار، في ظل الامتثال التام للحظر المفروض من الأمم المتحدة، وتحديد الضمانات الاقتصادية والأمنية المناسبة لإعادة بناء الثقة بين الأطراف الليبية، ومن ثم بدء حوار سياسي يشمل جميع الفرقاء الليبيين.

استراتيجيا إيطالية

اللافتُ أن لويجي دي مايو، لمح في تصريحاته إلى “تأييد” الرئيس الأميركي دونالد ترامب للإستراتيجيا الإيطالية لإحلال السلام في ليبيا، مُؤكدا أنه يثق في أن “الإشارة المطلوبة من الرئيس الأمريكي، لدعم الإستراتيجيا الإيطالية لإحلال السلام في ليبيا، ستصل في الوقت المناسب”. لكن إذا لم يأت هذا الدعم الآن لتحريك قطار الحوار السياسي، فمتى هو آت؟

ويجوز القول إن الذي كان الأكثر اهتماما بالملف الليبي، أثناء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والأمضى تحركا من أجل وضع هذا الملف في مقدم سلم الأولويات، هو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي حرص على الاجتماع مع زعماء عدة دول من المعنيين بالأزمة الليبية، ومن بينهم التركي اردوغان والإيطالي جيوزيبي كونتي والفرنسي ماكرون وهلمَ جرًا.

والأرجح أن حرص الأمم المتحدة على التعاطي بهذه الجدية في ملف الأزمة الليبية، سيجعله يقترب من التسوية، بناء على معرفة الممثل الخاص للأمين العام، رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، غسان سلامة، بجميع الفرقاء الليبيين. وقد تبوأ سلامة هذا المنصب بعد ثلاثة دبلوماسيين، لم يكن النجاح حليفهم، علما أن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، أنشئت بشكل تدريجي، بموجب قرار مجلس الأمن 2009 (2011) لفترة أولية مدتها ثلاثة أشهر فقط. أكثر من ذلك يلحظُ المتفحص في تاريخ ليبيا الحديث، أن الأمم المتحدة هي التي لعبت دورا حاسما في نيل البلد استقلاله في العام 1951. أما آخر قرار أممي يخص ليبيا، فهو قرار مجلس الأمن الصادر في 13 أيلول/سبتمبر الجاري، والخاص بتمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

وأكد القرار على أربعة أمور أساسية هي الاستمرار في الاتفاق السياسي، ووقف التعامل مع الأجسام الموازية، واستكمال العملية الدستورية وتنظيم الانتخابات. والواضح من خلال الاجتماعات الثنائية والثلاثية المكثفة، على هامش أعمال الجمعية العامة، أن القوى الكبرى بدأت تضغط من أجل إطلاق محادثات جديدة للسلام، وهو ما عبر عنه صراحة مساعد وزير الخارجية الأمريكي، ديفيد شينكر، خلال جولته الأخيرة، على بعض العواصم العربية.

بحثا عن التوازن

كما أن موسكو ساعية أيضا للدفع في هذا الاتجاه، وقد بدأت تميل إلى التوازن في علاقاتها مع الطرفين الليبيين، “الوفاق” و”الكرامة”، أملا بالحصول على عقود كبيرة من بلد نسجت معه علاقات تجارية ضخمة على عهد الزعيم الراحل معمر القذافي. فقبل 2011 اتفقت ليبيا وروسيا على عقود لشراء أسلحة بقيمة 4 مليارات دولار، لكن الاطاحة بنظام القذافي أوقفت تنفيذ تلك العقود. وما زال سلاح الجو التابع للجنرال حفتر يستخدم طائرات روسية الصنع في المعارك مع قوات حكومة “الوفاق”. كما أن الروس يأملون بتحصيل صفقات جديدة لتنفيذ مشاريع في مجال البنية الأساسية، وهم مهتمون خاصة بمشروع مد خط للسكة الحديد يربط بين بنغازي شرقا وسرت في الوسط، بقيمة 2.5 ملياري دولار، ما سيُعزز مكانة روسيا في المنطقة المتوسطية. وبالإضافة إلى روسيا وأمريكا، دخلت الصين على خط الصفقات، وهي تأمل أيضا بإبرام عقود في مجالات مختلفة، في إطار عملية إعادة الاعمار.

ومن شأن هذا التسابق أن يُغذي الصراعات بالوكالة، من أجل النفوذ الاقتصادي، ومحاولة اقتسام الثروات، وخاصة في مجالي النفط والغاز، مع أن هذا يُعتبر خطا أحمر. فإيطاليا تسيطر على حقل “ملليتة” الغازي ولا تسمح لأحد من الليبيين بالمساس به، كما لا تسمح أمريكا بالمساس بشركاتها النفطية العاملة في ليبيا، فيما تسعى فرنسا لإحكام قبضتها على اقليم فزان (جنوب) الزاخر بالثروات الطبيعية والمواد الثمينة. من هذه الزاوية يصعب تصوُر حل سياسي في القريب يقوم بموجبه المتصارعون بوأد خلافاتهم، والاعتراف ببعضهم البعض، ووضع البلد على سكة التعافي وإعادة البناء، بناء البشر والحجر

تعليقات