رشيد خشانة – اتخذت الأزمة السياسية في ليبيا انعطافا خطرا مع الدعوة التي وجهتها حكومة الوفاق إلى خمس دول، بُغية تفعيل اتفاقات التعاون الأمني معها، وهي أمريكا والجزائر وتركيا وبريطانيا وإيطاليا. غير أن الغاية من هذا الطلب هو إفساح المجال أمام تدخل عسكري تركي في ليبيا لدعم قوات الحكومة المعترف بها دوليا، لأن الدول الأربعة الأخرى لا ترغب في التدخل المباشر، وهي عبرت عن معارضتها للتدخل التركي. وأتى طلب السراج في أعقاب غارات جوية مكثفة على مدينتي مصراتة (200 كلم شرق طرابلس) وسرت (400 كلم شرق طرابلس)، واتساع رقعة الاشتباكات في تخوم العاصمة، وخاصة منطقة عين زارة و صلاح الدين و طريق المطار.

وأكدت أوساط القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر أن استهداف مصراتة سيستمر إلى مساء اليوم الأحد، وأن الغارات شملت أيضا مواقع لقوات الوفاق في محيط كتيبة الساعدي في منطقة بوهادي، جنوب مدينة سرت. وتجري الاشتباكات العنيفة باستخدام الأسلحة الثقيلة، في ظل اعتماد قوات حفتر على تفوقها الجوي، وكذلك على الطيران العامودي في مناطق عدة، من بينها عين زارة وخلة الفرجان جنوب العاصمة طرابلس. ويشكل إشعال لهيب الحرب مجددا مقدمة لمؤتمر برلين، في إطار محاولات الطرفين، أي حكومة الوفاق وقوات اللواء حفتر، فرض شروطه لدى الانتقال إلى التحاور مع الليبيين بعد المؤتمر، الذي لن يُدعوا للمشاركة فيه.

ويمكن القول إن الحالة الليبية تختلف عن أحوال عدة بلدان أخرى، تعيش صراعات أهلية مُماثلة لها، إذ يمتزج فيها السياسي بالاقتصادي، ويتداخل العسكري مع الاستراتيجي، والاقليمي مع الدولي، بعيدا عن أية اعتبارات أخلاقية. ومع التقدم نحو مؤتمر برلين المنويُ عقدُهُ في الشهر المقبل، يكشف كل طرف من الدول المتداخلة في الملف، عن أجنداته وخططه الرامية لتحصيل ما يعتبرُه نصيبه من الكعكة. وفي مقدم الطامعين بحصة من الثروة الليبية الروس، الذين دعموا القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر، بالسلاح والمستشارين، وأخيرا بالعناصر التابعة لشركة أمنية روسية خاصة. وأكد خبراء عسكريون أن مساعدة المرتزقة والمستشارين الروس أثمرت تحسينا واضحا في مستوى القدرات الحربية لقوات حفتر، وخاصة تدريب قوات النخبة على استخدام المدفعية وعمليات القنص. كما قام المستشارون الروس بتدريب قوات حفتر في بنغازي على حرب المدن، قبل إرسالها إلى جبهة الحرب في التخوم الجنوبية لطرابلس.

تغلغل روسي
وأثار التغلغل الروسي ردود أفعال قوية من البلدان الأوروبية وأمريكا، التي تريد أن تستأثر لوحدها بالثروات وعقود إعادة الإعمار. كما تحجَج الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أيضا بوجود مرتزقة روسيين، ليُبرر إرسال قوات تركية إلى ليبيا، بموجب مذكرتي تفاهم توصل لهما مع رئيس حكومة الوفاق فائز السراج في اسطنبول يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
والأرجح أن هذا الموضوع كان محور المكالمة التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره التركي إردوغان يوم 11 الجاري. ويعتقد بعض المحللين أن الملف الليبي ربما يدخل في الأيام المقبلة، في نطاق صفقة قد تُبرمها تركيا وروسيا، بخصوص إدلب وشمال شرق سوريا. كما يمكن أن يندرج في إطار صفقة مماثلة بين روسيا والامارات، اللتين تربطهما علاقات متينة بحفتر، وقد يمتد هذا التحالف، إلى مقايضة تؤمن دعما روسيا إماراتيا لمعاودة إضفاء الشرعية على نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

صفقات… صفقات

اللافت هنا أن موسكو أثبتت براعتها في الإمساك بطرفي الخيط الليبي، فهي تدعم حفتر دبلوماسيا وعسكريا من جهة، وتعقد في الوقت نفسه صفقات مع حكومة الوفاق، عبر العقود التي أبرمتها شركاتُها النفطية والغازية مع المؤسسة الوطنية للنفط (قطاع عام). وبموجب أحد العقود تعهدت شركة “تاتنافت” (Tatneft)، على سبيل المثال، بالتفتيش عن النفط في منطقة غدامس على امتداد شريط يقع بين المناطق التي يسيطر عليها حفتر، وتلك الخاضعة لنفوذ حكومة الوفاق. ويقول المحلل الاقتصادي أوليفيي دي سوزا إن هذا العقد يؤكد رغبة الروس بالمحافظة على العلاقات التي تربطهم بالطرفين المتصارعين، وهذا ضروري لأن أعمال التفتيش غير ممكنة من دون ضمانات واضحة من الجانبين.

وستقوم شركة “وينترشال”، المتفرعة عن مجموعة “غازبروم” الروسية، بالتفتيش عن النفط في منطقة سرت، التي تسيطر عليها حكومة “الوفاق”. وفي خط مواز عززت مجموعة النفط الفرنسية “توتال” موقعها في ليبيا بشرائها حصص مجموعة “ماراثون” البريطانية في حقل “الواحة” الليبي، والتي تقدر بأكثر من 16 في المئة، وهي من أكبر مناطق إنتاج النفط في ليبيا، وتخضع لإشراف حكومة “الوفاق” من خلال المؤسسة الوطنية للنفط.

من هنا يتأكد أن النفط والغاز هما مُحركا الصراع الدولي والاقليمي الدائر في ليبيا، التي تملك أكبر احتياط من النفط في أفريقيا، والتي يرتبط بها ما يُسمى بـ”الأمن الطاقي” للقارة الأوروبية، بنسبة مُعتبرة.

تهديدات جدية

انطلاقا من هذه الخلفية أبدى الروس استياءهم من مذكرتي التفاهم الأخيرتين بين ليبيا وتركيا، وخاصة من المذكرة الثانية، التي تُخول لأنقرة تأمين استخراج الغاز الصخري من شرق المتوسط. وتأخذ العواصم الغربية تهديدات إردوغان بإرسال قوات إلى ليبيا مأخذ الجد، إذ سبق أن وعد بدعم حكومة “الوفاق” بعد انطلاق الحملة العسكرية على طرابلس، في أبريل/ نيسان الماضي، ولم يلبث أن أرسل سفينة حربية إلى ميناء طرابلس وعلى متنها عشرات ناقلات الجنود المدرعة من طراز “كيربي 2”. ولم يسع الأتراك إلى إخفاء ذلك، بالرغم من أن مجلس الأمن يحظر إرسال السلاح إلى ليبيا منذ 2011. وبعد فترة وجيزة أرسلت تركيا إلى حكومة “الوفاق” طائرات بلا طيار من طراز “بيرقتار”.

وبحسب المحلل السياسي الروسي كيريل سيمينوف، ساهمت تلك الطائرات بشكل حاسم في استعادة مدينة غريان (80 كلم إلى الجنوب من طرابلس) الاستراتيجية من أيدي قوات حفتر في يونيو/ حزيران الماضي. ويُرجح بعض الخبراء أن ترسل أنقرة عناصر من شركات أمنية تركية خاصة، مثل شركة “سادات”، وليس من القوات النظامية، إلى طرابلس تلبية للدعوة الصادرة عن قوات “الوفاق”، من أجل تعزيز دفاعاتها، بينما قال وزير الخارجية الروسي سيرغاي لافروف إن مقاتلين سوريين من إدلب شوهدوا في جبهات القتال حول طرابلس. إلا أنه لم يُقدم براهين على ذلك، ولا أكدت مصادر أخرى صحة تلك المعلومات.

غطاء الشرعية

ويعتبر دعم حكومة “الوفاق” المعترف بها دوليا، أقل حرجا من دعم اللواء حفتر، الذي لا يملك شرعية دولية، بالرغم من أن عواصم عربية وأوروبية، فضلا عن موسكو وواشنطن، تعترف به وتقيم معه علاقات دائمة. ومنذ الشهر الماضي، تُكثف الدول المتداخلة في الأزمة الليبية من ضغوطها لحمل السراج على تجميد مذكرتي التفاهم مع تركيا، وهي المهمة التي زار من أجلها وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو طرابلس الأربعاء، فقد استأثر موضوع التحالف مع أنقرة بالقسم الأكبر من محادثاته مع السراج، إذ شكل هذا التطور ومازال يُشكل مصدر قلق مشترك بين روما وباريس وبرلين، بالرغم من اختلاف المواقف الثلاثة من الأزمة الليبية.

والثابت أن الضغوط ستستمر في المستقبل، إذ سيؤدي وفد أوروبي، يقوده الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، الإسباني جوزف بوريل، زيارة إلى طرابلس، لمحاولة إقناع حكومة “الوفاق” بتجميد الاتفاقين الأمنيين مع تركيا، انطلاقا من أنه “لا حل عسكريا للأزمة، ولا بد من العودة إلى المسار السياسي” على ما قال دي مايو في طرابلس. وقد كرر هذا الموقف في بنغازي، بعد اجتماعه مع حفتر. وتندرج هذه الحركة المكثفة في إطار الإعداد لمؤتمر برلين، إذ تسعى جميع الأطراف المعنية بالصراع في ليبيا، إلى تحسين مواقعها وتجميع أكثر ما يمكن من أوراق التفاوض بين أيديها.

استبعاد الجزائر وتونس

أكثر من ذلك، حاول منظمو المؤتمر استبعاد دولتين من دول الجوار من المشاركة وهما الجزائر وتونس، بالرغم من التماس الشديد بينهما وبين ليبيا، بالاضافة إلى استبعاد قطر، غير أن الموقف تغير بفعل الضغوط التي مورست على الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا. وفي السياق اتفق رئيس الوزراء الايطالي جيوزيبي كونتي والمستشارة الألمانية إنغيلا ميركل، أخيرا، خلال لقاء على هامش قمة أوروبية، على أن ضعف الموقف الأوروبي يُعزى بالأساس إلى تشتت المواقف الأوروبية من الأزمة في ليبيا وتنافسها الشديد.

ودعمت هذه الرؤية نائبة وزير الخارجية الايطالي مارينا سيريني، في كلمة ألقتها في اجتماع برلماني في روما الثلاثاء، مؤكدة أن “الانقسام الأوروبي شجع بلدانا أخرى على ملء الفراغ”. وحضت سيريني على تفادي تحويل ليبيا إلى محور صراع جيوستراتيجي بين لاعبين كُثر، بعضهم بعيد عن المنطقة. ويعتبر الايطاليون أنهم الأكثر أحقية بربط علاقات خاصة مع ليبيا، كونها المستعمرة التي سحبها منهم المنتصرون في الحرب العالمية الثانية. أما الأتراك فيحتجون بكون ليبيا ظلت ولاية عثمانية طيلة أكثر من أربعة قرون، وأنهم ذادوا عنها في وجه الاسبان، ثم في وجه الايطاليين الذين احتلوها في الأخير العام 1912.

حفتر إلى روما؟

وتأكيدا للدور المتنامي الذي تسعى روما للعبه على الساحة الليبية قررت تسمية مبعوث خاص الى ليبيا “من أجل إقامة علاقة سياسية، رفيعة المستوى ومتواصلة ومكثفة، مع جميع الاطراف الليبية”، بحسب ما أعلنه دي مايو، في أعقاب زيارته لكل من طرابلس وبنغازي. والظاهر أن الايطاليين الذين كانوا يُصنَفون حلفاء لحكومة الوفاق، باتوا حريصين على تعزيز العلاقات مع طرفي النزاع، إذ وجه دي مايو دعوة إلى حفتر لزيارة روما، وأعلن أن الزيارة ستتم “في غضون أسابيع من الآن”. وهذا ما أثار حفيظة حكومة الوفاق، التي علقت سلبا على هذا التعديل في السياسة الايطالية، واعتبرت أن هناك “رسائل مشوشة” تصل من روما، بالرغم من حرص حكومة الوفاق على “المحافظة على علاقات جيدة مع إيطاليا”. ويمكن القول إن اتفاقي التعاون الأمني بين السراج وإردوغان أغضبا الايطاليين، أكثر من الأوروبيين الآخرين، إذ اعتبروهما غير شرعيين وطالبوا حكومة الوفاق بتجميدهما. والجدير بالاشارة أن السفارة الايطالية في طرابلس هي السفارة الأوروبية الوحيدة التي مازالت مفتوحة، ما يؤكد الاهتمام الإيطالي بليبيا.

قصارى القول إن العنصر العسكري بات اليوم حاسما في الصراع المستمر منذ 2014 بين الإخوة الأعداء. وبالرغم من تأكيد الجميع على أن الحل في ليبيا لا يكون عسكريا، يبدو أن السلاح هو الذي ستكون له الكلمة الأخيرة هذه المرة، أو يدخل البلد في نفق حرب أهلية شاملة، إذا ما تعادلت القوى، تنتهي بالتقسيم.

 

 

 

تعليقات