رشيد خشانة – تتلاحق المؤشرات الدالة على تغيير لافت في الموقف الأمريكي من الصراع في ليبيا. فبعدما بارك الرئيس دونالد ترامب الحملة العسكرية على طرابلس، في مكالمة هاتفية مع القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر، في أبريل /نيسان الماضي، رفعت واشنطن مؤخرا صوتها عاليا، منادية بوضع حد لتلك الحملة. وتشكل هذه الاستدارة انتصارا للخارجية الأمريكية التي اختلفت مع موقف البيت الأبيض من الأزمة الليبية. لكن من غير الأكيد أن يذهب البيت الأبيض بعيدا في هذا التغيير، بحسب بعض المراقبين. والأرجح أن العنصر الحاسم في هذه الاستدارة هو التغلغل المتسارع للنفوذ الروسي في الشرق الليبي، فكلما أردت معرفة الدوافع التي تُحرك سياسة ترامب، فتش عن الروس وأدوارهم الاقليمية. وآثار أقدام الروس على الرمال الليبية ظهرت بمناسبة عملية عسكرية، نفذها أخيرا جنود تابعون لقوات حكومة “الوفاق” في منطقة السبيعة بجنوب طرابلس، وعثروا خلالها على أغراض لمقاتلين روس.

شركة أمنية خاصة

وكانت ترددت منذ عامين أنباء عن وجود عسكريين روس يُقاتلون إلى جانب قوات اللواء حفتر، غير أن المصادر القريبة من الروس كانت تُهون من ذلك الحضور، وتؤكد أن دور هؤلاء العسكريين يقتصر على المساعدة في … نزع الألغام التي تركها عناصر “داعش” في مناطق الشرق الليبي! وكشفت الأغراض التي عُثر عليها في السبيعة أن الجنود الروس قد يكونون خدموا في سوريا، قبل مجيئهم إلى ليبيا. إلا أن آخر المعلومات أكدت أن مئتي مقاتل يتبعون شركة “فاغنر” الروسية الخاصة، وصلوا إلى ليبيا في أيلول/سبتمبر الماضي، واتجهوا إلى قاعدة الجفرة في وسط البلد، فيما أرسل بعضهم إلى جنوب طرابلس حيث تعرضوا للقصف، وتركوا بعض أغراضهم هناك.

بهذه الخلفية نفهم الدعوة التي وجهها القائم بأعمال السفارة الأمريكية لدى ليبيا جوشوا هاريس، إلى قوات الشرق بوضع نهاية لهجومها على طرابلس. أكثر من ذلك، عبر هاريس عن دعم الولايات المتحدة للمؤسسة الوطنية للنفط، التي تشكل العامود الفقري للاقتصاد الليبي (مقرُها في طرابلس) مؤكدا أنها “يجب أن تبقى مستقلة لتحقيق ولايتها الحيوية نيابة عن جميع الليبيين” ما يعني رفض الدعوات التي انطلقت من المنطقة الشرقية في هذا الشأن. ويبدو أنه بحث مع رئيس المؤسسة مصطفى صنع الله إقامة حوار اقتصادي الشهر المقبل، يشارك فيه ممثلون من جميع المناطق الليبية للبحث في تعزيز الشفافية والمساءلة في المؤسسات الاقتصادية، وخاصة الطاقية.

نقطة تحوّل في الدور الأمريكي

بتعبير آخر، قد يشكل الكشف عن تعاظم الدعم الروسي للواء حفتر، نقطة تحوّل في الدور الذي تلعبه أمريكا في ليبيا، والذي اتسم بالمراقبة عن بعد، منذ مقتل السفير الأمريكي الأسبق كريستوفر ستيفنس في المجمع الديبلوماسي بمدينة بنغازي العام 2012.

ومن الدلائل على أن الموقف الأمريكي بدأ يتغير استقبال واشنطن وفدا من حكومة “الوفاق” ذا طابع أمني، ضم كلا من وزير الداخلية فتحي باشاغا ووزير الخارجية طاهر سيالة. وأصدرت الخارجية الأمريكية في أعقاب الزيارة بيانا أعربت فيه عن تمسكها بسيادة ليبيا وحرمة أراضيها، في وجه ما أسمته “المحاولات الروسية لاستثمار الصراع (الحالي) ضد إرادة الشعب الليبي”. ويمكن القول أيضا إن إطلاق ما سُمي بـ”الحوار الأمني” بين أمريكا وحكومة “الوفاق”، يشكل مؤشرا آخر على تعديل الموقف الأمريكي من الصراع في ليبيا، إذ كشف المكتب الاعلامي للخارجية الأمريكية أن الاجتماع مع الوزيرين باشاغا وسيالة، ضم من الجانب الأمريكي مسئولين في وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووزارة الأمن الداخلي ومجلس الأمن القومي والوكالة الأمريكية للتنمية وهيئة الأركان المشتركة، وكان الاجتماع منطلقا لـ”حوار أمني” بين الطرفين.

وأفادت مصادر أمريكية أن الوفد الرسمي الليبي اجتمع أيضا مع مسؤولين في وزارة الخزانة الأمريكية، وتناول اللقاء تعزيز التعاون في مجال مكافحة غسل الأموال وتجفيف منابع تمويل الإرهاب، والتدابير المتعلقة بمكافحة الجرائم الاقتصادية.

موقف جديد؟

تبدو هنا المفارقة بين الموقف السابق، الذي عبر عنه الرئيس ترامب خلال المكالمة الهاتفية التي كان أجراها في أبريل/ نيسان الماضي مع اللواء حفتر، معتبرا أنه “يلعب دورا مُعتبرا في مكافحة الإرهاب وتأمين مصادر النفط في ليبيا”، والموقف الجديد الذي طالبه، على لسان الخارجية، بسحب قواته من تخوم طرابلس، ما شجع باشاغا على التأكيد خلال اجتماعات واشنطن، على أن وقف إطلاق النار لا يمكن أن يتم إلا بعد عودة قوات الشرق من حيث أتت.

والظاهر أن واشنطن منزعجة من نشاط شركة “فاغنر” الروسية في ليبيا، فعلى الرغم من الموقف الرسمي الروسي الداعم لحكومة “الوفاق” ظهر اللواء خليفة حفتر، قبل حوالى عام، في لقاء له مع مسؤولين مقربين من هذه الشركة في روسيا، عندما زار موسكو للاجتماع مع وزير الدفاع سيرغي شويغو، ومسؤولين عسكريين آخرين. وحضر الاجتماع أيضاً رجل الأعمال الروسي المقرب من “فاغنر”، يفغيني بريجوزين. لكن اللافت أن بريجوزين ظهر في تسجيلات للاجتماع نشرها الإعلام المقرب من اللواء حفتر، في حين لم يرد اسمه في قائمة الحضور التي بثتها وزارة الدفاع الروسية.

عين أمريكا على الجنوب

الثابت أن عين أمريكا على الجنوب الليبي، المُطل على منطقة الساحل والصحراء، بوصفه ميدان المعركة المقبلة ضد التنظيمات التي تُصنفها واشنطن في خانة الارهاب. وهي ما انفكت تنفذ ضربات جراحية، مُستهدفة بعض معاقل تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، وإن تراجع عددُ تلك الضربات الجوية من 500 غارة في العام 2016 إلى ست غارات في العام 2018، بحسب موقع “أرمي نيوز” الأمريكي. وأفاد مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية في تصريحات للموقع نفسه أن الغارات التي نفذتها قوات “أفريكوم” (القيادة العسكرية الأمريكية في افريقيا) استهدفت معسكرات يُرجح أنها تابعة لتنظيم “داعش”. وقد أسفرت عن مقتل نحو ثلث عناصر التنظيم في الجنوب الليبي. وكرر وزير الدفاع الأمريكي مارك ايسبر مرات عدة أن واشنطن تولي أهمية كبيرة “لمكافحة الارهاب في ليبيا” بحسب تصريحات أدلى بها، وأكد فيها أن أمريكا ستتابع عملياتها لمحاصرة تمدُد “تنظيم الدولة” في المنطقة.

ويعتقد الأمريكيون أن ليبيا مهددة من الجنوب، بعدما فرطت منطقة الساحل من يد فرنسا، وهو ما أكده العدد الكبير من الجنود الافارقة، الذين قتلوا في الأيام الأخيرة على أيدي جماعات إرهابية في دول جنوب الصحراء، حيث ترابط قوات فرنسية منذ 2015 في إطار عملية “برخان”. وتقود فرنسا “مجموعة الخمسة”، وهو حلف عسكري بين خمسة بلدان صحراوية تتعرض لهجمات متكررة من تنظيمات يشكل أغلبُها فروعا من تنظيمي “القاعدة” و”داعش”.

مخاطر إرهابية

في السياق يُحذر كثير من المراقبين من تزايد المخاطر الارهابية في بلدان مجاورة، في الفترة المقبلة، وخاصة بوركينا فاسو والنيجر وتشاد. ولم تُفد خطة “الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل” التي أطلقتها باريس لمناسبة قمة البلدان الصناعية السبعة الأخيرة، في مدينة بياريتز، في احتواء الخطر الارهابي، أو في الأقل الحد من تمدُده في المنطقة.

وحسب خبراء عسكريين، لا يمكن لـ”مجموعة الخمسة” ولا للجنود الفرنسيين، الذين يصل عددهم إلى 5000 رجل، أن يقضوا على الجماعات المسلحة سريعة التحرك في المناطق الصحراوية، والتي أثبتت مرونة تكتيكية وقدرة كبيرة على تجديد قواها البشرية والعسكرية. ويتركز مجال عمل تلك الجماعات على المثلث الرابط بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو. وقد تحركت أخيرا نحو الجنوب، أي صوب التوغو وبنين، وهي منطقة لا تدخل في دائرة عمليات “مجموعة الخمسة”. يُضاف إلى ذلك مسعى الاتحاد الأوروبي في بروكسيل، الذي يعمل بكل جهده لنقل الملف إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا، لكن لا يمكن إثبات الجدوى من هكذا قرار، إذا ما وافق عليه الاتحاد.

ومع اتجاه الحرب في سوريا نحو نهايتها، يُرجح خبراء أن ينتقل قسم من مقاتلي الجماعات المقاتلة من الشام إلى الصحراء الليبية، حيث لا توجد دولة ولا يقدر أحد على السيطرة على مساحات شاسعة. ومن الواضح أن الحديث عن هذا السيناريو يزعج الأوروبيين والأمريكيين على السواء، بالنظر للمصالح النفطية الكبرى للبلدان المتداخلة في الملف الليبي، إذ تستورد إيطاليا نحو ثلث صادرات ليبيا من النفط الخام، وتصل حصة ألمانيا إلى 14 في المئة، فيما تتساوى حصتا فرنسا واسبانيا في مستوى 10 في المئة.

خصومات في مجلس الأمن

من هنا بدأ أعضاء مجلس الأمن، الذين كانوا متخاصمين على الموقف من الهجوم العسكري على طرابلس، يُطلقون صيحات للتعجيل بإيجاد مخرج سياسي من الأزمة، خوفا من تمدُد التنظيمات المسلحة وعصابات التهريب. وهذا يفترض عقد تفاهمات بين أطراف الصراع، في إطار مجلس الأمن، بحثا عن توافق يسمح بإدانة الهجوم العسكري على طرابلس، وهو ما فعلته أمريكا، ومازال آخرون لم يُقدموا عليه بعدُ. كما يفترض أيضا أن يكون موقف الأمين العام للأمم المتحدة قويا بما يكفي للدفع في اتجاه تبني قرار حاسم في الملف الليبي. غير أن الأخبار الآتية من برلين لا تبشر بتقدم جوهري في هذا المسار، نظرا للعلاقات المعقدة بين أعضاء مجلس الأمن، إذ يميل الألمان إلى إرجاء المؤتمر الدولي حول ليبيا إلى مطلع العام المقبل.

في السياق أوضح مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة أن النقاشات الحالية بين أعضاء المجلس، تتمحور حول ست سلال، هي البحث في طرق العودة إلى العملية السياسية، وشروط وقف إطلاق النار، ووضع آلية لتنفيذ قرار مجلس الأمن، لمنع تدفق السلاح إلى ليبيا، وإقرار حزمة من الإصلاحات النقدية لإعادة إنعاش العملية الاقتصادية، والترتيبات الأمنية المبكرة في طرابلس وضواحيها. أما السلة السادسة فتتعلق بتطبيق القانون الإنساني الدولي. وكشف سلامة شراكة يعمل عليها مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، في إطار عدة اجتماعات تحضيرية، وخاصة مع الدول الكبرى، فهل ينفع هذا الأسلوب في حلحلة الأزمة، حيث أخفق أربعة مبعوثين أمميين سابقين إلى ليبيا.

تعليقات