رشيد خشانة – في خطوة تكرس تدويل الصراع في ليبيا، يجتمع اليوم في برلين ممثلون عن الرباعي الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا) إلى جانب شركائهم/ منافسيهم الروس والأتراك والأمريكيين، لإيجاد صيغة سياسية لإنهاء الحرب في ليبيا، البلد الأغنى ثروات في شمال افريقيا. وتأتي هذه المحاولة الثالثة، بعد اجتماع باريس في أيار/مايو 2018 ومؤتمر باليرمو في إيطاليا في تشرين الثاني/نوفمبر من السنة نفسها، اللذين أخفقا بسبب رفض القائد العسكري للمنطقة الشرقية، اللواء خليفة حفتر، التوقيع على مخرجاتهما. وقبيل مؤتمر برلين رفض حفتر أيضا التوقيع في موسكو على اتفاق جديد لوقف إطلاق النار، أعده الروس والأتراك في إطار مبادرة مشتركة غير مسبوقة، وافقت عليها حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج.

وعلى الرغم من موافقة الأخير على وقف النار، اعتبارا من فجر الأحد الماضي، سجل المراقبون انتهاكات متكررة للقرار من جانب قوات حفتر. وقدر بعض الخبراء قرارات وقف إطلاق النار التي تم انتهاكها، منذ 2016 بخمسة عشر قرارا لم يصمد أي واحد منها. وأهم اتفاق توصلت له قمة بوتين اردوغان الأخيرة في اسطنبول تمثل بالعودة إلى مسار مؤتمر برلين، والإعراب عن الاستعداد “للمساهمة في نجاح هذه العملية، للمضي قدما في التسوية، مع اشتراط مشاركة “كل الأطراف الليبية والدول المعنية بالملف الليبي، في جهود حل الأزمة، وربط جيران ليبيا بها”.

قوتان متنافستان ومنسجمتان

في هذا المناخ الايجابي، يسعى الألمان إلى اعتماد مبادرة، تجمع قوتين متنافستين، لكنهما براغماتيتان، روسيا وتركيا اللتان تنظران إلى ليبيا، بوصفها منصة لإدارة مصالحهما في شرق المتوسط وشمال افريقيا وجنوب الساحل والصحراء. وظلت روسيا وتركيا مُنسحبتين من الساحة الليبية منذ 2011 في أعقاب تغيُر المشهد السياسي، بعد الإطاحة بأصدقائهما، وتوقف المشاريع الكبرى التي كانت تنفذها شركاتهما. وفي إطار عودتهما التدريجية يدعم كلٌ منهما فريقا ليبيا مختلفا عن الآخر، إذ تقف تركيا إلى جانب الحكومة المعترف بها دوليا، فيما تدعم روسيا اللواء حفتر، وإن عبر الشركة الأمنية الخاصة “فاغنر”. ويُعتبر إحجام حفتر عن التوقيع على اتفاق وقف النار في موسكو، بالرغم من محاولات وزير الدفاع الروسي إقناعه بذلك، إخفاقا تكتيكيا للروس، الذين جمعوا الغريمين في موسكو تمهيدا لمؤتمر برلين. واللافت أن المستشارة الألمانية حرصت على زيارة موسكو قبل أيام قليلة من عقد المؤتمر، لكي تتأكد من أن الموقف الروسي سيكون إيجابيا، خصوصا لجهة الضغط على حفتر.

هيكلة السلطة التنفيذية

والمبادرة الجديدة تعدُ امتدادا للعملية السابقة، التي رمت لإدخال تعديلات على وثيقة الاتفاق السياسي “الصخيرات” ومعاودة هيكلة السلطة التنفيذية، بما يُقلص من عدد أعضاء المجلس الرئاسي من تسعة حاليا إلى ثلاثة، ممثلين لأقاليم البلد التاريخية (طرابلس وبرقة وفزان). وسيعتمد مؤتمر برلين على “الورقة التنفيذية” التي سبق أن قدمها رئيس بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، غسان سلامة، إلى الاجتماع التحضيري الخامس لقمة برلين، الذي عقد في العاشر من كانون الأول/ديسمبر الماضي. وتضمنت الورقة ثلاثة مسارات تتعلق بالجانب السياسي والاقتصادي والعسكري. وأفيد أن من النقاط التي تثير جدلا في “الورقة التنفيذية” الفصل بين المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني، على نحو يجعل اختيار رئيس الوزراء، بعيدا عن المجلس الرئاسي، ومنفصلا عن تشكيل الفريق الحكومي.

وحسب البعثة الأممية ستشارك أربعون شخصية ليبية في المسار السياسي من بينها13 شخصية بالتساوي يرشحها مجلس النواب (بنغازي) والمجلس الأعلى للدولة (طرابلس) فيما ستختار البعثة الأممية من جانبها 14 شخصية أخرى “لسد النقص والثغرات وتحقيق التوازن في مسار الحوار” على ما قالت البعثة.

دوافع ألمانيا

تُسابق ألمانيا، بوصفها زعيمة الاتحاد الأوروبي، كلا من روسيا وتركيا في الملف الليبي مخافة تهميش الدور الأوروبي. وفقد هذا الدور الكثير من الصدقية والفعالية، بسبب الصراع المفتوح بين فرنسا وإيطاليا، في شأن من هو الأحق بإدارة الملف. وتطور الخلاف في وقت سابق إلى مناكفات علنية، كادت تتطور إلى أزمة سياسية، بين باريس وروما. وعرقل الفرنسيون والإيطاليون مبادرات بعضهما البعض، ما جعل العواصم الأوروبية، التي تقع ليبيا على مرمى حجر من شواطئها، عاجزة عن تحريك الملف.

ومن الميزات الأخرى التي تجعل فرص نجاح ألمانيا، أفضل من باقي أعضاء الرباعي الأوروبي، كونها لا ترتبط بماض استعماري في ليبيا، على عكس إيطاليا وفرنسا وبريطانيا. وسبَبت المناكفات الأوروبية – الأوروبية استغراب سياسيين أوروبيين، حذروا من تفاقم التداخلات الخارجية في ليبيا، بما فيها الأوروبية، أسوة بالنقد الشديد، الذي جاء على لسان رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق رومانو برودي، مُلاحظا أن “أوروبا التي ما زالت أكبر قوة اقتصادية في العالم، والتي تبعد خطوتين عن ليبيا، لا يسعها أن تفعل شيئا هناك”. واعتبر برودي، الذي كان أيضا رئيسا للمفوضية الأوروبية أن “من العبث أن نشهد تحديا تركيا روسيا في ليبيا” مشددا على ضرورة التوافق بين فرنسا وإيطاليا “لكي تتبعهما سائر الدول الأوروبية، ويكون لدينا رأيٌ في الموضوع”.

آفاق جيوستراتيجية

لكن من الصعب أن تُسابق المحاولات الألمانية لرأب الصدع في البيت الأوروبي، المبادرة التركية الروسية، التي تفتح على آفاق جيوستراتيجية، تلتقي عندها مصالحهما في المنطقة. وفي مقدمة تلك الأهداف تعطيل الاتفاق الذي توصلت له اليونان وقبرص واسرائيل لمد أنبوب “إيست ميد” (شرق المتوسط) لنقل الغاز إلى شمال اليونان، بطول 1700 كلم، والذي يمكن توصيله إلى إيطاليا. وتُقدر كلفة إنجازه بـ7 مليارات دولار، وهو قادر على تأمين 15 في المئة من حاجات أوروبا السنوية من الغاز. وسيتعطل الشروع في إقامته بعد الاتفاق الذي توصل له الرئيس التركي اردوغان ورئيس الحكومة الليبية السراج في تشرين الثاني/نوفمبر لتوسعة الجرف القاري الليبي بما يسمح باستثمار مزيد من احتياطات الغاز المؤكدة في المنطقة. وأثبتت أعمال التفتيش، وجود كميات كبيرة من الغاز في السواحل الليبية (طولها 2000 كلم). وتملك ليبيا أكبر احتياطات من النفط في افريقيا، تُقدر بـ41 مليار برميل، وبذلك تتبوأ المركز التاسع في العالم على هذا الصعيد. إلى ذلك تشير المواقف الروسية والتركية، إلى أن ليبيا يمكن أن تشكل في المستقبل، رأس جسر لهما إلى شرق المتوسط وشمال افريقيا، في إطار الاهتمام المتزايد للقوتين بالقارة الافريقية، على ما يتوقع الخبير الفرنسي الروسي إيغور ديلانوي.

من منافس إلى شريك

ومن أهداف روسيا، حسب الباحث جلال حرشاوي، الحيلولة دون أن تصبح ليبيا منافسا لها في أسواق النفط الأوروبية، وهي تسعى لجعل الليبيين شركاء لا منافسين. وفي هذا الإطار وقعت المجموعة النفطية الروسية “روزناف” (قطاع عام) اتفاقا مبدئيا مع “المؤسسة الوطنية للنفط” الليبية منذ 2017 ولم يتم تفعيله إلى اليوم. كما أن تركيا تسعى أيضا إلى الاعتماد مستقبلا على النفط الليبي، كي تتحرر من لجوئها للنفط الروسي.

وإذا ما صعد الدخان الأبيض من مؤتمر برلين، ووُضع الملف على سكة الحل، سنُبصر سباقا شديدا على ليبيا لتحصيل عقود جديدة وتفعيل العقود المجمدة منذ إسقاط حكم الزعيم الراحل معمر القذافي في 2011. ويُقدر الأتراك القيمة الاجمالية للعقود التي توقفت بسبب الحرب بـ18 مليار دولار، وهي تخص أساسا مشاريع البنية التحتية والإسكان، التي أطلقتها حكومات القذافي، خلال السنوات الأولى من الألفية الحالية. ويسود المنطق نفسه لدى الروس، الذين حصدوا مشاريع كبرى في ظل النظام السابق، ليس فقط في مجالي المطارات والطرقات والاسكان، وإنما أيضا في المجال العسكري. وكان القذافي وقع على عقود تسليح في الفترة 2007-2008 يُقدرها الخبراء بما بين 5 و10 مليارات دولار.

على الطرف الآخر نلحظ أن واشنطن ما زالت تنأى بنفسها عن الرمال الليبية المتحركة، منذ 2012 وهي لم تتدخل إلا نادرا، وبشكل متناقض، مثل المكالمة التي أجراها الرئيس ترامب مع اللواء حفتر في أعقاب إطلاق حملته العسكرية على طرابلس، والتي اعتُبرت ضوءا أخضر للعملية، وموقفه الأخير الرافض لقصف المدنيين.

ضوء أحمر

ماذا عن موقف الغريمين السراج وحفتر؟ ذهبت حكومة السراج إلى برلين وهي في وضع غير مريح عسكريا، بسبب الحصار الذي تضربه قوات حفتر على التخوم الجنوبية للعاصمة، والأسلحة المتطورة التي حصلت عليها أخيرا، وأتاحت لها تحقيق السيطرة الجوية، ما ألحق خسائر بشرية بقوات “الوفاق”. كما فتح حفتر جبهة جديدة في سرت للتدليل على أن في جعبته أوراقا أخرى لم يُخرجها بعدُ. غير أن إصابات المدنيين وارتفاع الخسائر البشرية جعلا بعض العواصم المؤثرة، ومنها واشنطن، تضغط على الزر الأحمر مُحذرة حفتر، ما سيجعل هامش الرفض لديه أضيق من ذي قبل، خصوصا بعد تهديد اردوغان بـ”تلقينه الدرس الذي يستحق” وهو ما عزز مخاوف المشاركين الآخرين في مؤتمر برلين، من اندلاع حريق أكبر. وعلى الصعيد العسكري لم تستطع قواته تحقيق اختراق ذي بال في المناطق المحيطة بطرابلس، بل خسر الجناح الغربي للمعركة، الممتد من قاعدة الوطية الجوية (170 كلم جنوب غرب طرابلس) إلى مدينة صرمان (60 كلم غرب طرابلس) بعدما فقد قبل ذلك غريان، التي كانت رأس جسر الحملة العسكرية على طرابلس. بهذا المعنى، يُعتبر توقيت مؤتمر برلين غير ملائم بالمرة للواء حفتر، الذي كان يتمنى تحقيق نصر عسكري نوعي، قبل الدخول إلى قاعة الاجتماعات في برلين.

لوبيات أمريكية

اعتمد حفتر على مجموعات ضغط في الولايات المتحدة لتليين الموقف الأمريكي نحوه، وفي هذا الإطار أرسل وفدا من أعضاء مجلس النواب (مقره المؤقت في طبرق-شرق) الموالين له إلى واشنطن، واجتمعوا مع موظفين سامين في وزارتي الخارجية والطاقة ومجلس الأمن القومي. غير أن اللقاءات لم تُغير من موقف واشنطن، الداعي إلى وقف الهجوم على طرابلس. واجتمع حفتر نفسه، بعد ذلك وتحديدا في تشرين الثاني/نوفمبر في إحدى عواصم المنطقة يُرجح أن تكون عمَان أو أبو ظبي، مع مسؤولين أمريكيين بينهم مساعدة مستشار الأمن القومي فكتوريا كويتس والسفير لدى ليبيا رتشارد نورلاند والقائد المساعد للقيادة الأمريكية في افريقيا (أفريكوم) الجنرال ستيفن دي مليانو. وطلب منه الأمريكيون وقف الهجوم على طرابلس، طبقا لما أفادوا به بعد الاجتماع. وعلق وزير الطاقة الأمريكي على فحوى ذلك الاجتماع، بتدوينة على حسابه في شبكة “تويتر” قال فيها “يحسُن بالليبيين أن يُركزوا جهودهم على مقاومة المساعي الروسية لوضع اليد على مصادر الطاقة في بلدهم”. واستعانت مجموعة الضغط المؤيدة لحفتر بشخصيات فكرية وبحثية يمينية متعاطفة معه، من بينها وليد فارس مستشار السياسة الخارجية في حملة ترامب الرئاسية، وروجت لفكرة أن الأخير يقاتل عصابات متشددة، يقودها إسلاميون متطرفون في طرابلس. واعتمدت جماعة السراج بدورها على لوبيات أمريكية لتلميع الصورة، بيد أن الإدارة الأمريكية كانت أكثر إنصاتا لها، منها إلى مؤيدي حفتر.

وأفادت آخر الأخبار الآتية من ليبيا، ومع تكثيف الاستعدادات لانطلاق مؤتمر برلين، أن اللواء حفتر أشرف بنفسه، على نشر وحدات إضافية، في جنوب طرابلس “تمهيدا لبدء الهجوم النهائي عليها”. ومع أن هذا التهديد مُكرَرٌ، فإن معاودة القتال بشكل واسع، سيضعه في مواجهة مع غالبية المشاركين في مؤتمر برلين، ويُحرج حتى حلفاءه.

تعليقات