رشيد خشانة – إنها الحرب من جديد. حربٌ ضارية انطلقت من التخوم الجنوبية للعاصمة طرابلس، وهي تهدد بحرق ليبيا. فبعد أسبوعين من اجتماع قائد قوات الشرق اللواء خليفة حفتر مع مسؤولين من وزارة الخارجية الأمريكية، شنت قواته هجوما غير مسبوق على طرابلس ومصراتة، وصفه بـ”المعركة الحاسمة” للسيطرة على العاصمة. وكان حفتر تلقى في أبريل/ نيسان الماضي مكالمة هاتفية من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد أيام من إطلاق حملته العسكرية على طرابلس، ما اعتُبر تشجيعا أمريكيا على المضي في الحملة. غير أن البيان الصادر في أعقاب اجتماع الوفد الأمريكي الأخير مع حفتر، أشار إلى أن واشنطن تسعى للضغط عليه من أجل وقف هجومه العسكري على طرابلس، التي تسيطر عليها حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها دوليا. وبحث حفتر مع الوفد الأمريكي، الذي قادته نائبة مستشار الأمن القومي فيكتوريا كوتس، “الخطوات اللازمة لوقف أعمال العنف والقتال في ليبيا، وإيجاد حل سياسي للصراع هناك”. لذا من المُستبعد أن يكون حفتر أطلق هجومه الجديد على طرابلس بتشجيع، أو حتى بمجرد دعم من واشنطن.

مخاوف من الروس

أكثر من ذلك، أكد البيان الصادر آنذاك في واشنطن، أن “المسؤولين الأمريكيين أكدوا (لحفتر) دعم بلادهم الكامل لسيادة ليبيا وسلامة أراضيها، كما أعربوا عن مخاوفهم من استغلال روسيا الصراع في ليبيا على حساب الشعب الليبي”. ولم تُظهر واشنطن أي قلق من الدعم الكبير الذي يحظى به حفتر من السعودية ومصر والإمارات، وهي الدول التي أعلنت تقديرها لعدائه لجماعات الاسلام السياسي. وأتى الهجوم بعد ساعات من استئناف الرحلات الجوية المدنية في طرابلس من مطار معيتيقة وإليه، بعد توقف استمر ثلاثة أشهر، ما اضطر المسافرين إلى استخدام مطار مصراتة، التي تبعد 200 كلم عن طرابلس.

وكانت قوات حفتر اجتاحت التخوم الجنوبية للعاصمة على مدى شهرين، قبل أن تسقط قاعدتها المتقدمة في مدينة غريان (80 كلم جنوب طرابلس) بأيدي القوات الموالية لحكومة “الوفاق الوطني” في يونيو/ حزيران الماضي. ولم تستطع قوات حفتر التقدم في اتجاه وسط العاصمة بسبب كثافة السكان في الأحياء المستهدفة، من جهة، وتوازن القوى بين الفريقين المتحاربين من جهة ثانية. ويُرجحُ أن يعتمد حفتر في هجومه الحالي على الطيران المسير، الذي أظهر نجاعة كبيرة في الفترة الماضية، بالاضافة إلى طائرات “سوخوي” التي قصفت مصراتة وعدة محاور في جنوب طرابلس.

ولا يُعرف موقف الأمم المتحدة من الهجوم الجديد، الذي من شأنه أن يُقوض الجهود التي تبذلها بُغية بناء تفاهم دولي، بمساعدة ألمانية، يكون منطلقا للتقريب بين المتخاصمين، واستطرادا إيجاد أرضية مشتركة للحل السياسي. كما تلعب الأمم المتحدة دور الوسيط، من أجل وضع حد للخلافات الدولية، التي تؤثر بشكل بارز في زعزعة الاستقرار في ليبيا، إذ تمنح كل دولة من القوى العظمى دعما ماديا وسياسيا للفريق المتحالف معها.

سباق بين الألمان وحفتر

في هذه الأجواء السخنة، يُحاول الألمان استحثاث الخطى نحو مؤتمر السلام في ليبيا، فيما تتفاقم التناقضات بين روسيا والدول الأوروبية، وبين الدول الأوروبية نفسها. وفي خط مواز سعى الايطاليون إلى تجميع عدد من ممثلي الدول المتداخلة في الملف الليبي، الخميس الماضي في روما، بحجة إيصال أصوات بلدان الجوار المتضررة من الحرب في ليبيا، مباشرة أو مداورة، إلى الذين سيجتمعون في مؤتمر برلين. وقصر الايطاليون المشاركة في المؤتمر على بلدان الجوار ولم يُشركوا الليبيين ولا الدول الأوروبية المنافسة، وهي أساسا فرنسا وبريطانيا وألمانيا.

في تلك الأثناء كانت فرنسا تتخبط في مجابهة تداعيات حضورها العسكري في منطقة الساحل والصحراء، إذ استدعى رئيسها إيمانويل ماكرون رؤساء كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا إلى اجتماع قمة غدا الاثنين في غرب فرنسا، مثلما يستدعي موظفيه في قصر الإيليزي. وكان الهدف من الاجتماع هو معرفة مواقف تلك البلدان من الحضور العسكري الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء، الذي يثير موجات غضب متزايدة لدى الرأي العام في تلك البلدان. ومما عقد هذا الملف الصراعات الداخلية الفرنسية في شأن استمرار التدخل العسكري في الساحل والصحراء من عدمه، إذ تطالب شخصيات سياسية بارزة بحقن دماء العسكريين الفرنسيين، المشاركين في عملية “برخان”، بإعادتهم فورا إلى بلدهم.

شكوك كثيرة

ويُقدر عدد قوة “برخان” بـ4500 رجل قُتل منهم أخيرا 26 جنديا في حادثة تصادم مروحيتين فرنسيتين، بحسب الرواية الفرنسية، التي تحوم حولها شكوك كثيرة. وهي امتداد لعملية “سرفال” (2013) التي لم تُحقق الأهداف المأمولة منها. ويذهب محللون إلى تأكيد تحوُل فرنسا إلى هدف لخطاب وطني راديكالي، يدار في إطاره التنافس الروسي والصيني، وحتى التركي، مع الدول الأوروبية، فبعد الترحيب بالجنود الفرنسيين في مالي ضمن عملية “سرفال 2013″، بات هؤلاء يعتبرون اليوم بمثابة غزاة جددا.

في المقابل بدأت روسيا تحصد ثمار القمة الأولى الروسية الأفريقية، التي عقدت في سوتشي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، من خلال تعزيز حضورها في بلدان عدة من بينها ليبيا ومالي وموزمبيق ومدغشقر والسودان، تحت ذريعة “المعركة ضد الإرهاب”. غير أن موسكو تنكر أية صلة لها بالشركة الأمنية الروسية الخاصة “فاغنر”، التي شوهد مستشاروها إلى جانب مقاتلي اللواء حفتر.

ويمكن القول إن حجم الأسلحة التي تدفقت على طرفي الصراع كان مؤشرا إلى التمهيد للهجوم الحالي، إذ أيقنت الأطراف الدولية من أن حفتر مُصرٌ على العودة إلى الحرب مجددا، وأن خصومه يستعدون بدورهم للتصدي لذاك الهجوم. وكشف النقاب عن هذا السباق المحموم تقريرٌ أممي غير مخصص للنشر، تم تسريبه في الآونة الأخيرة، وأظهر أن كلا من الإمارات وتركيا والأردن انتهكت حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا منذ العام 2011. وذكر التقرير أن الأطراف المتقاتلة حصلت على أسلحة ومعدات عسكرية، بالاضافة لدعم فني، في انتهاك واضح لحظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا.

أسلحة متدفقة

وأكد التقرير الذي أعده خبراء من الأمم المتحدة، وشمل فترة عام كامل، أن الأردن متهم بتدريب القوات الموالية لقائد المنطقة الشرقية خليفة حفتر، فيما
يُعتقد أن الإمارات استخدمت طائرات قاذفة لمساندة قواته. وأمدت تركيا من جانبها حكومة رئيس الوزراء فايز السراج، بتجهيزات عسكرية مختلفة، وخاصة منها العربات المدرعة والطائرات بلا طيار. من هنا يمكن القول إن حفتر اتخذ قرار العودة إلى الهجوم على طرابلس منذ فترة ليست بالقصيرة، وأن الاستعداد للهجوم كان مرتبطا بمدى تقدم الاجتماعات التمهيدية لمؤتمر برلين، إذ كلما قطعت المشاورات شوطا جديدا إلا واقترب ميقات الهجوم العسكري لتقويض مساعي الحل السلمي. ومن المهم التذكير هنا بأن حفتر أطلق هجومه على طرابلس في الرابع من أبريل/ نيسان الماضي، عندما أحرزت الأمم المتحدة تقدما كبيرا، تمهيدا لعقد مؤتمر المصالحة، الذي كان مُقررا أن يتم في مدينة غدامس الليبية، فأحبط تلك الجهود كافة، وانزلقت ليبيا إلى حرب جديدة. بهذا المعنى أتى الهجوم الحالي لقطع الطريق على أي حل سياسي، يمكن أن ينبثق من مؤتمر برلين، ما سيُدخل المسألة الليبية مجددا في نفق لا تُعرف نهايته.

إغلاق المجال الجوي

وفي إطار الحملة العسكرية، شملت الغارات بالصواريخ والمدفعية عدة مناطق حول طرابلس، من بينها منطقتي الكريمية والساعدية، وصولاً إلى منطقة التوغار، ومنطقة صلاح الدين. لكن هذه المعلومات لم تُؤكد من جانب قيادة قوات الوفاق. وقد يؤدي اشتعال الحرب من جديد إلى إغلاق المجال الجوي، بعد يوم واحد من معاودة تسيير الرحلات من مطار معيتيقة وإليه.

وتوقع خبراء أن القوات المهاجمة ستعتمد أساسا على الغارات الجوية بواسطة طائرات مُسيرة وعلى القصف المدفعي والصاروخي. لكن من الصعب أن تتقدم قوات حفتر أكثر مما فعلت نحو وسط المدينة، لأن سكان التخوم (وأصولهم من مدن أخرى) تركوا بيوتهم منذ فترة، واستقروا مؤقتا عند أقربائهم، في مناطق آمنة نسبيا. أما إذا تقدمت القوات إلى أحياء داخل العاصمة مثل أبو سليم، فسيُقصف الطرابلسيون داخل بيوتهم، وتُوقع عمليات القصف أضرارا بشرية ومادية لا يمكن التكهن بحجمها. لذا يقول هؤلاء الخبراء إن أمام حفتر الخيار بين حلين، فإما تدمير أحياء آهلة بالسكان بواسطة المدافع، أو أن تنضم إليه قطاعات من قوات حكومة الوفاق لحسم المعركة لصالحه.

طرابلس ليست بنغازي

غير أن مصادر الوفاق تؤكد أنها تقوم باعتراض الهجومات البرية، فيما توحدت الجماعات المسلحة المؤيدة لحكومة الوفاق في العاصمة، تحت راية المؤسسات القيادية، لأن الوضع فرض عليها ذلك. ويجوز القول إن المعركة في طرابلس تختلف عن معارك بنغازي ودرنة ضد الجماعات المسلحة، فهناك كانت القوات التي يقاتلها حفتر مُصنفة إرهابية دوليا، أما في العاصمة فالكيانات المسلحة تعمل تحت إمرة حكومة معترف بها من الأمم المتحدة.

لكن ليست هناك ثقة في أن الدول الكبرى ستلتزم بوقف تسليح الفرقاء لأن المنافذ البحرية والجوية متاحة للطرفين، سواء بنغازي في الشرق أم طرابلس ومصراتة في الغرب. والأرجح أن حفتر يُعول كثيرا على وقوف روسيا سندا له من أجل السيطرة على طرابلس، لأن انتصاره يؤمن لها حضورا في ليبيا قريبا من دورها الحالي في سوريا، وربما أكثر بحكم الثروات التي تزخر بها ليبيا وموقعها المطل على جنوب المتوسط. وفي المقابل ستضع تركيا ثقلها العسكري إلى جانب حكومة الوفاق لمنعها من السقوط ورد الهجوم عنها. ويترتب على هذه المواجهة نزوح آلاف من سكان طرابلس، وهي أكبر المدن الليبية (حوالي 3 ملايين ساكن)، إلى مناطق أخرى، إلى جانب تدهور ظروف الحياة الاجتماعية في العاصمة على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي.

تعليقات