التفاهمات التركية ــ الروسية في الملفّ السوري لم تمنع تعهّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالإبقاء على نظام بشار الأسد، ولو إلى حين من الدهر ينتظر السياقات الملائمة؛ كما أنها لم تمنع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من اجتياح الأراضي السورية، قبل خوض عمليات “درع الفرات”، وتشكيل جيش محتسَب على “المعارضة” السورية ولكن بوصاية تركية وثيقة. ومَن يتذكّر واقعة إسقاط الطيران الحربي التركي طائرة روسية من طراز سوخوي ــ 24، وما أعقبها من تدهور شديد في العلاقات بين أنقرة وموسكو، ثمّ ما تلى الشدّ والجذب من اتصال وتوافق؛ لن يصعب عليه استبصار السيناريو ذاته، أي التوافق في قلب التصارع، بصدد الملفّ الليبي راهناً.
ذلك لأنّ بوتين، وليس بواسطة الجيش الروسي مباشرة، بل من حيث الابتداء عن طريق وحدات مرتزقة فاغنر، غير البعيدة البتة عن إدارة الكرملين؛ وجد مساحة وهامشاً وعدداً من الأحجار التي تتيح له الدخول إلى رقعة الشطرنج المعقدة التي تشهدها ليبيا. ولقد يسّر هذا الدخول أنّ خطط اللعب الأخرى الدولية والإقليمية ليست برسم الانتقال إلى مرحلة الخواتيم واختتام اللعبة، بقدر ما هي تتشابك وتتقاطع وتختمر، على دروب التسويات الشائكة الوعرة.
أردوغان، من جانبه، وسيراً على نهج إقليمي يتوخى تحويل تركيا إلى لاعب مقرِّر وحاسم أحياناً، وليس مجرّد مشارك فرعي أو محاصِص هامشي؛ اعتمد نهج توسيع مناطق التأثير في شمال سوريا وشمال العراق، أو عبر التوغل العسكري وحروب التطهير المصغرة ضدّ الكرد، أو رعاية بعض المنظمات الجهادية على نحو يجعلها ورقة تفاوض، أو (كما فعل مؤخراً) الإقدام على نقلة كبرى حاسمة، جيو ــ سياسية بامتياز، متوسطية من حيث الإجراء لكنها أطلسية من حيث النطاق، تمثلت في الاتفاق الأمني الستراتيجي مع حكومة الوفاق الليبية.
وقد يكون من الإنصاف التذكير بأنّ موسكو استبقت أنقرة في الدخول إلى رقعة الشطرنج الليبية، وذلك حين عقدت اتفاقاً عسكرياً مع نظام عبد الفتاح السيسي يتيح للطيران الحربي الروسي استخدام قاعدة جوية مصرية على المتوسط، تبعد 50 ميلاً فقط عن الأجواء الليبية. وإذْ يضع المرء في الاعتبار مقدار انخراط السيسي في دعم خليفة حفتر وما يُسمّى “الجيش الوطني الليبي”، ثمّ المصلحة الروسية في الوقوف إلى جانب حفتر من زاوية استئناف عقود النفط الماراثونية التي جرى توقيعها في سنة 2008 مع نظام معمر القذافي؛ فإنّ من المنتظر تضخّم التدخل العسكري الروسي في ليبيا، وانقلاب بيادق موسكو الراهنة، المتمثلة في مرتزقة فاغنر، إلى قلاع.
وضمن سيناريوهات مثل هذه، وفي ضوء غياب “المجتمع الدولي” شبه الكامل عن الفعل في أيّ من ملفات ليبيا المتفجرة، يُنتظر أن يتساوى حفتر مع فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني من حيث الخضوع للإرادات الخارجية الإقليمية والدولية؛ مع فارق “أخلاقي” على نحو ما، هو أنّ الأوّل عميل سابق في المخابرات المركزية الأمريكية، وهو اليوم الوكيل المعلن لجهات التدخل الخارجي ومفارز المرتزقة الآتين من كلّ حدب وصوب. هو، كذلك، جنرال على شاكلة دونكيشوتية وبالمعنى الأرذل للتشبيه، يخوض معارك طواحين الهواء منذ نيسان (أبريل) الماضي، وقصوى إنجازاته سفك دماء المدنيين بطائرات مسيّرة أو حربية غير ليبية.
الثاني، السرّاج، قدّم مؤخراً كاشفاً مأساوياً، ولكنه واقعي تماماً، حول معنى الاعتراف الدولي بحكومته، وحدود استيهام الشرعية على الأرض وفي الواقع الفعلي لتعاقداته مع الميليشيات المحلية؛ إذْ استنجد بخمسة أصدقاء (الجزائر وتركيا وإيطاليا وبريطانيا وأمريكا)، لا يجمع بين مصالحهم في ليبيا أيّ جامع وفاقي. لكنه، أغلب الظنّ، يدرك الأبعاد الأخرى لجدل امتناع بعض هؤلاء “الأصدقاء” عن مدّ يد العون، أو مسارعة بعضهم إليه، طبقاً لأجندات يصعب أن تكون ثنائية مع طرابلس؛ لأنها، ببساطة، لن تتخذ سمة التفعيل الميداني إلا إذا اقترنت بثنائيات أخرى، على غرار أنقرة/ موسكو في المقام الأول.
وإذا صحت الأمثولة السورية في ليبيا، فإنّ القليل من الزمن سوف ينقضي قبل افتضاح الخطط على رقعة شطرنج، بدأت وتبقى مضرجة بدماء الليبيين.