رشيد خشــانة – كلما طالت الحرب في ليبيا، زاد منسوب الانتهاكات وتراجعت الحريات واشتدت وطأة الطوق العسكري الخانق، الذي جعل حياة المدنيين في طرابلس جحيما. حاليا، ينحشر السكان في مربع وسط المدينة هربا من القصف، وكأنهم معتصمون بقفص هربا من المعارك وعمليات القصف الجوي والبري، التي لم تتوقف منذ أطلق الجنرال المتقاعد خليفة حفتر حملته العسكرية، في بداية نيسان/أبريل الماضي، للاستحواذ على طرابلس، مقر حكومة الوفاق المعترف بها دوليا.

تعددت وتنوعت الانتهاكات في الفترة الأخيرة، ما جعل المنظمات الحقوقية الدولية تُصدر تقارير رفعت النقاب عن بعض تلك الانتهاكات، مُطالبة بالتحقيق في ظروف ارتكابها، والكشف عن هوية منفذيها، لكن من دون جدوى، لأن مؤسسات الدولة مشلولة، والجماعات المسلحة هي المسيطرة على الميدان.

اغتيال ناشطة

ويشير الخط البياني للانتهاكات إلى أن وتيرتها زادت منذ اندلاع الصراع بين جماعة “فجر ليبيا” (طرابلس ومصراتة) وأنصار “عملية الكرامة” بقيادة حفتر (الشرق) في العام 2014. فغالبية الاغتيالات التي طالت شخصيات عامة أو نشطاء حقوقيين أو إعلاميين، تمت في تلك الفترة. وامتدت الاغتيالات في المنطقة الشرقية لتشمل قيادات عليا في الجيش والمؤسسات الأمنية، على مدى السنوات الماضية، لإفراغ هاتين المؤسستين من قياداتهما. ومن أبرز ضحايا الاغتيالات المحامية والناشطة الحقوقية سلوى بوقعيقيس، التي قُتلت في بيتها، وسُجل الاعتداء على أنه من تنفيذ عناصر مجهولة الهوية. وقبل أشهر قليلة، تم اختطاف عضو مجلس النواب سهام سرقيوة من بيتها في بنغازي وأمام أنظار زوجها وأفراد أسرتها، الذين تعرضوا بدورهم للضرب العنيف. وأصدر مجلس الأمن الدولي، بعد جلسة طارئة في 11 آب/اغسطس الماضي بيانا حمل فيه على منفذي اعتداء بواسطة سيارة مفخخة على ثمانية عناصر من البعثة الأممية، وكان من ضمن بنوده الاشارة إلى خطف عضو مجلس النواب سهام سرقيوة، التي اعتبرها “جريمة خطرة ويجب محاسبة الجناة عنها”.

إجمالا، اتخذ ضرب الحريات أبعادا غير مسبوقة بعد انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011 وشمل جميع الفئات والمناطق تقريبا، فضحايا الاغتيالات كانوا من القضاة والإعلاميين والضباط العسكريين والأمنيين والنشطاء والأكاديميين، والنساء والرجال والشباب والشيوخ. وعليه يتوجب إعداد العُدة لملاحقة منفذي الاغتيالات والقبض عليهم. وهذا يقتضي معاودة تشكيل الجيش الليبي، الذي سبق أن حله معمر القذافي، وإعادة بناء المؤسسة الأمنية لكي تستوعبا الشباب الذي انضوى تحت رايات الجماعات المسلحة، بدافع الإغراءات المالية. وفي هذا السياق أوصى تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في شباط/فبراير الماضي بإصلاح الشرطة القضائية وإنشاء برنامج قوي لحماية الضحايا والشهود، بالإضافة لإنشاء هيئة قضائية متخصصة داخل المحاكم الليبية للتركيز على الجرائم التي نص عليها القانون الدولي لحقوق الإنسان.

استهداف فئات هشة

تُظهر تقارير المنظمات الدولية المعنية بالدفاع عن الحريات أن الانتهاكات استهدفت أساسا فئات هشة، ولاسيما الفاقدة لوسائل الدفاع عنها، مثل المهاجرين غير النظاميين والنساء، وكذلك الإعلاميين. وكان أول ضحايا الاغتيال السياسي المحامي والإعلامي عبد السلام المسماري، الذي قُتل لدى خروجه من المسجد في بنغازي العام 2013.

لا بل زادت دائرة الضحايا اتساعا لتشمل أيضا المدافعين عن حقوق الإنسان أنفسهم، الذين باتوا عُرضة للتهديد والابتزاز، والتصفية الجسدية، مثلما حصل للناشطتين البارزتين فريحة البركاوي وانتصار الحصائري. واعتُبر اغتيالهما، إضافة إلى مقتل المحامية بوقعيقيس، رسالة أوسع نطاقا مفادها أن “المرأة لا ينبغي أن تكون ناشطة في المجال العام”.

وفي أحدث تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية عن انتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا، اعتبرت المنظمة أن الأطراف المتحاربة من أجل السيطرة على طرابلس مسؤولة عن قتل وإصابة عشرات المدنيين، من خلال شن هجمات دون تمييز، واستخدام عدد كبير من الأسلحة المتفجرة غير الدقيقة في المناطق الحضرية الآهلة بالسكان.

أول تحقيق ميداني

وفي أول تحقيق ميداني مفصَّل على جانبي الجبهة منذ اندلاع القتال، زار مندوبو المنظمة، حسب التقرير، 33 موقعاً لضربات برِّية وجوِّية في طرابلس والمناطق المحيطة بها، واكتشفوا أدلة على ما يُحتمل أن تكون جرائم حرب ارتكبتها كل من قوات “حكومة الوفاق الوطني” التي تدعمها الأمم المتحدة، وقوات “الجيش الوطني الليبي” بقيادة حفتر. وتعليقاً على ذلك، قالت دوناتيلا روفيرا، كبيرة مستشاري برنامج الاستجابة للأزمات لدى منظمة العفو الدولية “كشف التحقيق، الذي أجرته المنظمة، على جانبي جبهة القتال، عن استخفاف مستمر بالقانون الدولي، وهو يتزايد جراء الاستمرار في إمداد طرفي القتال بالأسلحة، في انتهاك للحظر الذي فرضته الأمم المتحدة” على ما جاء في التقرير.

وتفيد إحصاءات الأمم المتحدة بأن القتال على مدار الشهور الستة الماضية أسفر عن مقتل وإصابة ما يزيد عن 100 مدني، بينهم عشرات المهاجرين واللاجئين الذين كانوا معتقلين، بالإضافة إلى تشريد أكثر من 100 ألف شخص. وأصابت الضربات الجوية، ونيران القصف المدفعي، عدداً من منازل المدنيين ومرافق البنية الأساسية، ومن بينها عدة مستشفيات ميدانية ومدرسة، بالإضافة لمركز مخصص لاحتجاز المهاجرين، كما أدت إلى إغلاق مطار معيتيقة، وهو المنفذ الجوي الوحيد لسكان طرابلس.

جرائم حرب؟

وكانت بعض الهجمات التي وثَّقتها منظمة العفو الدولية إما عشوائية أو غير متناسبة، مما يعني أنها تمثل انتهاكاً للمبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني، ويمكن أن تُعد بمثابة جرائم حرب. وفي حالات أخرى كان وجود مقاتلين داخل منازل مدنيين ومنشآت طبية، أو بالقرب منها، سببا لتعريض حياة المدنيين هناك للخطر.

كما أسفرت هجمات “الجيش الوطني الليبي” عن تدمير بعض سيارات الإسعاف والمستشفيات الميدانية التي تُستخدم لعلاج الجرحى من المقاتلين، أو عن إلحاق أضرار بها، بالرغم من أن طواقم العاملين في المجال الطبي والمنشآت الطبية، بما في ذلك تلك التي تتولى علاج المرضى أو الجرحى من المقاتلين، تتمتع بحماية خاصة بموجب القانون الدولي الإنساني، ويجب ألا تكون هدفاً للهجمات. وهكذا توصلت منظمة العفو الدولية إلى أن مقاتلي “حكومة الوفاق الوطني” استخدموا بعض المستشفيات الميدانية والمنشآت الطبية لأغراض عسكرية، مما جعلها عرضةً للهجمات.

وكانت أشد تلك الضربات هجوم صاروخي على مستشفى ميداني بالقرب من مطار طرابلس الدولي (المغلق منذ 2014) يوم 27 تموز/تموز 2019 ما أسفر عن مصرع خمسة من الأطباء والممرضين والمسعفين وإصابة ثمانية آخرين. وعُثر في موقع الهجوم على شظايا صاروخ من طراز “بلو أرو 7” وأدلة أخرى، وبناءً عليها توصلت منظمة العفو الدولية إلى أن الهجوم شُنَّ من طائرة مسيَّرة صينية الصنع من طراز “وينغ لونغ” التي تقوم الإمارات بتشغيلها لحساب “الجيش الوطني الليبي”. وتوصلت المنظمة أيضاً إلى أن مبنى المستشفى لم يكن مميزاً بعلامات تدل على أنه منشأة طبية، كما كان المقاتلون يستخدمونه لتناول الطعام ولأغراض أخرى. وكان من بين الذين قُتلوا أو أُصيبوا بشكل غير مشروع، أطفالٌ لا تزيد أعمارهم عن عامين، كانوا يلهون خارج منازلهم، ومعزُون كانوا يشاركون في تشييع جنازة، وأشخاص عاديون كانوا يباشرون أشغالهم اليومية.

تهديدات وتحقيقات

وفي ظل تصاعد انتهاك الحريات، أصدر المفوض السامي لحقوق الإنسان بيانا عبر فيه عن قلقه البالغ إزاء التقارير التي أفادت بتوجيه تهديدات إلى أعضاء “المجلس الوطني للحريات المدنية وحقوق الإنسان” (مؤسسة شبه رسمية). وأتى هذا التحذير بعدما اقتحمت عناصر مسلحة مكاتب المجلس في طرابلس، وطلبت تسليمها المفاتيح والطوابع الرسمية، وحققت مع كبار الموظفين في المجلس. ومع أن المفوض السامي لحقوق الإنسان طالب السلطات الليبية بتقديم من تثبت مسؤوليتهم عن انتهاك الحريات وحقوق الإنسان إلى المساءلة القانونية، فإن تلك الدعوة ظلت حبرا على ورق.

في السياق أكد تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في شباط/الماضي الماضي أن “كثيرا من الجهات الفاعلة (في ليبيا) إن كانت حكومية أم غير حكومية، متهمة بارتكاب انتهاكات وتجاوزات خطرة للغاية، ترقى في كثير من الحالات إلى مستوى جرائم حرب”. وتشمل تلك الانتهاكات الموثقة عمليات قتل غير قانونية، إذ تم الإبلاغ عن حالات في مختلف مناطق النزاعات حيث تقوم الجماعات المسلحة بإعدام أشخاص بعدما تعتقلهم أو تختطفهم، لأنها تعتبرهم أعداء لها. وتُدير بعض الجماعات المسلحة مراكز اعتقال في معزل عن سلطة الدولة. وبناء على تفاقم تلك الظاهرة، أوصى مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان باتخاذ تدابير عاجلة لمكافحة الافلات من العقاب وتعزيز إصلاح القضاء. وأظهر تقرير الأمم المتحدة أن من بين الانتهاكات التي تم رصدها والمستمرة منذ 2014 الهجمات على مناطق مكتظة بالسكان، مثل بنغازي وطرابلس والجنوب الليبي، إضافة إلى انتشار التعذيب والمعاملات السيئة، ومن بينها استخدام الأنابيب البلاستيكية والكوابل الكهربائية والتعليق لفترات طويلة في أوضاع مؤلمة، والحبس الانفرادي والصعق بالكهرباء، والحرمان من الطعام والماء. ونتج عن التعذيب وفاة معتقلين في مراكز الاحتجاز وأيضا في مخافر الشرطة والاستخبارات العسكرية. واعتبر خبراء أن الرد على الانتقادات المتزايدة لأجهزة الأمن في المنطقة الشرقية، باعتقال النشطاء أو تعنيفهم، يعكس الوصول إلى طريق مسدودة سياسيا، قد تؤول إلى فقدان السيطرة على الوضع في بنغازي، خصوصا إذا ما أقدم السكان على التحرك في الشارع، اقتداء بالسودانيين والجزائريين واللبنانيين.

انتهاكات بلا عقاب

لكن أخطر ما في هذا الأمر أن غالبية الذين تلقوا تهديدات وأصبحت حياتهم في خطر، من نشطاء وحقوقيين وإعلاميين وغيرهم، اضطروا للهجرة إلى الخارج ضمانا لسلامتهم من الاغتيال، خاصة بعدما بقي منفذو تلك الانتهاكات بلا عقاب، ما يدل على أنهم سيعاودون ارتكابها ضد كل من يُشتبه بكونه معارضا لسلطات الجنرال حفتر في بنغازي. وتحدث ناشط فضل عدم الكشف عن هويته، إلى “القدس العربي” عن فرق الاغتيالات والاختطافات، فأكد أنها تتحرك في وضح النهار لتعتدي وتُعاقب الخارجين عن الصف، بالاعتماد على المدخليين (متشددون سلفيون من أنصار السعودي ربيع المدخلي) الذين باتوا يشكلون، مع جهاز “الأمن الداخلي” قبضة السلطة في بنغازي. وللتخلص من هذا الكابوس فضل كثير من المثقفين والنشطاء الهجرة إلى طرابلس أو مدن أخرى لديهم فيها أقرباء، أو إلى الخارج، إذ بات هؤلاء يهاجرون إلى تونس ومصر والمغرب ومالطا وباريس ولندن، مُعتبرين تلك الهجرة مؤقتة، إلى أن تنفرج الأوضاع في الداخل، وتصبح العودة للاستقرار في البلد مأمونة.

 

 

 

 

تعليقات