رشيد خشانة – تضافرت ثلاث مبادرات أوروبية وافريقية ومغاربية لمحاولة إسكات المدافع في ليبيا، والتهيئة لحل سياسي، برعاية الأمم المتحدة. المبادرة الأولى أوروبية ترمي لتنقية الأجواء بين الدول الأربع الكبرى (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا) وإنهاء الخصومات والاتهامات المتبادلة، خاصة بين فرنسا وإيطاليا، بتسميم الأجواء وتموين الفرقاء الليبيين بالسلاح سراً وجهرا. والثانية افريقية تقودها “اللجنة رفيعة المستوى لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الافريقي حول ليبيا” برئاسة الرئيس الكونغولي دينيس ساسو نغيسو، الذي أرسل الدعوات إلى الرؤساء، لحضور قمة البلدان العشر الأعضاء في اللجنة، يوم 25 الجاري في برازافيل، لتوحيد الموقف الافريقي في شأن الأزمة الليبية. أما المبادرة الثالثة فهي مغاربية، وتقودها الجزائر، بعد غياب طويل عن الساحتين الإقليمية والدولية، أثناء مرض الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة.

عززت الأمم المتحدة هذه المبادرات برسالتين بعث بهما الممثل الخاص للأمين العام، رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، غسان سلامة، الجمعة، إلى كل من رئيسي مجلس النواب في طبرق ومجلس الدولة في طرابلس، داعياً إياهما “لإطلاق حوار سياسي، قبل نهاية الشهر الحالي، بالنظر إلى أن مفتاح الحل يوجد أساسًا بأيدي الليبيين أنفسهم” على ما قال. لكن المؤكد أن الموضوع فلت من أيدي الليبيين وأن المؤتمر المرتقب في برلين الشهر الجاري، هو الذي سيفرض الحل، بشرط حصول توافق أوروبي-أوروبي على تقاسم المصالح. على أن هذا الدور الأوروبي فقد الكثير من وزنه مع بروز روسيا وتركيا، كلاعبين جديدين في المشهد الليبي، وخاصة بعد قمة اردوغان-بوتين في اسطنبول الأربعاء الماضي. وكان لافتا أن وزراء الخارجية الأوروبيين، أكدوا في ختام اجتماعاتهم على فكرة بدت ردا على الروس والأتراك، إذ شددوا على “ضرورة مشاركة الاتحاد الأوروبي بقوة (في مسار التسوية) لتفادي خروج الأزمة الليبية عن السيطرة” فبدوا كما لو أنهم يرُدون على التشكيك في الدور الأوروبي.

تنسيق أوروبي-أمريكي

لا ريب بأن هذا المُتغير الأساسي، الذي كرسته قمة اردوغان-بوتين، هو ما دفع الأوروبيين إلى عقد اجتماع استثنائي في بروكسل الجمعة، وتنقل وزراء من فرنسا وإيطاليا وألمانيا إلى عواصم الجوار الليبي، لتفعيل الدور الأوروبي. والمُلاحظ أن الأوروبيين ربطوا أيضا مع أمريكا، من خلال الاتصالات التي أجراها الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو. وفي الطرف الآخر، اتفق بوتين واردوغان على تكليف وزراء الخارجية والدفاع بمتابعة الاتصالات، خلال الأيام المقبلة، مع كافة الأطراف لحشد الدعم لوقف إطلاق النار في ليبيا.

وقف إطلاق النار على المحك

بهذا المعنى سيضع مشروع وقف إطلاق النار، اعتبارا من اليوم الأحد، على المحك اتفاق بوتين-اردوغان يوم الأربعاء الماضي، الرامي لوقف الحرب في ليبيا. وبدا هذا الاتفاق صدى لاجتماعات البلدان الأوروبية الرئيسة الأربعة (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا) التي قالت إنها مُنهمكة من جانبها، في إعداد خريطة طريق جديدة، كي تحل محل اتفاق الصخيرات (2015) الذي انبثق منه المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج. وتؤكد مصادر ألمانية أن هذه الخريطة تفتح على انتخابات عامة واستفتاء على مشروع الدستور.

بتعبير آخر هناك حاليا قطبان متوازيان يعملان على قطف ثمار الحرب الدائرة بين الأشقاء الأعداء في ليبيا، الأول يمثله الرباعي الأوروبي، والثاني المحور التركي الروسي. لكن هناك أيضا صراعات داخل كل قطب، فالإيطاليون مُستاؤون من الفرنسيين، والأخيرون يُعرقلون المبادرات الإيطالية، ويتنافسون مع الألمان على قيادة أوروبا في الملف الليبي. أما في القطب المقابل، فنلحظ أن المُبرر الذي استند عليه الاتفاق العسكري بين اردوغان والسراج، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، هو الدخول المكثف لمرتزقة شركة “فاغنر” الروسية “الخاصة” إلى الميدان، تعزيزا لصفوف القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر. وعزا الأتراك إرسالهم الأسلحة والعتاد إلى حكومة الوفاق، إلى اختلال الميزان العسكري لغير صالحها، بعد الدعم الذي تلقاه حفتر من الإمارات ومصر، وخاصة بعد حصوله على طائرات مُسيرة متطورة، استخدم إحداها لقصف الكلية العسكرية في طرابلس، وهي الغارة التي أوقعت ثلاثين قتيلا.

وكان المبعوث الأممي سلامة أكد ظهور مجموعات من المرتزقة، الذين يدعمون طرفي الحرب، قائلا إن “مرتزقة من جنسيات متعددة، بمن فيهم الروس، يأتون لدعم قوات حفتر في طرابلس”. كما أن هناك أيضا تقارير تحدثت عن مجموعات ناطقة باللغة العربية، يُرجح أنها قدمت من سوريا، والتي يعتقد سلامة أنها منتشرة لدعم حكومة الوفاق “بالإضافة إلى وصول عدة طائرات من سوريا إلى مطار بنغازي” على ما قال، من دون أن يبين طبيعة ما أو من تنقله تلك الطائرات.

خطان متوازيان… يلتقيان!

على هذه الخلفية تبدو تركيا وروسيا على صراع، في خطين متوازيين ومتنافرين. لكن الظاهر أن اجتماع الأربعاء في اسطنبول كان إطارا لوضع نسخة ليبية من الاتفاق الروسي التركي في سوريا. وأساس الاتفاق يتمثل في مشروع ضخم للاستثمار المشترك للغاز الطبيعي، في شرق المتوسط، وإطلاق خط الأنابيب التركي “تورك ستريم” لنقل الغاز إلى تركيا وأوروبا. كما أن هذا التحالف سيكرس دورهما كصُناع ملوك في الأزمة الليبية.

والأرجح أن تُكرر الصفقة “نموذج أستانا” الذي طبقته تركيا وروسيا وإيران على التسوية في سوريا، بما يجعل موقعي روسيا وتركيا يتغيران من طرفين منحازين في النزاع، إلى وسيطين مقبولين من الفرقاء الليبيين، على نحو يُمكنهما من المساعدة على إيجاد حلول سياسية، قد يدفع عملية السلام في ليبيا إلى الأمام. ومن تداعيات التحالف الروسي التركي إحباط الاتفاق اليوناني الإسرائيلي القبرصي، الرامي لمد خط أنابيب تحت البحر، لنقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا بطول 1900 كلم، أو في الأقل، تعطيله.

في المقابل، سيساهم التفاهم الروسي التركي الجديد، معطوفا على مؤتمر برلين، في المزيد من تهميش دور الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن، الذي بدا عاجزا عن لجم اندفاع اللواء حفتر، منذ إطلاق حملته العسكرية على طرابلس في الرابع من نيسان/ابريل الماضي. ولعل تعثر قوات حفتر، ولجوئها إلى الغارات الجوية، سيجعلان الأتراك يتريثون في إرسال القوة العسكرية، التي أعلنوا أنها ستتوجه إلى ليبيا. وبدت التسريبات التي قامت بها مصادر عسكرية تركية أخيرا، مُندرجة في خانة الردع، وليس الاقتحام الفعلي للجبهات الليبية.

على أهبة الاستعداد؟

وكانت تلك المصادر التركية مرَرت لوسائل إعلام، أن أنقرة تعتزم إرسال قوة برية بحجم كتيبة، أي نحو 3000 عسكري، وقوة جوية قوامها ما بين 6 و8 طائرات من طراز إف 16 ونظام إنذار مبكر محمول جوا، يُعرف اختصارا بـ”الأواكس” إضافة إلى قوة بحرية مؤلفة من فرقاطة، واثنين أو ثلاثة زوارق حربية، وغواصة أو اثنتين. ولو دخلت هذه القوات إلى ساحات القتال في ليبيا لأنهت دور اللواء حفتر في زمن قياسي. وفي هذا المعنى ذكر نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي، أن جيش بلاده “على أهبة الاستعداد” لكنه أشار إلى أن طبيعة الانتشار وحجمه في ليبيا سيتحددان وفقا لـ”تطورات الميدان”. واكتفى الأتراك، حتى الآن، بإرسال عدد من المرتزقة السوريين، الموالين لهم، والذين قدرت مصادر سورية معارضة (المرصد السوري لحقوق الإنسان) عددهم بقرابة ألف مقاتل.

وعلى الرغم من اللغط الذي رافق وأعقب زيارة اردوغان الأخيرة إلى تونس، وتوقعات بعض المحللين أنه جاء ليطلب ممرًا لإدخال الأسلحة والجنود إلى ليبيا المجاورة، فقد اتضح أن تلك التخمينات لا تستند على الواقع الجغرافي، إذ تملك ليبيا ساحلا يمتد على ألفي كلم، كما أن تركيا سبق أن أرسلت عتادا وأسلحة عبر ميناءي طرابلس ومصراتة، وربما الخُمس، آخرها إرسال 55 مدرعة من طراز “كيربي” العام الماضي، عبر ميناء طرابلس. وفي هذا الإطار أوضحت مصادر الرئاسة التونسية، أن اردوغان لم يُقدم مثل هذا الطلب إلى نظيره التونسي قيس سعيد، ولا الأخير وافق عليه.

قلق دول الجوار

الثابت أن الأتراك أخذوا في الاعتبار أيضا القلق الشديد الذي عبرت عنه دول الجوار، وخاصة الجزائر، من تدخل قوى أجنبية في الصراع الليبي-الليبي. ولهذا السبب أوفد الرئيس التركي وزير الخارجية تشاوش أوغلو إلى العاصمة الجزائرية في مهمة لم يُكشف النقاب عن أهدافها، لكن المؤكد أنها تتعلق بالموقف التركي من الصراع الأهلي في ليبيا، والإعلان عن إرسال قوات إلى هناك، وهو أمر يرفضه الجزائريون بشكل قاطع، ليس فقط في ليبيا، وإنما في جميع البلدان. وسبق أن أكدوا في مناسبات عدة، أن “طرابلس خطً أحمرُ” بمعنى أن الجزائر لن تقبل باستيلاء قوات حفتر على العاصمة الليبية، فيُصبح جارا للجزائر على حدودها الشرقية الجنوبية.

ولهذا السبب نشطت الدبلوماسية الجزائرية بشكل غير مسبوق، في الأيام الأخيرة، حتى صارت نقطة محورية لأصحاب المبادرات الإقليمية والدولية. ومن أمارات عودة الحيوية إلى الدبلوماسية الجزائرية، بعدما أصيبت بالشلل، مع مرض الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، كثافة زيارات المسؤولين الدوليين إلى الجزائر، منذ انتخاب عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية. وكان لافتا أن المستشارة الألمانية إنغيلا ميركل وجهت دعوة رسمية للجزائر لحضور مؤتمر برلين، الذي يستضيفه الألمان خلال الشهر الجاري، والذي يشتغل على إعداد مُخرجاته عدد كبير من الخبراء الأوروبيين في شؤون المنطقة. وفي هذا الإطار أتت زيارة رئيس حكومة الوفاق فائز السراج إلى الجزائر الأربعاء، واجتماعه مع الرئيس تبون، الذي كرر الموقف الجزائري من الأزمة الليبية، المتمثل بـ”ضرورة التعجيل بإيجاد حل سياسي للصراع، والوقف الفوري لإطلاق النار، ووضع حد للتداخلات العسكرية الأجنبية”.

استعدادٌ للسيناريو الأسوأ

مع ذلك تشترك الجزائر وتونس في الاستعداد للسيناريو الأسوأ، وهو احتدام الحرب في طرابلس، مع جميع التداعيات المحتملة، وفي مقدمتها نزوح المدنيين الليبيين نحو الحدود المشتركة مع الجارين الأقربين تونس والجزائر، وكذلك مغادرة الأجانب العاملين في ليبيا للعودة إلى بلدانهم. وما زال السكان في المحافظات التونسية المتاخمة لليبيا، يتذكرون هذا السيناريو، الذي مرَ عليهم في 2011 وكلفهم استقبال مليون عامل أجنبي، في طريق العودة إلى بلدانهم. وفيما تمت تهيئة مخيم الشوشة في الجنوب لاستقبالهم، بالتعاون مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، قامت الأسر التونسية بإيواء النازحين الليبيين في بيوتها. ويُرجح خبراء أن يتكرر هذا السيناريو، إذا ما أقدم اللواء حفتر على اقتحام طرابلس بالقوة.

وتهيأ التونسيون في جانبهم لهذا الاحتمال، إذ تم رفع درجة التأهب إلى الحدود القصوى، في الشريط المحاذي لليبيا، والذي يقدر طوله بـ500 كلم. وأفاد وزير الداخلية التونسي هشام الفراتي، أن جميع الاحتياطات الأمنية والعسكرية اتخذت، على الحدود مع ليبيا، تحسبا لأي طارئ، مؤكدا أن “الوحدات الأمنية والعسكرية المختلفة، مرابطة بشكل دائم، على طول الشريطين البري والبحري، على الحدود الشرقية للبلاد، للقيام بكافة المهام الأمنية الضرورية”.

نازحون ولاجئون

وقلل الفراتي من التقديرات التي أعطاها المنسق الميداني لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والذي توقع تدفق ما بين 25 إلى 50 ألفا من الوافدين، على تونس (لاجئون ليبيون ومن جنسيات أخرى) مُعتبرا أن هذه التقديرات “مُبالغ فيها، إذ أن جميع المؤشرات الحالية، لا تفيد بقدوم هذا العدد الكبير من اللاجئين” على ما قال. يُذكر أن تونس أقامت نظام مراقبة الكتروني، بمساعدة من ألمانيا وأمريكا، على طول الحدود الجنوبية مع ليبيا، لمنع تسرُب إرهابيين إليها.

هذا على الصعيد المغاربي، أما على الصعيد الدولي، فإن المبادرة الافريقية لا تملك فرص نجاح، قياسا على الدور الأوروبي والدور التركي-الروسي الجديد في ليبيا، فمبادرات الاتحاد الافريقي، ارتبطت منذ اندلاع انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011 برؤساء كانوا يدورون في فلك الزعيم الراحل معمر القذافي، الذي كان “يمون عليهم”. ولذا أخفقت وساطتهم في 2011 لأن المعارضات الليبية اعتبرتهم فاقدي المصداقية. والأرجح أن قمة البلدان العشرة أعضاء “اللجنة رفيعة المستوى لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الافريقي حول ليبيا” المُقررة لأواخر الشهر الجاري في برازافيل، قد توحد المواقف الافريقية، لكنها لن تفتح أفقا لحل الأزمة الليبية، لأنها لا تملك وسائل الحل.

تعليقات